متنفَّس عبرَ القضبان (31)
تاريخ النشر: 16/08/21 | 11:49حسن عبادي/ حيفا
بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019؛ ودوّنت على صفحتي انطباعاتي الأوليّة؛ تعاصفنا وتثاقفنا، نعم، وجدت لقائي بهم، بأفكارهم وبكتاباتهم متنفّسًا عبر القضبان.
عقّب الصديق حسام الأحمد: “هذه المعاناة وهذه المآسي والرحيل يرتدي ثوب الفراق بلا وداع ما هي الا أوسمة ونياشين ينفرد بها شعب الجبارين.. فطوبى للراحلة سهى وصبرا جميلاً لأمها المناضلة والصامدة أمام السجان وجلادي الاحتلال البغيض والعزاء الملفع بالدموع لشعبنا الفلسطيني.. وستبقى ذكرى الراحلة في قلوب أبناء شعبها في الصمود والشتات ولا نقول إلا البقاء لله وحده”.
وعقّبت الأسيرة المحرّرة نادية الخياط: “يا لك من محظوظ أستاذ حسن بلقائك تلك الهامات الشامخة رموز العطاء والصمود وتحدي الجلادين. الحرية للأسيرات والأسرى”.
“أودّعكِ بوردة!”
توفيت يوم الأحد 11.07.2021 إثر نوبة قلبيّة سهى جرار (31 عامًا)، ناشطة في مجال حقوق الإنسان، ابنة الأسيرة خالدة كنعان جرار التي تقبع خلف القضبان في سجن الدامون.
التقيت في الآونة الأخيرة الكثير من الأسرى، وفي كلّ لقاء سمعت حسرة أحدهم يحدّثني بحرقة عن عزيز له مات ولم تتح له الفرصة للوداع الأخير، منهم من فقد أبناءه وبناته، ومنهم من فقد أخ أو أخت ومنهم من فقد جدّاً أو جدة، ومنهم من فقد والده دون أن يلقي عليه النظرة الأخيرة قبل مواراته التراب، وساعتئذ تكون حسرته أكبر ولا تكفّر عنها مواساة زملاء الأسر.
مع وفاة سهى رفضت سلطة السجون السماح لخالدة بالمشاركة في الجنازة، كغيرها من الأسرى، وبدأت حملة تضامن عبر (السوشيال ميديا) مناشدة بتحرير خالدة لتكون مع سهى في ساعاتها الأخيرة قبل الدفن، ولكن جبروت المحتلّ وقسوته حالت دون ذلك.
غادرت حيفا عصر يوم الثلاثاء 13 تموز 2021 لزيارة مغايرة لسجن الدامونّ في كرمل يساند حيفا لقهر السجن والسجّانّ. أطلّت الأسيرة خالدة كنعان جرار برفقة منى وباغتتني سائلة: “هات تشوف، شو جبتلي معك؟”.
نقلت لها رسالة زوجها غسان الذي هاتفني من باب المقبرة، واصفًا لها حفل وداع سهى في البيت، جنازتها في المقبرة وتكريمها بجنازة “ما صارت لقائد أو شهيد”، كلمات التأبين، ووصفت لها الإكليل الذي جهّزه أبناء أخيه سهيل ليليق بسهى وكُتب عليه ما أملتهُ: “حرموني وداعك بقُبلة أودّعك بوردة. أمّك المحبّة خالدة”.
نقلتُ لها رسالة أختها منال “خبّرها إنّا كلّنا بناتها، بنحبها كثييير وبنستناّها”، وتعازي الحركة الأسيرة؛ وحدّثتني عمّا شاهدته عبر شاشة التلفزيون، وبعثت معي شكرها للمعزيّن وخصّت بالذكر عمر نزال الذي أعطى سهى حقّها، وخفّف عنها المصاب الجلل، تلك الجنازة التي جسّدت الوحدة الفلسطينيّة.
ذكّرتني أنّها في لقائنا الأخير كانت قلقة على سهى ويافا، وقلت لها إنّه ما زال لديها ابنتان… وأوصت بأن يهتم غسان بصحتّه ويدير باله على يافا، وأن تهتم أخواتها سلام، منال، تهاني، مها وريم بالعائلة… وبالوالدة.
“البنات” في الدامون دايرات بالهن عليها والغرف مفتوحة منذ سماع الخبر، خبر سمعته عبر راديو وطن، كخبر عابر، ولم تستوعبه للوهلة الأولى، وسهى شريط يرافقها منذ ولادتها وغسان سجين، ومحادثتها عبر راديو أجيال يوم الجمعة، برفقة يافا، وكأنّها محادثة وداع.
حدّثني الكثير عن سهى، ولدت ووالدها غسّان خلف القضبان، ورحلت ووالدتها خلف القضبان، طريق آلام ومأساة يوميّة يمرّ بها شعبنا في طريقه صوب الحريّة.
رفضت خالدة مجرّد التفكير بأن تشارك الجنازة بصحبة رجال الشاباك أو حراس سلطة السجون كي لا تتدنّس المقبرة، ولأنّ سهى لن تقبل بهذا ولن تسامحها إن قبِلت.
أوصتني قائلة: “إعطوا سهى ما تستحق، تحدّثوا عنها وعن سماتها وعن روعاتها”.
ما أصعبك يا موت، ويزيد صعوبة ساعة الحرمان من وداع من تحب!
“إهداءات الأسرى”
رافقت الأسيرة منى حسين إغبارية (قعدان) خالدة جرار لمساندتها في محنتها ووافقت سلطة السجون، للمرّة الأولى، أن يكون اللقاء مشتركًا.
بعيد الحديث مع خالدة وتعزّيتها بوفاة ابنتها سهى، تبادلنا التحايا: أوصلتها سلامات الصديق هيثم وأوصلتني بدورها سلامات بشرى، ليان، أماني وصفا، ملك ونورهان؛ حدّثتني عن وضع الصبايا في السجن والدورات التعليميّة والتثقيفيّة والدور الذي تقوم به، مواكبة الطالبات في دروسهن للتوجيهي، وما بعده والتحضير لإدارة البرنامج التعليمي بعد تحرّر خالدة.
منى خرّيجة سجون، فهذه “الحبسة” السادسة لها، الأولى كانت عام 1999 والحاليّة منذ 12 نيسان هذا العام، حدّثتني عن أهميّة التواصل مع الأهل عبر الإذاعة، وحبّذا لو كان بالإمكان زيادة ساعات بثّ برنامج “إهداءات الأسرى” عبر أثير راديو أجيال، لأنّه بات نافذة التواصل الوحيدة مع العالم الخارجي في حضرة الكورونا، حرمان زيارات الأهل وغياب المحامين.
تناولنا مشروع “لكلّ أسير كتاب”، أهميّة الكتاب للأسيرة ورغبتهن بتزويدهن بالكتب، على أنواعها.
حدّثتني عن الألفة بين الأسيرات، على جميع الأطياف، فسجن الدامون يشكّل فسيفساء الكلّ الفلسطيني.
حمّلتني سلامات وأحرّ التعازي لأبي يافا (غسان جرار) منها ومن كلّ زميلاتها في الأسر.
لكن عزيزاتي خالدة ومنى كلّ التحايا، والحريّة لك ولجميع أسرى الحريّة.
تموز 2021