من جديد: نهاية الزمن العاقر
تاريخ النشر: 10/05/21 | 10:38نبيل عودة
الانتفاضة التي تشتغل هذه الأيام في الأقصى والشيخ جراح وتمتد الى كل المناطق التي يسكنها أبناء الشعب الفلسطيني اعادت الى ذاكرتي اول قصة كتبتها بعد انفجار الانتفاضة الفلسطينية الأولى-انتفاضة الحجارة 1978!!
دوامة
مضى عقدان من الزمن وبطنها قاحل. تناثرت الاقاويل وكثر التساؤل. صارت في الحلق غصة، في جمال الحياة كدر، في صفاء الجو غيوم، في هدوء البال توتر، في نظرات الناس حدة.
وهيب زوجها يعود من عمله ولا يبخل على زوجته، يراوده الأمل. كل عسر يليه يسر، لطفك يا ملطف، الثمر يمتنع، النوار لا يبان، العود اجرد.
يبتهل بحرارة لمن في يده الحل والربط. يتعامل مع ضغط الأيام، يهرب من ضغط الألسن. ما بقي صاحب ضريح الا ووصلته حصته. عدل في الزكاة وزاد. لف على الوسطاء والمشعوذين، حتى كاد يطق من التجوال.
قالوا انها مصابة بالعين. سلسلوا الحكاية من وقت تعارفهم فوجدوا ألف سبب، ما نفعت الحجب في هزم اي سبب. أخذها عند أحسن الشيخات بعد عجز الأطباء الواضح، ما بقي طقس بلا تجريب. بشروه بالخير وبقي العسر ماسك.
احتارت نفسه، اجتنب الناس ابتعادا عن تساؤلاتهم. عيونهم فيها غمز. تساؤلاتهم تفجر غضبه.
يسرك يا رب. هل يطلق من داخ في حبها ؟! يتخلى عمن مات صبابة في القرب منها ؟! أيبتعد عن التي يسرح وجدانه كلما قربها لنفسه ؟! عشرون سنة من الاندماج الحسي والذوبان العاطفي تنتهي بكلمة غبية ؟! آه من غدر الايام وخيانة القلوب. آه من شطحات العقل.
عشرون سنة من اندماج الذاتين في ذات واحدة. يرفض التشاؤم، يقاوم سوداويته، ينتظر البشارة بصبر، يلتزم بأمله، يناجي احلامه، يواسي نفسه بالصبر وينتظر الخبر الممتنع … يترصد الحلم الذي لا يجيء.
قالوا: ” الصبر ثم الصبر ” فاحتار، حتى متى الصبر ؟! ” الصبر سلاح المؤمن المتيقن!” اما الايمان فالحمد لله، لكن اليقين معدوم .. والاحساس بالخسارة مرير.
تتوالى الأيام، تتناثر الآمال، يتوالى الحديث، تتلى الحكايات، يتجدد الأمل، يتبدد الأمل، يتعلق بحبال الامنيات، ينال منه اليأس، يوغل في الأمل، يتحلى بالصبر، ينهزم اليأس… هذه طبيعة النفس البشرية، مترددة، متقلبة ولكنها على العموم تتفاءل بالخير، تطفح بالأمل وهي في ذروة العسر والامتناع.
كان محتارا في نصيبه، يحاول ان يفهم الحكمة في قدره، يقوى يقينه ان يكون فرج بعد شدة، فرح بعد صبر، طفل بعد انتظار، لا بأس بطفلة …
عقدان كاملان لا يعرف كيف عبرهما. عشرون طويلة بأيامها. حتى الصبر صار علقما. ثبت في طريق الأمل ولا يزال. كانت تشعر برغبة زوجها، يسود عالمها من عجزها البين في تطييب خاطره. كان حبيب نفسها يحزنها صمته. وكثيرا ما رجته ان يطلقها، او ان يأخذ عليها زوجة اخرى تحقق له ما تصبو اليه نفسه. تعطيه من بذره ثمرة.
رفض كلامها وزجرها. ابدى لها من العشق ما حيرها في امرها وزاد من شعورها بالنقص والتقصير. لم يوفر جهدا في اظهار حبه، كان يطمئنها بحنانه الطافح، ترتاح لعواطفه الجياشة، يمنحها من عناده بصمت وصبر، مددا يشد ازرها ويجدد الأمل في نفسها.
