المطلوب هنا في الدّاخل مشروع وطني فلسطينيّ كفاحيّ تقدّميّ يرقى لمستوى المرحلة

تاريخ النشر: 28/05/21 | 12:07

توطئة:
ثمّة حقيقتان بارزتان للعيان الآن، وبخاصّة بعد الانتخابات البرلمانيّة الأخيرة وما سبق هذه الجولة الرّابعة من ثلاث جولات، خاضها المجتمع العربيّ تحت قائمة “القائمة المشتركة” المتوافقة من حزبيْن وحركتيْن معًا في جولتيْن، وفي جولتيْن أخرييْن تحت قائمتيْن منفصلتيْن، وكان سبب الخلاف بين الشّقّيْن على ترتيب المقاعد! لا على البرنامج السّياسيّ والاجتماعيّ والوطنيّ. في جولة انتخابيّة من المنفصلتيْن حيث لم تلتئم المركّبات الأربعة اصطّف حزب “التّجمّع” مع الحركة “الموحّدة”، واصطفّت “الجبهة الدّيمقراطيّة” مع الحركة “العربيّة للتّغيير”. وفي جولة ثانية انشقّت “الموحّدة” عن المركّبات الثّلاثة الأخرى لغرض سافر وسافل حدّ الخيانة في نفس يعقوب، إذ جدع “قصير” أنف الوحدة المشتركة المتهالكة أصلًا، ولكنّ سبب الجدع ليس لأمر ما بل لأمر واضح الانزلاق نحو هاوية سلطويّة فاسدة والاندلاق على أمل إنجازات تافهة! إنّه انشقاق لا وطنيّ وبلا أفق سياسيّ وبلا برنامج تكتيكيّ أو إستراتيجيّ، وقد يكون تنفيذًا لإرادات سياسيّة عليا تتساوق مع صفقة القرن الأميركيّة وصفقات التّطبيع العربيّة الخيانيّة ونوايا سياسيّة تركيّة وقطريّة خبيثة، في صميمها تغييب القضيّة الوطنيّة الفلسطينيّة سياسيًّا وتشويه الانتماء العربيّ الفلسطينيّ لعرب الدّاخل وخلط أوراق وهويّات جديدة وهجينة في هويّتهم الوطنيّة الفلسطينيّة وفي شخصيّتهم القوميّة العربيّة، والهويّتان هما هويّة واحدة وشخصيّة واحدة وتؤدّيان إلى انتماء واحد متداخل ومتكامل، وهو ما يتمسّك به أكثر ما يتمسّك المواطنون العرب الفلسطينيّون في الدّاخل. وكلّ ذلك التّساوق والتّشويه والتّفريغ والتّقزيم والتّغييب يتناقض مع طموحات شعبنا الفلسطينيّ الوطنيّة ومع تطلّعات مجتمعنا العربيّ الفلسطينيّ في الدّاخل وجدانيًّا وضميريًّا وأخلاقيًّا ودينيًّا وإنسانيًّا.
الحقيقة الأولى:
هي عدم قدرة القائمة “المشتركة” وهي في عزّ تماسكها وإنجازاتها – 15 عضوًا في البرلمان على اعتبار أنّ العدد إنجاز سياسيّ ووطنيّ حقيقيّ، وهو ليس كذلك دائمًا – على إبداع مشروع وحدويّ وبلورة برنامج وطنيّ يقوم على أساس وجودنا المتميّز وعلى نبض وجداننا ورسوخ انتمائنا وصيانة هويّتنا الوطنيّة وشخصيّتنا القوميّة أوّلًا، وعلى أساس الثّوابت الوطنيّة والسّياسيّة لشعبنا المظلوم. وعدم قدرتها – أي المشتركة – حتّى على تنسيق مواقف سياسيّة واجتماعيّة أساسيّة فيما بين أعضائها ومركّباتها كبلورة موقف موحّد ومشترك من قضيّة المشاركة “باللّعبة” السّياسيّة، وهي