ناجي و”حنظلة” توأمان للقضية والهوية – بقلم: أحمد حازم
تاريخ النشر: 31/08/21 | 12:02في الثاني والعشرين من شهر تموز/يوليو عام 1987 تعرض الفنان الرسام الفلسطيني ناجي العلي لإطلاق نار من مسدس كاتم للصوت في أحد شوارع العاصمة البريطانية لندن، التي يسمونها عاصمة الضباب، وفي التاسع والعشرين من الشهر نفسه أعلنت السلطات البريطانية خبر وفاته. قتلوه ليسكتوه لأنهم عجزوا عن إسكاته بالتهديدات. قتلوه لأنهم لم يتحملوا أبعاد رسوماته التي كانت تحكي عن الواقع الفلسطيني وما فيه من فساد ومحسوبيات وتدخلات. قتلوه لأنه لم يمش في الطريق التي أرادوا له أن يسير عليها فنياً وسياسياً ولإن “حنظلة” أزعجهم.
لا يفهمون سوى لغة القتل في التخلص من معارضيهم. لا يستوعبون وجود رأي ورأي آخر. قتلوا الصديق أبا خالد وبحثوا فيما بعد عن القاتل وكأنهم لا يعرفون من أطلق رصاصات الغدر عليه. يقتلون القتيل ويسيرون في جنازته. قتلة،لا يتوانون لحظة في إسكات الصوت المؤثر، وزعران في تصرقاتهم وسلوكياتهم.
الصديق الراحل ناجي العلي لا يزال لغاية الآن بعد مرور أربعة وثلاثين عاماً على استشهاده أحد الشخصيات الفلسطينية البارزة، التي يفخر التاريخ الفلسطيني بضم اسمه في صفحاته. كلهم كذابون عندما يقولون أن مجهولاً اغتال الراحل ناجي العلي. كلهم كذابون بما فيهم الشرطة البريطانية.
جهاز الشرطة البريطانية (سكوتلانديارد)، المعروف على الصعيد المحلي والدولي بأنه أحد أقوى أجهزة الشرطة في العالم، نجح في الكشف عن قضايا كبيرة ومعقدة. ولكنه، رغم قوته، لم يستطع الكشف لغاية الآن (!!)، عن قاتل ناجي العلي. هم يدعون ذلك لكنهم يكذبون لأنهم لا يريدون قول الحقيقة، بمعنى لا يريدون الكشف عن الجهة التي كانت وراء عملية الإغتيال.
لقد عرفت الراحل عن قرب والتقيته مرات عديدة في بيروت، وآخر مرة في لندن، التي أرغم الراحل “أبو خالد” على السفر إليها بترتيب خليجي مع جهة فلسطينية. قلت له ذات يوم إن قبوله بالبقاء في لندن، حسب اقتراح صحيفة “القبس الدولي” التي كان يعمل بها في الكويت، كان قراراً خاطئاً لأن لندن، “مربط خيول العرب”، كانت وقتها إحدى العواصم التي يسهل فيها تنفيذ عمليات اغتيال. لم يأبه الراحل للتهديد بحرق أصابعه بالأسيد، والذي ورد على لسان قائد فلسطيني كبير. فرد الراحل عليه بقوله المشهور: “يا عمي لو قطعوا أصابع يدي سأرسم بأصابع رجلي”. كان الراحل يؤمن بأن الله وحده يعرف الساعة التي لا مفر منها حتى لو كان الانسان في أبراج محصنة.
في أواخر السبعينات، وطيلة سنوات الثمانينات، عملت محرراً في وكالة أنباء ألمانية، وبقيت علاقتي مستمرة مع الراحل ناجي العلي. وكنت أعرف في داخلي، أن عملية إبعاد ناجي العلي من الكويت إلى لندن كان الهدف من ورائها التخلص منه.
الصدق كان من أهم صفات ناجي العلي، الذي لم يعرف النفاق والخداع والمداهنة، وفي الوقت نفسه لم يرحم المتلونين، وهذا النوع المستقيم من البشر تكثر خصومه، الأمر الذي سبب له مشاكل حتى مع الرئيس الراحل عرفات الذي كثيراً ما أرسل له تحذيرات، كما أخبرني الشاعر الكبير الصديق عز الدين مناصرة رحمه الله.
ذات مرة وكما أذكر في النصف الأول من شهر يوليو/ تموز عام 1987 كنت في زيارة لجزيرة قبرص، وأجريت اتصالاً مع الراحل “أبو خالد” من هاتف عام في أحد شوارع مدينة لارنكا. وعندما أردت إنهاء المكالم لنفاذ القطع النقدية الصغيرة، قال لي الراحل: “مالك يا زلمي مستعجل.. خلينا ندردش كمان شوي”. وبعد أيام قليلة من محادثتنا، تعرض الراحل لعملية الاغتيال وكانت بالفعل آخر مرة تحدثنا مع بعض. ولا أزال ألوم نفسي لغاية الآن لعدم إطالة الحديث معه.
الراحل ناجي العلي خلق شخصية الطفل الساخر “حنظلة” الذي أصبح الرمز الأكثر شهرة في الرسم الكاريكاتوري. وما كتبه الراحل على لسال “حنظلة” ينطبق على الوضع السياسي الحالي، فلسطينياً وعربياً. فقد كان “أبو خالد” يرى في “حنظلة” رمزاً يمثل الانهزام والضعف في الأنظمة العربية. ولذلك أصبح هذا الرمز يتمتع بشهرة عربية وعالمية مثل صاحبه، وسيبقى ناجي وحنظلة توأمان للقضية والهوية.
رحمة الله عليك أبا خالد، يا ضمير فلسطين الخالد