الأغاني الشعبيّة: إنفعالات وجدانيّة في مخزون ثقافيّ
تاريخ النشر: 11/07/21 | 10:50د. تغريد يحيى- يونس
تتعدّد مراسم العرس الفلسطينيّ وتتنوّع أشكالها عبر الزمان والمكان. من بينها وحدها “طلعة العروس” بقيت أحد مراسيم العرس الأهمّ، والذي حافظ إلى حدّ بعيد على خصائصه والتفاصيل الجوهريّة فيه، مقارنة بتفاصيل المراسيم الأخرى ومكان إجرائها. “طلعة العروس” هي طقس علنيّ بحكم التعريف، فيه يحضر أهل العريس رجالًا ونساء إلى بيت والد العروس، ليأخذوا العروس بعد أن يستأذنوا الرجال من أهلها، وتؤكّد المصاهرة للمرة الأخيرة ويأذن الأهل، ولتنتقل العروس من بيت أهلها إلى بيت أهل عريسها، وثمّ بعد حفلة العرس إلى بيتها، بيت العريسيْن للسكنى فيه.
يقتصر حضور “طلعة العروس” على المقرّبين والمقرّبات من الأهل والأصدقاء والجيران. لا أذكر أنّني حضرت طلعة عروس لا تربطّني بها علاقة ملزمة! يوم الاول من أمس كان لنا موعدًا مع طلعة عروس، بعد سنين منذ المرّة الأخيرة التي حضرت فيها هذه المناسبة. كيف لا وأنا خالة العروس وهي أولى حفيدات أهلي، وليست أكبرهن، وهو العرس الأول لأحفادهم من الجنسيْن.
تعتبر “طلعة العروس” أحد مراسيم القمّة في العرس الفلسطينيّ، مدّتها وجيزة لا تتجاوز الساعة منذ بدايتها وحتّى نهايتها، وهي لا تتجاوز الدقائق منذ حضور أهل العريس في موكب أصطُلح على تسميته “فاردة”، وحتى مغادرتهم غانمين بالعروس. وفيها وبالذات في لحظات القمّة منها يتكثّف استشعار أحاسيس قويّة من الرّهبة والحماس والفرح والشّجن وغيرها من الأحاسيس التي تجيش عامّة في هذا الطقس وتحت ظروف خاصّة إن وُجدت. فيها يُستحضر عمر الابنة-العروس منذ كانت جنينًا ولحظة قدِمت إلى العالم باستقبالها واختيار اسمها، وتفاصيل طفولتها التي تمرّ كما لمح البصر لكنّها تحفر في ذاكرة الوالدين والأهل الذين يرافقون بناتهم وأولادهم في كلّ مراحل حياتهنّ/م بمزيج من تفانٍ ومسؤوليّة ودلال؛ كما وتكثّف اللحظة العلاقات والروابط الأسريّة والعائليّة أيضًا وتؤكّد على موقع كلّ فرد فيها والذي لا يملأه غيره/ا.
تعبّر الأغاني الشعبيّة الخاصّة بطلعة العروس فيما تعبر عن هذه الأحاسيس وعن أمور أخرى لا متسّع لذكرها في هذا النّص القصير. تتولّى الغناء واحدة أو اثنتان من السّيدات القريبات الحافظات للأغنيات، أو القادرات على الغناء لخاصيّة في الصوت، وفي التراث واحدتهن “قوّالة” وجمعهن “قوّالات”، بينما تذكّرهن من يحفظن الأغاني، لتردّد بقيّةُ النسوة الحاضرات وراءها/وراءهن. مثيرة هي الأغاني التراثيّة في المناسبات والمراسيم كافة، وفي طلعة العروس بالذات.
لطالما أحببت تراثنا الغنائيّ وكم تفاعلت معه في أعراس العائلة ومناسباتها منذ صغري. لكن وعلى نحو متزامن ومكمّل لطالما كان موقفي مزدوجًا تجاه التراث إجمالًا وغنائنا الشعبيّ منه منذ وعيت سماعه في المناسبات والأفراح العائليّة من خطبة وتعاليل وسهرة عروس، وسهرة عريس، وحنّة و… وزفّة والعرس نفسه، وعليه فقد كنت نقديّة له وانتقائيّة في تماهيّ معه. راقت لي ألحان كثيرة من الأغاني الشعبيّة، استهوتني كلماتها وتراكيب جملها الغنائيّة، شدّني تطابق المعنى مع الموقف أو الحالة، استنفرتني المفارقات بين الواقع الثقافيّ والاجتماعيّ المعيش ومضمون الأغنيّة، أثّر بي ما يبعث الغناء الشعبيّ بمجمله من حماس وطرب ومشاعر أخرى، أسرتْني تلك اللّحظات التي أخذتْ فيها النسوة قيادة الأمور فَعَلَت أصواتهن منفردة ومجتمعة بحماس أو شجى أو حنان، بكلمات مسجوعة منمّقة. خِلتُهن في طفولتي يصنعن المعنى ويحدّدن وقع سير الأمور. خِلْتُ، لكن سرعان ما بدأ ينكشف لي المنطق الذي بموجبه تصاغ الأغنية الشعبيّة والمنظومة الثقافيّة وشبكة العلاقات اللتان تستبطناها.