ليست لعبة بالتّأكيد، وكيفيّة الحفاظ على طهارتنا السّياسيّة والوطنيّة في هذا المستنقع السّياسيّ الإسرائيليّ الآسن، ومن ثَمّ برمجة مطالبنا اليوميّة بشكل علميّ لخوض النّضال من أجل إنجازها بكرامة، لأنّها حقوق لنا وليست منّة من أحد، وأنا أقتبس الآن من مبدأ ثابت ورد في المقابلة مع السّيّد “محمّد بركة”، رئيس لجنة المتابعة العربيّة العليا” في مقابلة معه، نشرت في ملحق جريدة “الاتّحاد” يوم الجمعة 21/5/2021 وقد نُشر ذلك المبدأ بخط كبير وعريض وبارز وأحمر لأهمّيّته الوطنيّة والسّياسيّة ولرسوخه في عمق الوجدان الجمعيّ الوطنيّ والقوميّ لجماهيرنا العربيّة، نُشر على الصّفحة الرّئيسيّة من الملحق الأسبوعيّ، قال “بركة”: “لا نريد حقوقًا مغمّسة بدم شعبنا”! فقد بدأ بعض من ظهرانينا بالهرولة للغوص في مياه المستنقع الصّهيونيّ اليمينيّ، رغم أنّ تلك المياه الملوّثة بالعنصريّة المتطرّفة تلفظه كما يلفظ البحر الجيف والأسماك الميّتة، معتقدًا هذا البعض المهروِل وهو واهم بأنّ هذا الطّريق الخيانيّ هو الأقصر والأسهل لتحقيق الحقوق اليوميّة الصّغرى، ولو على حساب قضايانا القوميّة والوطنيّة العظمى، متعاميًا بقصد عن أنّ كل قضايانا الصّغرى المتعلّقة بمواطنتنا مشتقّة من قضيّة شعبنا الفلسطينيّ الوطنيّة السّياسيّة الّتي بدأت منذ النّكبة والتّشريد وسلب الوطن وقيام إسرائيل على أنقاضهما، والتّنكر الرّسميّ الإسرائيليّ هنا لمساواتنا كمواطنين – في دولة جاءتنا هي ولم تكن هنا، ولم نجئها نحن إذ كنّا هنا – بالحقوق اليوميّة والقوميّة والثّقافيّة مشّتق من التّنكّر الرّسميّ الإسرائيليّ للاعتراف بحقوق شعبنا الفلسطينيّ القوميّة والسّياسيّة، وأبرزها حقّ العودة وحقّ تقرير المصير وإقامة الدّولة المستقلّة.
لم تتّفق مركّبات “القائمة المشتركة” الأربعة ولم تختلف على موضوع جوهريّ واحد يمسّ حياتنا ووجودنا وانتماءنا وإمكانيّات تطوّرنا في بلادنا، هذه بلادنا الّتي لا بلاد لنا سواها، بل اتّفقت أو اختلفت على المقاعد وترتيبها، وعندما يحقّق كل مركّب فيها ما يريد تقوم “القائمة المشتركة” وعندما يختلفون ولا يحقّق المركّب فيها ما يريد تقوم “قيامة القائمة المشتركة” وتسقط، وفي كلا الحاليْن التّحقيق أو عدمه والاشتراك أو عدمه يقول بأنّ اعتبار المصلحة الفئويّة لكلّ مركّب فوق اعتبار المركّب الوحدويّ والوطنيّ على ثوابت سياسيّة، مثل الموقف من سياسة اليمين المتطرّف، واجتماعيّة مثل الموقف من أزمة العنف وسبل حلّها في مجتمعنا العربيّ، وغير ذلك من قضايا ثقافيّة وحضاريّة وإنسانيّة تمسّ لغتنا وأدبنا وثقافتنا. اعتبار المصلحة الفئويّة عند كلّ مركّب فوق كلّ اعتبار هذه حقيقة مؤلمة!