عناد
قالوا انها مرعوبة، مدد من الرعب. فاحتار في الصلة بين إرتعابها وعقرها، هل يبقى الرعب قائما عشرين حول؟ قالوا لا يحل رعبها الا امر بيد الخالق. فاحتار في تأويل شكل الامر؟
متى يحين وقته؟ متى يحل لطفه؟ هل سينتظر فوق العشرين سنة؟ الزمن يهرب من بين يديه والمرأة حين يتقدم بها العمر تصبح كالأرض الصحراوية، زرعها لا يؤتي ثمرا. والسماد كالزبد يذهب جفاء.
فكره مشغول بها كل نهاره، تعذبه المعضلة، يضنيه الأمل، لا يرى حياته بدونها، يرتاح لحبها ووجودها بقربه، ينفر من دنياه إذا ابتعدت بالخيال عنه، يرتعب من احلامه إذا خلت من طلعتها، تتسامى ذاته بقربها، يتجدد عزمه بعناقها. كانت تحمل له من المشاعر على الاقل مثلما يحمل. تبتهل لربها ان يبعد بغتات الأقدار، ان يطيب خاطر رجلها بعد صبره الطويل، تنوء بثقل عجزها، ما هي خطيئتها؟ تتعامل مع الواقع بنفور، تهرب من الناس، تسر لكل طفل تراه وتبكي حظها بحرقة.
ظهور البلية
تزوجا قبل دخول الاحتلال بليلة واحدة، فحلت دخلتهما مع دخلته، حاذت نكستهما نكسة عربهم. قضيا اسبوعا قاسيا، تشردا في الخلاء هربا من القتال الذي حاذى قريتهما. البيانات المذاعة اوصلتهما لوطنهما السليب، حقيقة ما جرى أذهلهما، شملتهما الصدمة، اغرقهما العار، اهاجت الذكريات رعبهما، هو ايضا ارتعب، البلد كلها ارتعبت، مدد من الخوف والرعب، طوفان من العار، تناثرت احلامهما، انقلبت موازين الواقع وحدوده وتاه الادراك. اعتراهما اليأس، واجها واقعهما اشبه بالضائعين، توجسا من ظواهر الاشياء وحذرا بواطنها …
مرت الايام، بدا الناس يعتادون على الواقع الغريب … استحوذت عليهما مشكلتهما، ولت العشرون سنة، يصعب عليه تصديق ذلك. عشرون عاما ؟!كيف مرت بغفلة من الزمن ؟! فقط بالأمس جرت المعركة هنا بمحاذاة القرية، قبل ذلك بأسابيع كان يلاحقها بشوارع القرية وحاراتها ويبث لها لواعج عشقه وغرامه. لا يزال يشعر برعشة الحب الاولى، بتوتر العناق الاول. عشرون عاما لم يفكر بما يحيطه عداها، لم يقف على شواهد الأحداث، يتأمل ما عاناه من وحشة، يتذكر صبره الطويل الممتد حتى الساعة، يكره تلك الأيام، حتى لو لم تكن السبب في معاناته. برأسه هدف لا يمل من السعي نحوه، لا يفرط بحبه، يواسي المها الواضح، يحنو عليها، ينسيها قساوة القدر، عبء المعاناة وجهد الصبر.
دخائل
– انت حبي ، انت عالمي .. بدونك اذوى.
كان لا يمل من بث لواعجه، لم يخدعها بحقيقة مشاعره، حبه لها اصيل، ظلالها مطبوعة في نفسه، رحيقها يسري في دمه سلسبيلا وامنيته بطفل من صلبه تتلاشى حين يحتضنها. هي تضطرب وكأنها المرة الاولى، تصمت مصغية الى دبيب انفاسه، حيرتها تعذبها، عجزها عن تحقيق امنيته يشعرها بالخلان، يتفجر الدمع من مقلتيها ولا تنسى نفسها الا حين يلج جسده بجسدها، فتصل لقمة نشوتها، ترجوه ان يأخذ عليها من تستطيع تحقيق امنيته فيردها خائبة:
– تطلبين البعد وانت في قمة القرب ؟
– أشعر بالخيبة والقصور .
– ما عليك ، الموضوع يخصني فلا تلجيه .
– ويخصني .