على نحو متزامن أثارت بي بعض الأغنيات نفورًا نظرًا لما تمثّل من رجعيّة وما تدعو إليه من عنف، ظاهريًّ او حقيقيّ، وما تصوّر من علاقات اجتماعيّة عمادها الهرميّة والفوقيّة الحقيقيّة او المدّعاة، وما تمثّل أحيانًا من عادات اجتماعيّة بائسة تعيسة، ولما تصوّر من علاقات جندريّة فيها يضرب “الزلمة المرة” وهي تسامحه وتموّه حقيقة الآثار الجسمانيّة لفعله باختلاق سبب آخر لهذه الآثار وأخذ مسؤوليتها عليها، على شاكلة:
“وإن كسر ايدي
لقول وقعت أنا”
او في حالات الحب: “ومن الشباك لرميلك حالي”.
تتحوّل الحالات في الأغاني الشعبيّة إلى صور نموذجيّة في ثقافة المجتمع وتطالَب المرأة كما الرجل بتوفيرها في نفسه/ا بشتّى الوسائل التي تدعو لها، والأغاني الشعبيّة هي الوسيلة الأكثر نفاذًا وفاعليّة نظرًا لانتشارها بين فئات المجتمع المختلفة. كذلك الأمثال الشعبيّة تعمل بنفس المنطق أيضًا. هكذا يتحوّل ما مرّ به أحدهم او مرّت به إحداهن من تجربة فأوجزه/أوجزتْه بجملة قصيرة ذات إيقاع جذّاب ومعنى يخدم الفئة المسيطرة في المكان والزمان، إلى قاعدة أقرب إلى ‘قانون اجتماعيّ’ ملزم. لكنّ الشخوص، والظروف، والزمان والمجتمع، ومعايير السلوك مغايرة في الفئات الاجتماعية المختلفة للمجتمع الواحد، وهي في تغيّر لا يكفّ ولا يقف. ولذا، من المنطق ألّا ينسحب حكم المقولة في الأغنية أو المثل أو الحكمة على طول الأزمان، وعلى كلّ الأشخاص، وفي كلّ الحالات، وتحت كلّ الظروف. وبشكل نقيض قد تكون قوّتها في محاولات انسحابها على كلّ الناس بغض النظر عن الفوارق بينهم وعن كلّ ما ذكر. لكنّ هذا لا يلغي ولا يخفّف التناقضات والمفارقات والهُوّات الصارخة التي يحويها التراث الشعبيّ. وعلى الرغم من ذلك، يبقى بعضه في أوج الراهنيّة والألق، وبالذات حين تنطبق فيه الكلمة التراثيّة مع الحالة العينيّة.
وعلى الصعيد الشخصيّ، كم من مرة في صغري وحتّى صباي أدخلتْني أغاني المناسبات التي غنّتها النسوة المتمكّنات اللواتي بدَين لي كبيرات في السّن في حالة من الحَيرة والبلبلة، حيث لم أفلح في التقاط بعض كلمات الأغنيّة حين حَوَتْ مفردات مغرقة في العاميّة أو موغلة في عمق الثّقافة الماضويّة، لا سيّما وأنّها لم تكن متاحة كتابة ليتسنّى لنا أن نتبّع أو نراجع (☺) او نتعرّف عليها. وبالنتيجة امتنعتُ عن ترديد ما لم أفقهْ، حتّى حين حثّتْ إحدى القريبات بقيّة الحاضرات ب”سايق عليكن الله ردّين!”أو بصيغة آمرة لاكونيّة: “ردّين”، أو تلعثمتُ بالرّد على مستوى المفردة واللّفظ، والأهم بقيتُ في حيرة من الطلاسم التي ما فككتُ أسرارها ولا فقهتُ معناها إلى أن شاء الله واكتسبتُ معرفة ذاتيّة أكثر، فشغّلتُ براديم المقارنة بين العاميّة والفصيحة والتأثير المتبادل بينهما، أو استعنتُ بصديقة، أقصد قريبة كبيرة، أو ببساطة جرأتُ على السؤال؛ فضلًا عن صِلاتيَ الأخرى بالغناء الشعبيّ والتي تضيق المساحة هنا عن ذكرها.