إنّ حالة “القائمة الموحّدة” وانشقاقها في الجولة الأخيرة وسقوطها الوطنيّ والأخلاقيّ والدّينيّ – وهي بنظري سقطت حتّى لو حصلت على ستّة مقاعد لأنّ السّقوط أو النّجاح لا يقاس دائمًا بالكمّ – قد شذّت للأسوأ والأخطر واللّاوطنيّ والخيانيّ! مع أنّ المركّبات الأخرى الثّلاثة أيضًا تبحث عن أسلوب أو مضمون أقلّ سوءًا للانخراط في الحياة وفق المعطى الإسرائيليّ الّذي يقلّل من مستوى الانتماء الوطنيّ الفلسطينيّ والقوميّ العربيّ عند جماهيرنا الّتي تقف بالمرصاد لكلّ آبق أو مارق أو خائن. باختصار هذه الحقيقة تثبت فشل “القائمة المشتركة” وعلى الأخصّ بعد نجاحها بتوصيل 15 عضوًا لأنّها لم تبلور مشروعًا وحدويًّا سياسيًّا واجتماعيًّا رفيع المستوى الوطنيّ والحضاريّ وراسخ المبادئ السّياسيّة والأسس الاجتماعيّة الّتي تلبّي كافّة مشارب المجتمع العربيّ الفلسطينيّ ويجمع عليها لينهج وفقها هذا المجتمع عامّة، وينشأ عن ذلك الإجماع الوطنيّ نهج بيّن المعالم للسّلوك وفق أسسه ومبادئه وبنوده، في دولة تتنكّر لحقوقه بل تعاديه وسلبت منه وما زالت تسلب منه أعزّ ممتلكاته المادّيّة، التّراب وما فيه وما عليه وما فوقه وما تحته والممتلكات المعنويّة، الانتماء الوطنيّ الفلسطينيّ بكافّة معانيه وامتداداته والهويّة القوميّة العربيّة بكافّة عناصرها، اللّغة مثلًا ومكوّناتها، الثّقافة والحضارة. لم تفعل “القائمة المشتركة” هذا بل حصلت على 15 عضوًا عربيًّا في داخل برلمان صهيونيّ ازداد ضراوة يمينيّة وكمًّا من الأعضاء اليهود المتطرّفين والكهانيّين الّذين سيتحوّل معظمهم من أعضاء في السّلطة التّشريعيّة إلى أعضاء في السّلطة التّنفيذيّة، ما يعني أنّ أكثر من ثلثيْ أعضاء البرلمان سيشرّعون القوانين العنصريّة ضدّ العرب وسينقلونها من على الورق لتصبح نهجًا عنصريًّا، وهم وأذرعتهم السّلطويّة من عسكر وشرطة ومستوطنين سينفّذونها وسيطبّقونها في الواقع، وعندما يرفضها العرب ويقفون ضدّها لأنّها تمسّ وجودهم وممتلكاتهم المادّيّة والمعنويّة ويصل الأمر إلى المحاكم الإسرائيليّة “النّزيهة” ستجد من القضاة من هو أشدّ يمينيّة وتطرّفًا من أولئك البرلمانيّين والوزراء، وقد تجد الجهاز القضائيّ سلطة ثالثة أو ذراعًا سلطويًّا وبوقًا يمينيًّا، وإذا وصل الأمر إلى الرّأي العامّ والإعلام فستجد كذلك الصّحافة والإعلام الإسرائيليّ إعلامًا مجنّدًا وسلطة رابعة ضدّ العرب. نحن نبارك كلّ صوت يهوديّ يناصر قضايانا جميعًا كمجتمع عربيّ في الدّاخل وكجزء ينتمي حتّى النّخاع لشعبنا الفلسطينيّ وأمّتنا العربيّة، بلا تجزئة بين الاثنتيْن، فالمواطن اليهوديّ إذ يناصر قضايانا من الضّروريّ أن يعلم أنّه يعمل من أجل قضيّته هو ومن أجل وجوده ومستقبله! ولكنّنا وعلى ضوء الواقع الإسرائيليّ الّذي يزداد تطرّفًا عنصريًّا في المجتمع اليهوديّ عامّة نحو اليمين الفاشيّ، لا نستطيع أن ننتظر حتّى يحدث تحوّل جذريّ وهائل نحو اليساريّة والتّقدّميّة والدّيمقراطيّة الّتي ستقود إلى الاعتراف بحقّ شعبنا الوطنيّ والسياسيّ وبحقّ مجتمعنا العربيّ بالمساواة التّامّة، وإن فعلنا فسيطول الأمر على مدى عقود وحروب. ولا أعتقد أنّ 20 عضوًا عربيًّا في البرلمان أمام 90 – 100 من الأعضاء اليهود يصطفّون من اليمين الفاشيّ الصّهيونيّ ومن أحزاب التّطرّف الدّينيّ ومن أحزاب صهيونيّة أقل تطرّفًا من قوى المركز المندثر ومن أحزاب يسارٍ غير حقيقيّ ولكنّه صهيونيّ آيل إلى السّقوط السّياسيّ أو إلى الاندثار الوجوديّ، لا أعتقد أنّه من المجدي لِ 20 عضوًا عربيًّا متماسكًا وقوّيًا وذا كرامة وطنيّة وقوميّة أن يكونوا هناك، فكم بالحري عندما يكونون مفكّكين ضعفاء بائسين ومنهم من هو بلا كرامة إطلاقًا!