احتضنها بقوة، ضغط عظامها بين ذراعيه، ضغطت بأسنانها على شفتيها متحملة لذة الاحتضان وهمس بإذنها:
– حبي لك هو الجذور ، انا احبك لنفسك ، لذاتك ، أحببتك لأنك انت ، لا تخلطي بين مشكلة الحبل وحبنا ، حبنا قدس الاقداس فهمت ؟
شهقت والتفتت اليه بدموع ملء وجهها:
– اكره نفسي لعجزي ، اريد ان اعطيك شرف الابوة ، الرجولة تكتمل بالأبوة .
أصمتها بقبلة وهمس بإذنها:
– انت دنياي ولا يهمني بعدك شيء.. لا الرجولة ولا الابوة.
فتحت فمها لتقول شيئا فزجرها:
– اصمتي ولا تعكري ليلتي .
سطوع الأمل
يرنو اليها خلال تجوالهم بين العيادات، يرى تنامي قنوطها واكتمال تصميمها. يحاول ان يرى حياته بدونها فيعصره الالم. تتسرب الشفقة الى نفسه، يود لو يحتويها بذراعيه، خوفا من فقدانها ولو بالتأمل.
صرف كل ما طالته يده من ثروة، كان الكلام يبعث الأمل، يجدد الحوافز والواقع الملموس يبدد ما يتجدد من امل.
ما دام هناك بصيص من نور في كلام الأطباء فالتعلق واجب. حلاوة الكلام تطرب، شرحوا لهما امورا لم يدركا كنهها، لم يفقها مضمونها انما بهرهما اطارها. تلاشى التشاؤم وبدأت دغدغة الأمل من جديد. للحق نقول ان وهيب ما زال حائرا بين حلاوة الكلام وصعوبة التصديق، اعتاد على الفشل. عشرون عاما من المحاولات، عشرون عاما من الأمل المتجدد والفشل المتكرر. لكنهم اليوم يتحدثون عن مشكلة معروفة علميا وطريق مجربة وأمل كبير، النفس طافحة بالرغبات والحياة بلا أمل مستحيلة. لم يخبرهما أحد ان العجيبة ستحدث. تلك كانت ايام المسيح وقد ولت، قالوا نجرب نحن متأكدون من النجاح. عاد الأمل ينبض بقوة، تجدد الشباب.
الانسان موضوع محير، عشرون عاما من التعثر وراء الآمال تلاشت بعد سماع كلمة حلوة مبشرة، رب يسر ولا تعسر، أعطنا من لدنك قوة، لا تزغ قلوبنا، هبنا من رحمتك وصبرك، رب تمم بخير.
ترى ما يدفع الانسان للأخذ بالتفاؤل والدلائل تعطي النقيض؟ الأمل الجديد شحنه طاقة، مده بالصبر، حرك احلاما قديمة، هاجت نفسه بلواعج الحب وماجت بالحنان.
أيجوز ان يكون لقيام الساعة ليلة دخلتهم، سبب لما هما فيه؟
كان يرتقب اجوبة الفحص الاخير مشدود الأعصاب، محاولا التمسك بهدوئه النفسي، متيقظا الا يشعر زوجته بصدمته فيما لو ظهرت النتائج سلبية. كانت هي الأخرى تنتظر النتيجة وكأنها قرار المصير، الاعدام او الحياة. اعصابها متوترة مشدودة، تحبس دموعها عنوة … تتمنى ان يتجمد الوقت بحيث لا تحل ساعة الصفر، تعاني من ثقل الدقائق ويتضخم الوقت في مشاعرها، تهرب نظراتها من نظرات زوجها، تعرف ما يعتمل بنفسه ولا يخدعها المظهر. منذ دخل الاحتلال في ليلة دخلتهم وهي تعيش هواجسها ومخاوفها، تصارع مصيبتها، ترزح تحت ارزاء عجزها، تلوك الألسن سيرة جفافها، لا تعرف ما الصلة بين عقرها وبين الاحتلال، لا شك طالع نحس. سرقتها هواجسها من الزمن ومدت بها بعيدا ولم تنتبه على نفسها الا وزوجها يضمها كالمجنون صارخا:
– المعجزة !!