وفّرت لي ليالي التعاليل في الأيام الأخيرة، إذ هي فرحتنا الأولى بحفيد/ة، وطلعة العروس تواصلًا مجدّدًا قريبًا مع التراث الغنائيّ الشعبيّ. والواقع أنّ الغناء الشعبيّ دائم الحضور في مشهد الأعراس والأفراح في مجتمعنا، ولكن للحقّ فإن اختراق مكبرات الصّوت آذانَك وأنت في بيتك يجعلك تعوف/ين سماعها، أمّا إن كنت تحاول/ين التركيز بكتابة جادّة فالوقع أسوأ. بينما فرق شاسع حين تحضر/ين وأنت جاهز/ة نفسيًّا ومتفاعل/ة مع الحدث وللحدث ومندمج/ة فيه، لا سيّما حين تراعَى قوّة الصّوت أو لا تستخدم مكبرات الصّوت كليًّا.
كانت النسوة المتمكّنات من التراث الغنائيّ الفلسطينيّ قد فرغن من غناء إحدى الأغنيات الحماسيّة المؤثّرة الشهيرة الخاصّة بطلعة العروس. تبتدئ الأغنية بتوجّه العروس لأبيها، وثمّ لأخيها، ولعمها وخالها، وفي كل مرة ينتخي لها الواحد منهم ويغدق عليها بالعطاء المعنويّ والماديّ. وحيث انتهت من يغنين، وجدتُني أضيف بصوت “سولو” هذا المقطع من وإلى الأغنيّة لتردّ وتردّد الحاضرات، بينما تهدّج صوتي تأثّرًا بالموقف وكثافة الأحاسيس، خاصّة وأنّني أغنّي لشخص والدي، جدّ العروس لأمّها، وخاصّة أنّه ما هو عليه وما مثّل لنا دائمًا وما يمثّل لنا في هذه المرحلة من عمره وأعمارنا، وببساطة لأنّي بأبي معجبة.
قالت يا حنين يا سيدي … قالت يا حنين يا سيدي
قال لِها سيدي وميدي١ … قال لِها سيدي وميدي٢
مدّ إيده على جاكيته … ناولها حفنة مجيدي ٣
———–
1. تعبير عن الدّعم والثّقة والمسؤوليّة.
2. أسعفتني بها ودلّتني عليها خالة العريس مشكورة وقد حضرت مع ‘الفاردة’.
3. قطع نقديّة فضيّة سمّيت نسبة للسلطان عبد المجيد الأول، حيث سبكت في عهده في العام 1844 ميلادي.
أنا أيضا احب وأفتخر بتراثنا الفلسطيني ولا سيما أغاني النساء بالأفراح والمناسبات الجديدة” بزمن تعم وتغطي المكبرات الصوتية والضجيج والاغاني الحديثة الشبابية كل هذا .ف شكرا لك دكتورة لاهتمامك بهذا الجانب من التراث وشرحه بهذه الطريقة الجذابة للقاريء! فبالسابق أعجبني كناب من تأليف مارية أبو واصل وقمت بشرائه لمناسباتنا, مارية جمعت وكتبت ولحنت وغنت. من بعدها حصلت على كتاب “باقات غنائية تراثية” من اعداد مكتبة باقة, تنقيح لغوي وتقديم الدكتورة هيفاء مجادلة. وقد خصصت لكل فصل المناسبة والاغاني الخاصة به. كتاب رائع جدا……….لمن نسيت الاغاني التراثية أو لم تعرفها اصلا
وأطال الله عمر الوالد والوالدة العزيزين على قلوبنا!
شكرا لك دكتورتنا- اروع من رائعة
شكرًا لتفاعلك ولتعقيبك الطيّب، ريم العزيزة جدا.
سررت جدا بلقائك في أجواء المحبة والأفراح.
دمت وعائلتك بفرح ومحبة وهداة بال.
شكرًا جزيلًا لكلماتك الأروع، آمنة عزيزتي، وشكرًا أجزل لمجرد تواصلك.
(ضاعت مني وسائل التواصل معك!)