ولذلك لم يعد الكنيست الإسرائيليّ بنظري ساحة للنّضال العربيّ الفلسطينيّ لمجتمعنا هنا في الدّاخل، ولا منبرًا لتوصيل صوت قضايانا ومطالبنا القوميّة واليوميّة العادلة، وصار الشّارع بأصواته وشعاراته ومظاهراته وعنفوان شبابه هو السّاحة وهو المنبر، وبخاصّة بعد ثورة المعرفة عبر وسائل التّواصل الاجتماعيّ، والشّارع الكفاحيّ المتلاحم هذا (ومظاهرة سخنين نموذج فقط) قادر على إسماع صوته ومطالبه وهو قادر على صياغة شبه دستور وحدويّ وطنيّ سياسيّ واجتماعيّ وأخلاقيّ، وهو ما لم تستطعه الأحزاب السّياسيّة والقوميّة ولا الحركات الدّينيّة والعلمانيّة المتمثّلة بالقائمة “المشتركة”. ولذلك، إن كانت “المشتركة” في حالة اشتراكها أو انفصالها قد أنجزت رقمًا وكمًّا إلّا أنّها فشلت كمشروع وحدويّ فشلًا ذريعًا. ومن هذه المثابة سيكون تفسّخها وضعفها وتهالكها مؤشّرًا على اندثارها القريب. ولكن بما أنّ اليمين الفاشيّ يريد إقصاءنا وإقصاء صوتنا وطمس وجودنا العربيّ وانتماءنا الفلسطينيّ وتغييب العرب من البرلمان كذلك، فلنبقَ هناك لنكون شوكة في حلوقهم “على صدوركم باقون كالجدار”! فلنذكر الكرامة والحقوق أيّها الشّاعر الكبير “توفيق زيّاد” وشعارك الأصيل والرّاسخ: “الكرامة أوّلًا والخدمات ثانيًا”! وهو ما عناه “بركة” في مقولته: “لا نريد حقوقًا مغمّسة بدم شعبنا”!
الحقيقة الثّانية:
حالة التّلاحم الفلسطينيّ غير المسبوقة منذ الهجمة العدوانيّة الهمجيّة الشّرسة على بيوت حيّ “الشّيخ جرّاح” العربيّ الفلسطينيّ الأصيل في “القدس الشّريف” عاصمة فلسطين العتيدة، وما تلاها من هجمة إسرائيليّة عسكريّة صلفة وهمجيّة على “قطاع غزّة” وقصف الأبراج السّكنيّة والمنشآت المدنيّة، وما لاقاه من مقاومة فلسطينيّة عنيدة من الفصائل الفلسطينيّة مجتمعة، استطاعت أن تقصف بالصّواريخ وتجعل إسرائيل تعيش في أكبر مدنها: “تل أبيب” وغيرها رعبًا وهلعًا وإرباكًا. إنّها حالة جديدة ولكنّها نتيجة تراكمات كثيرة وطويلة، إنّها معاناة فلسطينيّة بنت عقود طوال. ولكن في هذه الملحمة جِدّة يشار إليها بالبنان. أقول هذا الكلام مستفيدّا ممّا رأيته بأمّ العينيْن ولمسته بأمّ اليديْن وسمعته بأمّ الأذنيْن في المظاهرة الكبرى في مدينة “سخنين” في “الجليل” شمال البلاد وما يجري من مقاومة باسلة في مدينة “القدس” عاصمة فلسطين، ضدّ الهجمة الصّهيونيّة السّلطويّة والاستيطانيّة على حيّ “الشّيخ جرّاح” العربيّ الفلسطينيّ الأصيل وعلى المسجد “الأقصى” وعلى أصحابه الشّرعيّين والمصلّين المسلمين في أقدس لياليهم، في العشر الأواخر من “رمضان” وفي أيّام عيد “الفطر” المبارك. وما تبع ذلك من قصف إسرائيليّ همجيّ على غزّة في جنوب البلاد، على أبراجها وأحيائها السّكنيّة العامرة بالنّاس المدنيّين العزّل: أطفالًا ونساء وشيوخًا وعلى منشآتها المدنيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة من البرّ والبحر والجوّ، بالحجّة