من اجل تجديد وانطلاقة لمشروعنا الثقافي!!
تاريخ النشر: 08/05/21 | 12:24نبيل عودة
*المجتمعات التي تفتقد للحياة والنشاط الثقافي والفني، من السهل هزيمتها وعزلها عن محيطها الطبيعي* آمل ان المركز الثقافي الجديد الذي سيفتتح قريبا في الناصرة، القوة الدافعة لاستعادة الحياة الثقافية والفنية النشيطة*
تابعتُ الحركة الثقافية من إبداع أدبي ومسرحي وفني في البلاد منذ بداية وعيي.. ونشرت تقارير صحفية، مقابلات ومراجعات نقدية للنشاط المسرحي والموسيقي والغنائي خلال فترة طويلة جدا بدأت مع بداية العام (1964). أقول بأسف شديد اليوم، وانا استعرض في ذاكرتي تلك الأيام التي امتلأت بزخم واسع من النشاطات الثقافية والفنية، اكاد أنكر واقعنا شبه المشلول ثقافيا وفنيا.
إن عدم وجود مؤسسات عربية محلية قادرة على استيعاب الدور الحضاري المؤثر للحركة الثقافية وسائر الفنون الثقافية والفنية، أسفر عن ضياع جهود الطلائعيين الذين قدموا تضحيات شخصية في إرساء القاعدة للتطور الثقافي متعدد الجوانب في أصعب مرحلة من تاريخنا، ويسجل لهم انهم أفشلوا كسر الحصار السياسي والثقافي على نشاطهم. ورغم وصعود القوى التي كنا نحلم ان تعطي قفزة كبيرة للثقافة والفنون الا ان التغيير لم يتحقق في الحلبة الثقافية والفنية، وربما يمكن القول انه حدث تراجع، تفكك وانتكاس مؤلم شل النشاط الواسع للحياة الثقافية والفنية.
بعض الموهوبين المسرحيين أصيبوا بحالة يأس واعتزلوا النشاط المسرحي الخلاق الذي بدأوا به مسيرة حياتهم. كانوا قد كرّسوا أحلامهم لرؤية تطور مسرح محترف وجماهيري، منهم مثلا وابرزهم المخرج المسرحي والممثل الموهوب صبحي داموني من الناصرة، الذي قدم حتى نهاية السبعينات من القرن الماضي مجموعة كبيرة من الأعمال المسرحية إخراجا وتمثيلا، شكّلت في وقته هبة ثقافية مسرحية غير مسبوقة. بعض المسرحيات عُرضت عشرات المرات ليشاهدها آلاف المشاهدين من الناصرة والوسط العربي كله. أقول بمسؤولية وثقة ان صبحي استطاع ان يرفع دور المسرح الاجتماعي والثقافي الى مرحلة متقدمة ومؤثرة!!
المفارقة المستهجنة ان صعود اليسار والقوى الوطنية لقيادة السلطات المحلية العربية داخل اسرائيل وتحريرها من سيطرة السلطة، وخاصة في الناصرة، لم يقد، كما هو متوقع ومنطقي، الى تطوير النشاط المسرحي والثقافي، بل إلى شلله وتقزيمه في محاوله لجعله بوقا دعائيا يخدم تنظيمات سياسية. هذا ما دفع ثقافتنا إلى أوهام ثقافية، فردية وجماعية، لم تترك سلبياتها فقط، بل شلت الحركة المسرحية والثقافية العامة مثل الندوات والمحاضرات والنشاطات ذات الطابع الانتقادي، ولم تقدم الهيئات التي علقنا آمالنا عليها سياسيا وفكريا وثقافيا، الدعم المرجو للحركة الثقافية والفنية عامة، رغم انها كانت ضمن بنود برامجها. والمضحك ان برامجها التي تصدر في المناسبات تشمل دائما بنودا لتطوير الحياة الثقافية والفنية ودعمها، لكنها ثرثرة فارغة من الفعل!!
أسس صبحي داموني مثلا، مع مجموعة فنانين طلائعيين متعدّدي المواهب الفنية والثقافية “المسرح الحديث” في الناصرة قبل ان يقع ضحية للفكر الحزبي الذي حاول تأطيره وتحويله الى مجرد داعية يقدم “طقطوقات” تخدم نهجا. فأغلق مسرحه يائسا من واقعنا الثقافي، الذي تراجع بدل ان يتقدم، كما كان حلمه وحلمنا وترك وطنه ليستقر في باريس.
لعبت الصحافة كذلك دورا هاما لا أراه اليوم، نقدا واستعراضا وتغطية صحفية. كان الإقبال على المسرح والأدب إقبالا جماهيريا منقطع النظير، نوعاً من التحدّي السياسي أيضا. كانت الندوات الشعرية والثقافية تعقد أسبوعيا وفي مختلف البلدات العربية وبحضور متفاعل ونشيط من المئات، كانت المحاكم الشعبية لمختلف القضايا الوطنية أو الثقافية تقليدا يشدُّ آلاف الحضور.. كانت الندوات الشعرية يحضرها الآلاف وتتحول إلى مهرجانات شعرية – سياسية. للأسف (وأقول هذا مستهجنا) صعود قوى يسارية لإدارة مؤسساتنا الرسمية انعكس سلبا ودمارا على الثقافة. بدأت ثقافتنا تترهّل وتتهاوى، بدل ان يجد جيل المثقفين الطلائعيين، الأدباء، رجال المسرح وسائر الفنون الدعم والرعاية، وجدوا الصدَّ ومحاولات تقزيمهم وإخضاعهم سياسيا، فاعتزل من اعتزل وأبرزهم بالطبع صبحي داموني. نفس الحال جرت في الأدب والندوات الثقافية، اليوم نحتاج إلى محفّزات وتأثير شخصي لإنجاح ندوة أدبية.
