متنفَّس عبرَ القضبان (33)
تاريخ النشر: 30/08/21 | 13:51حسن عبادي/ حيفا
بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019؛ ودوّنت على صفحتي انطباعاتي الأوليّة؛ تعاصفنا وتثاقفنا، نعم، وجدت لقائي بهم، بأفكارهم وبكتاباتهم متنفّسًا عبر القضبان.
عقّب الكاتب سمير أيوب: “بوركت أخي العزيز، مشروعك أكثر من رائع، الغار والمجد والحرية لأسرانا أبطالنا البواسل، وإن غدا لناظره قريب إن شاء الله . تحياتي لعيون البنادق في الأسر ولك ولكل من يشعل شمعة في هذا الإعتام الوطني الأوسلوي البائس”
وعقّب الشاعر صلاح أبو لاوي: “صباح الحرية ستشرق الشمس ذات تحرير وحرية ونهدم الجدران الى الأبد، فلا يليق بهذه القامات الوطنية العالية إلا ضوء الشمس وهواء الجليل. بوركت أيها الحسن الأصيل”
“زُويرا”
غادرت حيفا السادسة صباح خميس 29 تموز 2021 لزيارة أسرى في سجن نفحة الصحراويّ، ورافقني الصديق مصطفى نفاع لتخفيف مشقّة السفر الطويل في حرّ تمّوز. انتظرت في غرفة المحامين فأطلّ مبتسمًا، الأسير عمار محمود سلمان عابد، التقيته للمرّة الأولى، لينقضّ على سمّاعة بائسة صدِئة مرحّبًا: “وهاي كمان ابتسامة انتفاضة تقهر السجّانين”.
حدّثني بدايةً عن طقوس الصباح، سماع برنامج أقوال صحف “المقاطيع”، وبعدها رياضة صباحيّة وتحضير موّاد طبخة اليوم، فهو “طبّاخ شاطر”، حسب قوله، وطبخة البارحة كانت شوارما دجاج، ووصف لي مطوّلا حلويات العيد التي أعدّها (خمسة أنواع، “لازم نعيّد نكاية بالسجّان”)، لكن الإدارة منعت توزيعها بصينيّة في الساحة، كما منعت تقديم القهوة من الإبريق، لمنع مراسيم الفرح.
حدّثني عن القراءة والتحضير للماجستير من خلف القضبان في العلوم السياسيّة.
حياة السجن تفاصيل التفاصيل، فلم يكفِه أنّي من حيفا، طلب وصف البحر والميّة وتلاقيهم مع الكرمل، “فالروتين أفقدني قيمة حيفا وبحرها”، على حدّ قوله، ومن هنا جاءت حياة الأسير اليوميّة تفاصيليّة.
فاجأني سائلًا: “متى أكلت البطّيخ آخر مرّة؟”. ليخبرني أنّه أكله في السجن قبل 15 عاماً، فالبطيخ والشمام ممنوع لأسباب أمنيّة لئلّا يتم تهريب أسلحة نوويّة داخلها، والجوافة والكرز ممنوعة لأنّها نوع من الترف، وكذلك الملوخيّة الخضراء، وهم بصدد تقديم التماس للحصول عليها وعلى ملوخيّة صندلة.
تناولنا مشروعه الأدبي؛ “زُويرا” وتصوير السجن وحياته من زيارات على أنواعها ووصف الزنزانة والساحة والغرف والحمامات والبوسطة والكرت التعريفي الخاص وما يميّزه إرفاقه ب- 100-120 صوره، “مِنحة المِحنة، إشراقات قلم من وحي الألم”، “المعمعة، فترة التحقيق والسجن”، “من عبق القدماء وأقوال الحكماء” وغيرها من أفكار.
لك عزيزي عمار أحلى التحيّات، والحريّة لك ولجميع أسرى الحريّة.
خذلان واغتراب
التقيت صديقي حسام زهدي شاهين مباشرةً بعد لقائي بعمار عابد، هادئًا مبتسمًا، حليقًا أنيقًا، كان يمارس رياضة الصباح حين أعلمه السجّان أنّ له زيارة محامي فأخبر حدسه أنّه حسن، أسرع ليستحم ويحلق ذقنه، يتزيّن ويتعطّر للقاء.
استفسر بداية عن مشقّة السفر وأفراد عائلتي، سميرة والبنات والأحفاد، وأخبرني عن لقائه بداية الأسبوع بتوأم روحه، أخته نسيم، بعد انقطاع كوروني وأمني لفترة طويلة، زيارة ولقاء مشحونان ينقصهما دفء الاحتضان والعناق، والوالدة وريما وسوسن اللواتي لم يلتقِهن سنوات عديدة.
تحدّثنا عن حالة الخذلان والاغتراب، والصدمة من الواقع خارج السجن، فالشعور بالاغتراب يشكّل بداية انهيار المشروع الوطني، والممارسات السيّئة للتنظيمات جعلتنا أمام منعطف حقيقي صادم، يشعره أن الوطن مسروق.
تحدّثنا عن اهتمام الأسرى بالوضع الاجتماعي ومحاولتهم المساعدة عبر مصروف الكانتينا.
شعرت بخذلانه من التسويفات المؤسّساتيّة والوعود العرقوبيّة لإطلاق “رسائل إلى قمر”، فلم تصل غزّة كما وعدوه مرارًا وتكرارًا ولا مخيّم بلاطة، ووعدته بترتيب أمسية إطلاق خلال شهر آب.
نعم يا حسام، أهم شيء بالسعادة التعبير عنها. شكرًا لك لأنّك أسعدتني.
لك عزيزي حسام أحلى التحيّات، إلى حين نلتقي في حيفانا التي تعشقها.
“نِسيونا”
التقيت الأسير محمد يوسف المقادمة، بتوصية من صديقي أديب النابلسيّ، مباشرةً بعد لقائي بعمار عابد وحسام شاهين، جاءني ملهوفًا للقائي مستغربًا من المحامي الذي ينتظره، فمنذ سنوات لم يلتقِ بالعائلة (محمد من مخيم البريج، قطاع غزّة) ولم يزره محامٍ أو أيّ كائن آخر، وقالها بحرارة: “إحنا منسيّين”.
حدّثني عن الأسر والحياة خلف القضبان، فهو أسير منذ 12.09.2001، وعن حرقته لحرمانه وداع أعزّاء يموتون، والحصار المستمر للأهل في غزة… مكتوب علينا التعب.
حدّثني عن شغفه بالقراءة وطقوس الكتابة، وخوفه الدائم من فقدان المادّة التي يكتبها أو مصادرتها.
“بنِكتب من الوجع!”، الكتابة متنفّس للأسير وللناس خارج السجن، يشعر أنّ الأسير صوت من لا صوت لهم.
تناولنا مشروعه الثقافي/الأدبي؛ “خارج الصورة”، “تجاعيد حسناء”، “في حضرة الأنا وتجلّيات النصّ”، و”الهروب نحو الغروب”. كتب صدرت وأخرى لا يعلم مصيرها. قرأ لي نصوصًا كتبها ويحفظها غيبًا ويحلم بنشرها ليقرأها القريب والبعيد، ويؤمن أنّ مصداقيّة الكاتب في أن يكتب في كلّ المجالات. الحياة وجهات نظر.
لك عزيزي محمد أحلى التحيّات، وآمل بحريّة قريبة لك ولكافّة رفاق دربك الأحرار.
تموز 2021