الواهية والكاذبة ردع خطر صواريخ المقاومة للمرّة الرّابعة أو الخامسة. هذه الظّروف خلقت تلاحمًا شعبيًّا فلسطينيًّا صلبًا من “غزّة” حتّى “القدس” حتّى “سخنين”، هذا التّلاحم الشّعبيّ أصبح مدعومًا فلسطينيًّا وعربيًّا وعالميًّا، بعد الهجوم الإسرائيليّ الهمجيّ على أبناء الشّعب الفلسطينيّ في كلّ أماكن التّواجد، من ارتكاب مجازر وجرائم حرب إلى ملاحقة وتهجير وهدم وقتل إلى اعتقالات وسجون، لم تترك إسرائيل وسيلة لردع الشّباب الفلسطينيّ ومقاومته بكافّة الوسائل إلّا وانتهجتها، ولم يزد هذا الشّعب إلّا إصرارًا وبصلابة وبطولة وتماسكًا وتلاحمًا وطنيًّا. ولعلّ أبرز رسالة وجهها هذا التّلاحم الفلسطينيّ المدعوم عربيًّا، دوليًّا وإنسانيًّا والمرافق بأشدّ عبارات الإدانة والاستنكار للجرائم الإسرائيليّة بحقّ الشّعب الفلسطينيّ، فقد ندّدت العواصم الأوروبيّة والأفريقيّة والآسيويّة والأميركيّة والعواصم العربيّة بالجرائم والمجازر. أمّا الرّسالة الفلسطينيّة فموجّهة للشّقيق والصّديق وللمتضامن وللعدوّ وأعوانه “أنّنا شعب واحد وأصحاب قضيّة وطنيّة ذات مطالب وطنيّة وإنسانيّة وسياسيّة واحدة هي القضيّة الفلسطينيّة، ولن نتخلّى عنها إلّا بتحقيق حقوقها وبإنجاز أهدافها وعلى رأسها حقّ العودة ونيل الحرّيّة والاستقلال بإقامة الدّولة وعاصمتها “القدس الشّريف” بكافّة أحيائها وعلى رأسها حيّ “الشّيخ جرّاح”، وإن اختلفت ظروف حياتنا وأماكن تواجدنا وأشكال مواجهتنا، فكلّ حقوقنا الأخرى تشتقّ من هذا الحقّ الأساس وتأتي بعده”.
لقد ضعف بشكل عامّ الالتزام الحزبيّ، فثمّة أحزاب اندثرت كحزب “العمل” الإسرائيليّ الّذي حكم إسرائيل لعقود طويلة دون أن يحتاج إلى أحزاب تأتلف معه، وأحزاب انقسمت أكثر من بضعة مرّات مثل حزب “اللّيكود” الّذي كان متماسكًا، ها هو زعيمه الفاسد والمجرم “نتنياهو” لا يستطيع تركيب حكومة ائتلافيّة للمرّة الرّابعة، وحزبنا الشّيوعيّ يفقد اليوم كثيرًا من جماهيريّته بسبب بعده عن نهجه الثّوريّ وهموم النّاس ممّا أدّى به إلى سلبيّة تنظيميّة، فترهّلت الهيئات العليا وتاهت القيادة وأصاب الشّلل الفروع الحزبيّة وساد الإحباط رفاق الحزب في القواعد، ومن أبرز حقائق هذا الضّعف والوهن وفقدان الشّعبيّة إن لم يكن الفشل والإخفاق نكوص جريدة الحزب “الاتّحاد” الجريدة العربيّة اليوميّة الوحيدة في بلادنا ولسان حال الحزب وصوته وصلته مع الجمهور العربيّ، تتراجع لخمس وثلاثين سنة إلى الوراء لتعود وتصدر مرّتيْن في الأسبوع. أمّا الإخفاق القريب والبارز والذّريع فهو نتائج الانتخابات الأخيرة البائسة الّتي نتجت عن كلّ ما سبق بالإضافة إلى الميوعة السّياسيّة والسّلوكيّات والتّصريحات المنافية لنبض مجتمعنا الفلّاحيّ وروحه ووجدانه، الّتي مارستها قيادات في الحزب والجبهة، ومع تلك الخطايا الفشل في النّاحية الإعلاميّة والماليّة والفشل في إدارة الجولة الانتخابيّة بشكل عامّ.