بالطبع الحياة لن تتوقف، رغم الكبوة الطويلة التي طالت ثقافتنا، بدأنا الانطلاق من جديد، لكننا خسرنا تجربة عظيمة وقاعدة شعبية هامة، لا اعرف اذا كنا قادرين على تجديدها بنفس قوة التضحية والاندفاع.
الدرس الهام الذي تعلمته، هو ان تحويل الثقافة والفن الى التزام سياسي هو غباء كبير ومدمر. الأدب هو أدب، هو معيار إنساني، أي محاولة لجعله خطابا سياسيا أو قوميا أو انتخابيا هي عملية تدمير للمضمون الإنساني للثقافة.
اعترف اني كنت كاتبا مجندا لفكر سياسي، أقول بوضوح اليوم ان كل التسميات لهذا التيار، مثل “الواقعية الاشتراكية” هي تسميات غبية. حتى تروتسكي (من قادة ثورة اكتوبر ومؤسّس الجيش الأحمر) أثبت في كتابه العبقري عن “الأدب والثورة” بطلان هذا الوهم عن خلق أدب واقعي اشتراكي. اليوم عبر تجربتي الكتابية التي بدأت مع أول قصة نشرتها عام (1963) اعرف أني أضعت سنوات هامة من عمري في أوهام الأدب الملتزم، رغم ان حسّي الثقافي أنقذني بحالات كثيرة من القيود الدوغماتية الفكرية التي وضعت نفسي داخلها لسنوات طويلة.
لا بد أن أشير الى ان الأديب المفكر والناقد، المحاضر الجامعي المتقاعد من السوربون، الدكتور أفنان القاسم، ساعدني بشكل كبير في التخلّص من الكثير من أوهامي عبر عشرات الملاحظات وبعض المراجعات النقدية لقصصي.
الأمر الذي يقلقني حقا اليوم هو غياب التخطيط الثقافي من مؤسساتنا الوطنية الشعبية والرسمية، وغياب الفهم العميق لأهمية هذا التخطيط وانعكاساته على مجتمعنا.
الثقافة هي معيار صحيح لقياس تطور المجتمع.. وغنيٌّ عن القول، ان المسرح يُعتبر من أهم الأدوات، وأكثرها فاعلية في إثراء الحياة الثقافية الاجتماعية، والتأثير عليها.
شاهدتُ في السنوات الأخيرة مجموعة من المعارض الفنية، من الكونسرتات الموسيقية الغربية، ومن العروض الموسيقية والغنائية الشرقية.. أما المسرح فهو الغائب الكبير، ولا بد ان أسجّل ان الأكثرية المطلقة من تلك البرامج كانت تخطيطا وتنفيذا لمبادرات طلائعيين وليس لمؤسسات قيادية غائبة عن الهمّ الثقافي والفني، وأتّهمها أنها عاجزة عن فهم الدور العظيم الذي باستطاعة الثقافة والفنون ان تنجزه لشعبنا. حتى مسرح مناسب لهذه النشاطات لم يُبنَ في الناصرة وقدّمت معظم النشاطات الهامة على مسارح البلدات اليهودية القريبة من الناصرة، في هذا الوقت لا بد ان انوه الى ان بلدية الناصرة بإدارة علي سلام، ستنجز قريبا بناء المركز الثقافي الأكبر والأضخم في الشمال وفيه قاعات متعددة ومسرح عصري، وآمل ان ذلك سيحفز على تجديد الحياة الثقافية بكل تعدداتها وبرامجها.
ان غياب اي برنامج ملموس في برامج الهيئات الرسمية، للموضوع الثقافي (وإذا وجد يبقى حبرا على ورق)، هو إشارة حمراء للواقع المتهاوي ثقافيا الذي نندفع اليه بدون وعي. وآمل ان المركز الثقافي الجديد الذي سيفتتح قريبا في الناصرة، القوة الدافعة لاستعادة الحياة الثقافية والفنية النشيطة. والأهم ان تتوفر له الميزانيات المناسبة. وانا على ثقة ان الموضوع هو ضمن التخطيط وراء إقامة هذه المؤسسة الثقافية الهامة في الناصرة.
استطعنا منذ النكبة ان نطوّر ثقافة إبداعية بهرت العالم العربي.. ووصلت الى العالمية، في فترة سيادة أبشع أشكال الحكم العسكري وقيوده على حقنا بالعمل والحياة الكريمة والتواصل مع تراثنا وثقافتنا العربية خاصة وعالمنا العربي عامة وفرض الحصار الثقافي والاضطهاد القومي بأبشع وأقذر صورة والذي استمر الى أواسط السبعينات من القرن الماضي.
المجتمعات التي تفتقد للحياة والنشاط الثقافي والفني، هي مجتمعات من السهل هزيمتها، تفسيخها وعزلها عن محيطها الطبيعي، وجعل مجتمعنا يعيش في محميات طبيعية، أشبه بمحميات الهنود الحمر في الولايات المتحدة الأمريكية.
فقط عبر الرؤية النهضوية الفكرية والثقافية، استطعنا ان نهزم سياسة التجهيل، وأن ننطلق في أجواء المعرفة والثقافة والعلوم، لنتحول الى أقلية عربية متماسكة. اليوم نتراجع، التهريج صار أهم من الفكر النهضوي. الغيبيات تحتل الساحة وتشلّ العقل. كل هذا ينعكس سلباً عن تطور ثقافتنا.
لذا امانا تحديات كبيرة وهامة ان ننطلق نحو آفاق الابداع والتوعية ويناء مجتمع ثقافي، فني، فكري ووطني ابداعي، للناصرة اولا ولكل وسطنا العربي ثانيا!!