اول الغيث قطرة
حامل … لهذه الكلمة أكثر من معنى ولها أكثر من نتيجة، تشمل أكثر من افق، تتسع لعالم كامل متكامل من المشاعر والرغبات والاحلام والانبعاث والتجدد، هذه الكلمة قلبت كل نظام حياتها، أعطت لعالمها رونقا جديدا، ربما لأول مرة تضحك على راحتها وليس مجاملة. لأول مرة تسابق جاراتها لإلقاء تحية الصباح ودعوتهن لفنجان قهوة الصبح. بدأت تلمس انها تعيش في عالم مليء بالقيم والعلاقات، اين تاهت كل هذه السنين؟ كيف لم تشعر بما يدور حولها؟ هل حقا ما زال الاحتلال قائما؟ لا تعرف لماذا ارتبط الاحتلال بما مر عليها. أبسبب المعاناة الخاصة التي جاءتها بعد الاحتلال؟ كم يؤلمها سقوط الضحايا من الطلاب والطالبات، قد يكون الدم النازف دم ابنها، قد يكون دمها نفسها، ترتبك سعادتها، تخاف على جنينها، يقلقها مستقبله. متى يتغير هذا العالم؟ متى يتجدد؟
كانت الحركة تزداد في احشائها. الفحوصات الطبية تؤكد ان الجنين يتطور بشكل ممتاز. بهرها ضوء ساطع. هزتها السعادة وزغردت فرحا ومن وجنتيها سطع الق الرضاء. أعطنا من يسرك خيرا، بشرنا بالغيث وخذ عنا الغرباء ومدنا بلطفك، مدد من خيرك، ادحر الآثمين القاتلين، قو سواعد شبابنا، قو يقينهم، مد لهم العون في وقت الشدة والأزر في وقت الضيق، نور دربهم، صوب خطاهم واشملهم بعطفك في هذا الزمن الخائن.
القيامة
منذ اسبوع ولجت شهرها. اصبحت السعادة قرينة الغد. تعجلتها. احتارت كيف تكون مشاعرها يوم استقبال طفلها. واضطربت لما تسمعه من احداث وحشية. هزها القتل المتعمد.
زوجها الزمها البيت خوفا من حادث طارئ بعد انتظار مرير، حديث الجارات يثير الرعشة والحماس، هل كانت تزجر طفلها لو انضم مع اترابه في تحدي العساكر؟ تناقض صريح وهواجس محيرة. أمس انفجرت الاحداث قرب حارتهم، كانت تتعجل الأيام خوفا من مكروه يفقدها صبر عشرين سنة. هل تستطيع ان تواصل الحياة إذا حدث ما يفقدها كنزها؟
زوجها منذ اسبوعين لا يخرج للعمل، أحاديث كثيرة يتبادلها الرجال، الحركة حولها تتدفق والحرارة تتفجر، الحماس يتلاقى مع الانفعال وهي كالمحتفى بهم، مكرمة مدللة مستريحة. احيانا يراودها تمرد لما يطولها من دلال ومن راحة، لكنها تخاف حقا على حملها الثمين. الأحاديث المنقولة تؤججها حماسة. ترى متى تحل اللحظة؟ متى يزغرد قلبها فرحا؟ تتحرك اشجانها مع ورود اسماء الشهداء. لو رزقت من وقته بطفل لكان من نفس عمر الشهداء. يغمرها حس عارم انهم ابنائها. تفيض برغبة في المساهمة بالأحداث، الحركة تنبئ بقرب اللحظة. زوجها بات يدور في فلك البيت، ممغنط في انتظار اللحظة، تتسرب منه ايماءات واشارات واستفسارات صامتة، تطمئنه بنظرة رقيقة دالة، لا يهدأ باله، كيف يهدأ بال من خاض اللجة على جبهتين؟ الزوجة والاحتلال؟ الاحتلال سيصير زمنا مندثرا، الاطفال جعلوه سخرية القدر. هل سيرزق ذكرا، وهل سيمتد الوقت مع الزمن السيء بحيث يكبر طفله والدنيا على ما هي عليه؟
تخيلت طفلها يقذف حجرا. فأطربتها الفكرة. فولجت فيها حتى نهايتها. رأت نفسها تجمع الحجارة لأطفال الحارة، تواجه البطش، تتحدى الرصاص، تتلقى ضربات العصي، تتكسر العصي ولا تركع وحركة الجنين تنقلها للعالم الملموس. شيء يكاد يمزق احشائها … فتصرخ مرعوبة من الآمل.