عود على بدء:
وعود على التّلاحم الوطني الّذي يسطّره أبناء شعبنا في كلّ مكان بالكفاح والمواجهة مع الهجمة الصّهيونيّة على “القدس” وقصفها الوحشيّ في “قطاع غزّة” لقد تجاوز هذا التّلاحم كلّ الأحزاب والحركات في الدّاخل الفلسطينيّ وفي الضّفّة الغربيّة، وبدا الشّعب الفلسطينيّ بهذا التّلاحم بأبهى صوره الكفاحيّة وصموده الثّوريّ، وهو يتلقّى الضّربات ويدافع ويواجه بالصّدور العارية أمام بنادق المستوطنين المحميّين من قوى الأمن، وبالدّم السّاطع من أجساد أطفالنا الّذي يعفّر وجوه الجنود والقتلة والمستوطنين المجرمين، وبالمظاهرات السّلميّة وبصدّ هجمات الأوباش المنفلتين في مدننا وعلى قرانا وبيوتنا – لن تعيش آمنًا أيّها المواطن اليهوديّ ما دام جيشك محتلًّا وما دامت دولتك تنهج منهج الشّرطيّ وما دام الباطل سائدًا وما دام الفلسطينيّ أينما وجد ليس آمنًا! – ولعلّ أبرز ما في هذا التّلاحم عنفوان شبابه وبلا قيادة واضحة المعالم وإن كانت هنالك تجارب قد تراكمت، ولكنّ “الفطرة” كانت هذه المرّة هي القائد وسيّدة الموقف. لقد قامت “لجنة المتابعة العليا للشّؤون العربيّة” بواجبها ودعت إلى مظاهرة “سخنين”، ولكن من صنعها بهذا التّلاحم والزّخم الوطنيّ هو الشّباب الفلسطينيّ: شبّانًا وشابّات وسائر الشّرائح الأخرى، فكانت المظاهرة بضخامة جماهيرها وتنوّع مشاربها السّياسيّة والاجتماعيّة وبنداءات شعاراتها الوطنيّة صورة رائعة زادت التّلاحم الفلسطينيّ من هنا في “الجليل” قوّة وزخمًا وعنفوانًا. وكذلك الإضراب العامّ “إضراب الكرامة” الّذي دعت إليه “المتابعة” فشمل كافّة المرافق والمؤسّسات في المجتمع العربيّ في الدّاخل وقد امتدّ ليشمل سائر مناطق الضّفّة الغربيّة ومدنها وبلداتها وفي المخيّمات الفلسطينيّة.
لقد تجاوز هذا التّلاحم الكفاحيّ الأسطوريّ بغضّ النّظر عن الضّحايا من شهداء وجرحى وأسرى ومعتقلين، تجاوز كلّ اتّفاقات “أوسلو” ومجروراتها على مدى ثلاثة عقود، وتجاوز السّلطة الفلسطينيّة وخنوع قيادتها المخزي والتّنسيق الأمنيّ المهين مع المحتلّ الّذي يجب أن ننسّق مع كلّ الجهات في العالم ضدّه. الشّعب الفلسطينيّ موحّد في طريق آلامه وفي حمل صليبه، وسيكون كذلك في بشارة قيامته على الاحتلال وأعوانه. فلتنتظروا الفرج “والحلّ عن صدورنا” من إدارة “بايدن” وتدخّل العملاء العرب للتّوسّط لتهدئة، تهدئة ماذا تهدئة كراسيكم المترنّحةّ وعروشكم الآيلة للسّقوط! لقد تجاوزتكم الأحداث العظيمة أيّها الصّغار الأراذل. لقد تجاوز هذا التّلاحم الفلسطينيّ كلّ الحدود وأماكن التّواجد بوقوف محور المقاومة معه، وقال للمطبّعين “الصّغار” في الدّاخل وللمطبّعين “الكبار” في الخارج: أنتم وتطبيعكم وصفقة القرن إلى “جهنّم” لقد قبضتم على ريح الخزي ومصيركم ستذروه أدراج رياح العار كنفايات مهترئة غير قابلة للتّجديد إلى الأبد الأبيد! لقد اعتقد هؤلاء الّذين تجاوزتهم الأحداث وهذا التّلاحم أنّ القّضيّة الفلسطينيّة قد انتهت بصفقات متواطئة ودفعات ومبالغ مشبوهة وبرامج تطبيعيّة خيانيّة، اعتقدوا بأنّ القضيّة الفلسطينيّة قد وضعت على “الرّف” علّ الغبار يغطيها لفترات طويلة والعثّ يأكلها ويبدّدها إلى مزق متناثرة، ولكنّ التّلاحم الفلسطينيّ الأخير والصّمود الكفاحيّ أمام الهجمة الصّهيونيّة الاستيطانيّة وأمام الوحشيّة العسكريّة الإسرائيليّة أعادت القضيّة الفلسطينيّة إلى طاولة العالم وعلى بساط البحث الدّوليّ والرّسميّ والشّعبيّ، وجعل الغبار كثيفًا فوق كلّ البرامج والمؤامرات والصّفقات والتّطبيع والخيانة، سيجعلها الغبار فريسة للعثّ والفئران وآفات الزّمان.
