من دلفة الشرطة الى مزراب المستعربين
تاريخ النشر: 03/09/21 | 10:25جواد بولس
اعلنت شرطة اسرائيل يوم الثلاثاء الماضي عن بدء عمل وحدة “مستعربين” سرية ضد العصابات الاجرامية في جميع انحاء البلاد وضد اعمال العنف والشغب ومكافحة الارهاب، خاصة في البلدات العربية.
وقد اطلق على الوحدة اسم “سيناء” وتم تجنيد عناصرها من ثلاثة مصادر رئيسية: الاول، قادة وضباط ومقاتلون خدموا في وحدات “حرس الحدود” التي نشطت في الاراضي الفلسطينية المحتلة وفي المناطق المتاخمة للحدود مع قطاع غزة؛ والثاني من مجموعات المقاتلين الذين خدموا فيما يسمى ” الوحدة التكتيكية” الخاصة؛ أمّا الباقين فجنّدوا الى وحدة “حرس الحدود” من بين الوحدات الخاصة في الجيش.
لقد جاء اعلان الشرطة المذكور بعد اعلانها قبل اسبوعين عن اقامة وحدة “سيف” لمكافحة الجريمة والعنف في المجتمع العربي وتعيين اللواء جمال حكروش رئيسًا لها.
تعكس هذه القرارات حالة التخبط والهلع الذي بدأ يتسرب الى صفوف قادة الشرطة الاسرائيلية؛ فتزايد وتائر العنف وأعداد الضحايا في معظم البلدات العربية، وبروز بدايات النشاط الاجرامي ضد مصالح بعض المواطنين اليهود، أو ضد بعض المسؤولين الرسميين، دفع ببعض الجهات الأمنية الى إعادة النظر في فهمها التقليدي لتلك الظواهر ولاحتسابها مجرد “مصائب قوم عند قوم فوائد”، أو وفق منطق مفاده، فليقتل العربُ العربَ، وليصرخ دمهم كي يعيشوا بخوف وبدون استقرار.
من الصعب أن نعرف اليوم عمق هذا التحول المفاهيمي ومن يدفع باتجاهه داخل دهاليز المؤسسة الحاكمة؛ ولكن من الجدير أن نتابعه بعناية وأن نتحقق من جدّيته، خاصة بعد أن بدأنا نسمع مؤخرًا عن تحوّلات لافتة في مواقف بعض القادة السياسيين والمسؤولين الأمنيين الذين اعلنوا بلغة قاطعة عن قناعتهم بأن ازمة تفشي العنف والجريمة في المجتمعات العربية بدأت تهدد أمن وسلامة الدولة، فنتائجها الكارثية سوف تؤثر على تماسك المجتمع في الدولة وعلى مكانتها وتأثيرها بين جميع المواطنين.
مع اعلان المفتش العام للشرطة عن اطلاق وحدة المستعربين “سيناء” وبدء نشاطها داخل البلدات العربية، اعلنت، مباشرة، عدة شخصيات قيادية ومؤسسات مدنية عربية معارضتها للقرار الذي اعتبر استفزازًا مدروسًا بحق المواطنين العرب.
كل ما قيل ضد هذا القرار صحيح، ويبرر ضرورة معارضته بالمطلق، تمامًا كما فعل رئيس اللجنة القطرية للرؤساء، المحامي مضر يونس، الذي أكد “على انه لم يتم طرح فكرة الاستعانة بوحدة “المستعربين” من قبل الطواقم الحكومية وقيادة الشرطة الاسرائيلية خلال المشاورات والاجتماعات التي عقدت مع وفد لجنة الرؤساء القطرية حول الخطة الحكومية لمكافحة العنف والجريمة؛ وذلك على الرغم من ان الشرطة ذكرت انها ستستعين بوحدات خاصة لمكافحة العنف والجريمة دون اي ذكر لطبيعة تلك الوحدات ودون ذكر وحدة المستعربين”. في الواقع تكفي هذه الشهادة برهانًا على ان قرار اقامة “وحدة المستعربين”، لم يأت كنتيجة لتغيير جذري في عقلية جهاز الشرطة ازاء حق المواطن العربي بالعيش بأمن وبحرية وبكرامة ومن دون خوف؛ لا سيما انه أُسقط “من فوق” ومن دون اعدادت مسبقة لتسويغه، علمًا بأن الجميع يعرف عن “ثقافة كراهية العرب” التي تربت عليها وحدات “المستعربين”، ودورها التاريخي في نشاطات المنظمات الصهيونية، وممارساتها المتواصلة ضد المواطنين الفلسطينيين في الاراضي المحتلة، وخلال المواجهات الاخيرة في شهر أيار المنصرم.
لقد برزت، الى جانب بيانات الساسة والقياديين، رسالة طارئة بعثها مركز “عدالة الحقوقي” الى المستشار القضائي للحكومة الاسرائيلية، افيحاي مندلبليت، والى مفتش الشرطة العام ، يعقوب شبتاي، يطالبهما من خلالها بالعدول عن قرار اقامة “وحدة مستعربين تعمل في البلدات العربية” مع التشديد عى ان قرار اقامة تلك الوحدة يعتبر “عنصريًا وغير قانوني” ، كما واشار المركز الى “انعدام صلاحية الشرطة باقامة مثل هذه الوحدة والى ان القرار في هذا الشأن هو قرار عنصري يقع في خانة التنميط العنصري ويخلق نظامين لتطبيق القانون ، واحدًا في البلدات العربية وتجاه المواطنين العرب، وآخر في سائر البلدات”.
لا أعرف كيف ستتابع “اللجنة القطرية للرؤساء” هذه القضية المقلقة، مع ان رئيسها، مضر يونس، كان قد اعلن انه “سيجري مشاورات وسيدعو الى جلسة للجنة القطرية ولكافة الهيئات والفعاليات الناشطة بهدف التباحث حول التطورات واتخاذ موقف موحد ضد الزج “بالمستعربين” في البلدات العربية”. فمع ايماني الكامل بأهمية هذه الخطوة وبصدق وجدية صاحبها، يبقى الرهان على نجاحها في حكم المغامرة المستحيلة، لأننا نعرف ما تعانيه معظم مجالسنا البلدية والمحلية، حتى اننا لا نخطيء اذا قلنا في حالة بعضها مجازًا : “من غص داوى بشرب الماء غصته.. فكيف يصنع من غص بالماء”. ويكفي اللبيب غصة كي يفهم.
بالمقابل، يحظى “مركز عدالة الحقوقي” بمكانة خاصة بين قطاعات نخبوية محلية وخارجية واسعة؛ ويتمتع أيضًا باحترام واضح داخل “الكاتدرائية القضائية” الاسرائيلية. فلقد واكبت طواقمه، خلال سنوات عمل المركز الطويلة، جملة من القضايا العربية العامة الهامة، امام محاكم الدولة؛ وقد احرز المركز ، في هذه المسيرة، عددًا من الانجازات، وواجه معها طبعًا عددا من الاخفاقات، وذلك كما يتوقع في حالة صراع مع نظام حكم عنصري ومع جهازه القضائي الظالم والمنحاز بشكل سافر وواضح.
أقول ذلك متوخيًا ألا يكتفي “مركز عدالة” وهو المتخصص في الدفاع عن حقوق الاقلية العربية داخل اسرائيل وصاحب الخبرة والرؤى التقدمية والمواقف الطليعية، بمطالبته المذكورة، ولا بالتوقف عند رفضه لاطلاق وحدة المستعربين ولا بالتأكيد المحق على عدائية الشرطة واجهزة امن الدولة، بل عليه أن يتجاوز هذا الدور والانتقال الى المبادرة لوضع تصور قانوني حقوقي شامل يتم فيه التعرض الى هذه الآفة من جميع جوانبها.
يعيش مجتمعنا حالة ارهاق خطيرة؛ فعلاقاته مع الدولة، من دون الدخول في تفاصيلها، تخطت، من جهة، عتبة الالتباس الهوياتي والتجاذبات التقليدية، ووصلت الى حالة من التنافر الصادم والعدائية الحتمية، وفقد، من جهة ثانية، معظم المظلات السياسية الحامية، والمرجعيات الاجتماعية الرادعة، والأحزمة القيمية الواقية.
وفي غياب دور الدولة الطبيعي في حماية مواطنيها، وجدت عناصر الاجرام، على اختلاف انتماءاتها ودوافعها، تربة خصبة، فتكاثروا مثل الشر المنفلت، مستفيدين من اهمال وتواطىء مؤسسات الحكم وغض ابصارها عن الدماء المسفوكة في شوارع بلداتنا وعن استشراء العنف واشاعة حالة الهلع بين المواطنين.
قد تتيح هذه الأيام فرصة أمام “مركز عدالة” لاطلاق مبادرة تاريخية تتناول قضية استفحال الجريمة والعنف المستشري ولتضع رؤية مهنية جدية وجريئة حول مسبباتها، ومقترحات لكيفية مواجهتها؛ مع التأكيد على سياسات حكومات اسرائيل المتعاقبة ومسؤليتها عن تناميها وعدم مواجهتها ومحاربتها ومعاقبة المتورطين فيها؛ وفي نفس الوقت تتضمن تشخيصًا صريحًا لمفاعيلها المحلية.
قد تكون هذه المهمة كبيرة على “مركز عدالة” لوحده، لكنه يستطيع، بسبب قدراته ومكانته وخبرته، ان يشرع بها، وأن يدعو لمساهمة عناوين اخرى، معنية وقادرة، لتأخذ دورها في هذه المهمة الكبرى .
قد تكون هذه الأيام مواتية؛ فعلى ما يبدو بدأت بعض الجهات داخل المنظومات، الامنية والسياسية، التي ترسم سياسات الدولة الاستراتيجية، تستشعر خطر هذا الانفلات الجرائمي الجهنمي المتفشي في المجتمع العربي، على سلامة وامن مجتمعاتهم اليهودية؛ ولنا فيما أعلنه وزير القضاء، جدعون ساعر، قبل يومين، اشارة بليغة، قد تشي بما يجري هناك . فعندما خاطب موظفي وزارته بمناسبة الاعياد حثهم قائلًا : “أعطوا الأولوية لمحاربة منظمات الاجرام ، زوّدونا بمزيد من الآراء .. نحن بعيدون عنهم، لأسفي، مسافة سنوات. هذه حرب على مستقبل اسرائيل، فنحن كدولة لا نستطيع ان نسلّم بوجود مساحات في النقب والجليل وجنوب تل ابيب واللد، تعيش خارج نطاق سلطتنا. على جميع مؤسسات الدولة ان تتجنّد لمقاومة هذا النوع من الارهاب. كل يوم انا اتذكر ان بعض المواطنين في اسرائيل يعيشون في حالة خوف ولا يحظون بحماية القانون. هذا الوضع يبعد النوم عن اعيني”. ثم أوجز حاسمًا وواضحًا بما بدأ، هو وغيره، من قادة ومسؤولين يشعرون به، فقال: “لقد صاروا موجودين هنا، وليس فقط داخل المجتمع العربي. بنظري هذا هو التهديد الاكبر على مستقبل دولة اسرائيل”. ما أوضح ما قال!
لا اعتقد ان تصريح الوزير ساعر جاء من فراغ، أو بهدف المزايدة، ولا لأنه يسعى إلى تحسين صورته بين العرب وامام العالم. فمن أراد ان يصدقه ليدق أبواب وزارة القضاء، ومن لا يريد تصديقه فليتجهز لمعركته القادمة مع وحدات “المستعربين”، ولنستخر النائب منصور عباس؛ عساه يأتي من عندهم الفرج، فلا خاب من استخار..