يا ملطف
كانت زوجة وهيب حديث الحارة والجارات كالعادة يتناقلن آخر الاخبار مع رشفات قهوة الصباح، لكن اخبار هذا الصباح خلت من حكايات الانتفاضة، او ربما هي انتفاضة من نوع جديد، او الوجه الآخر.
– رب تمم ولادتها بخير .
– جاءها المخاض في عز منع التجول فهربوها من الحقول .
– رب لا تضيع رجاء سنين .
– يقولون ان العساكر انتبهوا ؟
– رب لا تضيع رجاء ولا تخيب املا.
– ولكنهم نجحوا بالتسلل.
– هاجم الشباب الدورية بالحجارة .. فالهوها.
– رب تمم بخير .
– لا تحرمها من فلذة كبدها بعد صبر عشرين عاما .
– ستلد ابنا ذكرا ان شاء الله .
– سأوزع الحلوى اذا رزقت بابن .
– سأوزعها حتى لو رزقت ببنت .
– بعد عشين سنة تلد بنتا ؟
همرت بها الجارات فنكست عينيها غير متنازلة عن رأيها، انما لحظة حتى تعبر همرة الاحتجاج.
– المهم ان تلد
– ان ينتهي العقر .
– لطفك يا ملطف .
– لولادتها سيكون وقع خاص .
– ولادتها خير لنا جميعا.
– خير لنا وعلينا .
– رب تمم بخير.
– رب لا تضيع تعب أحد .
تجلي العصر
تهيب وهيب من طول الانتظار واكتأب، غلفته افكاره بشباكها حتى لم يعد يشعر بمن حوله، ضغطته موجة من التخيلات، اصابه شطط وتاه وراء المبتدأ وافتقد الخبر. غاص في دوامة الاكتئاب.
الضجيج في الرواق الممتد شديد، عشرات السائلين الباحثين عن مصائر ابنائهم. أيكون قد تبلد؟ أيكون قد فقد حسه الانساني؟ اعتراه رفض … وانتفض واقفا مزيحا عنه همومه. تأمل اكتظاظ الرواق بالناس والحركة. خطى خطوات مترددة ذهابا وايابا، تأمل الباب المقفل واعترته طمأنينة. دفق من التفاؤل ملأ صدره، انتشر الفرح في كيانه وطرب لهذه الولادة المتجلية في هذا الزمن المتفجر. هل كان يتمنى لزوجته ولادة في زمن آخر؟ كيف لا تتوغل السعادة في كيانه والخصب يجيء مع الانفجار؟ مدد مبارك، ثمر بعد انقطاع أمل، خير بعد جدب، ثورة بعد صبر. يتذكر ما مر عليه بمجمله وليس بتفاصيله، يبني لنفسه عالمه بأفقه الواسع الممتد وليس بحدوده، بمعناه وليس بنصه. توسم الخير في هذا الضجيج، رأى تجلي العصر، رأى كينونته وطرب لشارات النصر يرفعها النازفون دما والمتلون الما، اهتز كيانه من الاعماق وأصابه الارتعاش. مدد من الحماس سرى في دمه. نظر نحو الباب منتظرا من جهينة الخبر. سمع صراخها يعلو، اتكون الولادة بلا ألم؟ اتكون السعادة بلا ثمن؟ دفق من الدفيء احاطه وهو يرنو لأهل الحارة القادمين رجالا ونساء، افواجا افواجا … من آخر الرواق. اراد ان يبتسم، حبس دموع الفرح، شدت سمعه بضع صرخات اخرى تعلو من خلف الباب المغلق وأهل الحارة يقتربون بضجيج، معهم عشرات الجرحى ممن يعرفهم وممن لا يعرفهم. مدد من الراحة، مدد من السعادة، تغرقه أجمل الأحاسيس، تتفجر من عينيه دموع الفرح، يقف امام الجمع المتدفق يبكي دون ان يشعر بالحياء، يتمنى لو يحمل عن الجرحى بعض الامهم، ان ينزف دمه بدل دمهم، ان تكسر عظامه بدل عظامهم، ينظر نحو الباب مستعجلا السعادة، لكن جهينة لا تبان، ينظر نحو العصر المتجلي بناسه واحداثه، بدأت الصرخات تخفت، يحيط به جمع غفير، تحيط به أجمل المشاعر، يعانقونه بيقين العارفين وعينيه تتنقلان بينهم، تبتسمان لهم ثم تتعلقان بالباب، حيث الخبر والامل.
الناصرة – 1978