وماذا بعد:
وما هو المطلوب اليوم لنا نحن هنا في الدّاخل الفلسطينيّ بعد تجاوز هذا التّلاحم الفلسطينيّ قيادة “القائمة الموحّدة” وانزلاقها في درك أسفل من نار الخيانة في الأرض قبل درك نار السّماء وبعد تجاوز هذا التّلاحم قيادة “القائمة المشتركة المثلّثة” وتجاوز نتائج الانتخابات عامّة على مستوى الأحزاب الصّهيونيّة من اليمين المتطرّف جدًّا والمتطرّف والأقلّ تطرّفًا، وكلّهم مجتمعون على التّنكّر لحقوقنا والحرب والإجرام بحقّ شعبنا، وكلّهم مجتمعون على يهوديّة الدّولة وضمّ “القدس” الموحّدة عاصمة، وكلّهم مجتمعون على قانون “القوميّة” وعلى قانون “كمينيس” وعلى خطط وبرامج غايتها اقتلاعنا من بيوتنا، من بلادنا، من وطننا، نعم المعركة بيننا وبين هذه الدّولة/ المؤسّسة/ العصابة على وجودنا، وكلّهم مجتمعون ضدّ انتمائنا وضدّ هويّتنا الوطنيّة الفلسطينيّة وضدّ شخصيّتنا القوميّة العربيّة وضدّ ثقافتنا الإنسانيّة وضدّ لغتنا العربيّة العظيمة، وضدّ مجرّد وجودنا وإمكانيّات تطوّرنا في هذا الوطن الّذي نسكنه كما يسكننا، وطننا الّذي لا وطن لنا سواه.
ما هو المطلوب؟ حتّى عندما نخوض الانتخابات البرلمانيّة – إذا خضناها أو إذا رغبنا بخوضها أو إذا سَمح لنا اليمينُ المتطرّف والقوانينُ العنصريّة بخوضها – المطلوب أن يبدأ البرنامج شكلًا ومضمونًا من هنا – ومن المفضّل بل من المطلوب والواجب تغيير الوجوه والأسماء في القوائم كافّة بوجوه وأسماء تحمل جديدًا نوعيًّا – أن يبدأ البرنامج من مشروع وطنيّ فلسطينيّ، قوميّ عربيّ، علمانيّ تقدّميّ، وديمقراطيّ يقوم على أسس هذا التّلاحم الفلسطيني ومستفيدًا من حرارة التّجربة الكفاحيّة الرّائعة الّتي يسطّر شعبنا سطورها بالدّم الزّكي وبالنّضال الشّعبيّ من “عكّا” إلى “غزّة” ومن “القدس” حتّى “اللّد” ومن “سخنين حتّى “جنين” أمام جحافل الصّهيونيّة حكومة وقيادة وجيشًا ومستوطنين واحتلالًا واستيطانًا وقتلًا وسلبًا واضطهادًا وقمعًا واقتلاعًا وتنكّرًا لحقوق شعبنا بالحياة الحرّة والكرامة الوطنيّة والإنسانيّة.
علي هيبي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة