بين اياد شفا عمرو وعزيز عمان، ميدالية واعتذار
تاريخ النشر: 10/09/21 | 8:31جواد بولس
البطل اياد، “يا باي”
لقد حظيت اخبار فوز الشاب اياد شلبي ابن مدينة شفاعمرو بميداليتين ذهبيتين في اولمبياد طوكيو لذوي القدرات المحدودة، بأصداء ايجابية لافته في الاعلام العبري والاعلام العربي على حد سواء. ويعدّ هذا المديح المضاعف في حياتنا، مؤشرًا لغرابة الحدث أو لكونه “شاذا”؛ ويعكس، في واقعنا المركب، اشكالية تتخطى تبعاتها شؤون الشخص نفسه او حتى عائلته أو مدينته. نحن امام دليل آخر على تعقيدات علاقاتنا مع الدولة؛ فاياد شلبي، المواطن المسلم العربي، فاز باسم دولته اسرائيل بميداليتين ذهبيتين واستلمهما، على ايقاع نشيد هتكفا الصهيوني، كبطل اسرائيلي “كاشير”. مع ذلك قامت عدة قيادات وشخصيات عربية بتهنئته على انجازه الكبير، فكتب ابن مدينته، محمد بركة، رئيس لجنة المتابعة العليا: “الان شفاعمرو تحتفل بعودة ابنها وابن جماهير شعبنا كله، البطل العالمي اياد شلبي. اياد حقق ميدالتين ذهبيتين في اولمبياد طوكيو لذوي القدرات الخاصة. فخورون بإياد وفخورون باهله الاعزاء الكرام”. وقامت عدة مرجعيات رسمية اسرائيلية في نفس المناسبة بتهنئته بحرارة، برز من بينها رئيس الدولة، يتسحاك هرتسوغ، ووزير الثقافة والرياضه، حيلي طروبر، الذي اعلن بدوره: “انه انتصار كبير. كل التهاني لسبّاحنا الاسرائيلي.. اياد هو شخص مثير للاعجاب. نحن فخورون بك اياد شلبي”.
سيبقى، رغم هذا الاشتباك، ايادنا بطلًا عالميًا ويستحق تقديرنا واعجابنا.
عزيز مرقه، “يا باي”
لا اعرف لماذا نشر، قبل يومين، الفنان الاردني عزيز مرقة، صاحب الاغنية الشهيرة “يا باي” على حساب الفيسبوك الخاص به اعتذارًا يبدو، من حيث موضوعه وتوقيته الحالي، غريبًا ومستهجنًا ومثيرًا للشفقة ؛ حيث جاء فيه: “أود أن اعتذر عن أسفي الشديد واعتذاري الاكيد عن الاخطاء التي اركتبتها دون تثبت منّي للظروف التي أحاطت بالفعالية التي اقمتها بتاريخ 2019/12/16 لأهلنا في كفرياسيف المحتلة من الداخل الفلسطيني، بناء على دعوة من بلديتها، وأوكد انني ضد التطبيع بكل أشكاله، قولًا وفعلًا، وانني التزم من الأن فصاعدًا بالمعايير التي اجمعت عليها الهيئات المناهضة للتطبيع مع العدو الاسرائيلي، وانني أوكد انه لم يكن لدي في أي وقت من الاوقات علاقة بالكيان الصهيوني .. انني اتحمل مسؤولية جميع الاخطاء المتعلقة بي من هذه القضية، ومرة اخرى اعتذر من كل قلبي لاهلي وشعبي الفلسطيني وامتي العربية عن تلك التجربة المريرة التي آلمتنا جميعًا” ! لقد أعادنا هذا المنشور إلى ملابسات حدث جرت تداعياته على خلفية احياء الفنان عزيز مرقة حفلًا غنائيًا ناجحًا اقيم، في نهاية العام 2019، في قرية كفرياسيف الجليلية، حل فيه ضيفًا على أهل الجليل وشاركهم الفرحة ملبيا دعوة مجلس القرية المحلي، كضيف خاص على هامش احتفالات “الكريسماس ماركت” التي استمرت فعالياتها الثقافية والفنية لمدة أربع ليال متتالية.
لن أنهك القراء بتفاصيل تلك الحادثة؛ ففي حينه تعرّض الفنان الأردني/الفلسطيني، بسبب تقديمه للعرض الفني في كفرياسيف، الى هجوم كاسح من قبل نشطاء يعملون فيما يسمى “اللجنة الفلسطينية لمقاطعة اسرائيل من الداخل”(BDS 48)” ؛ وعلى الرغم من الظلم الذي سببه ذلك الهجوم عليه واتهامهم الجائر له بالتطبيع مع العدو الصهيوني، أعلن هو في حينه عن اعتذاره الصريح، وذلك لاعتبارات يستطيع كل مواطن عربي واع وصادق مع نفسه، أن يتخيّلها، وثم طلب ممن هاجموه العفو وصك غفرانهم.
ما زال، على ما يبدو، عزيز مرقة ملاحقًا بسبب تلك الزيارة من قبل بعضهم في بلده، أو ربما في محافل أخرى، وما زال يدفع ثمن غنائه على أرض الجليل؛ فلولا معاناته المستمرة حتى هذه الأيام، هكذا افترض، لما اضطر، بعد مرور قرابة العامين، ان يكرر نشر اعتذاره الآنف، وبلغة محزنة تذكرنا بأجواء محاكم التفتيش البغيضة وبما ساد في مجالس أمراء الاستبداد. ومن المؤسف، في نفس الوقت، ألا نسمع أصواتًا تدافع عنه وعن أمثاله، ليس من أجل انصافهم، كفنانين أحرار، وحسب، بل من أجل تصويب حالة عربية مشوهة يشوبها كثير من الالتباس والخلل؛ وأقصد تلك الحملات والملاحقات التي تشنها ما تسمى “اللجان الفلسطينية لمقاطعة اسرائيل من الداخل ( BDS 48)”، وما تثيره مواقفهم احيانًا من نقاشات زائدة، وتتيحه نصوص لوائحهم التوجيهية من مغالطات وفرص للمزايدات والبلبلة التي خلقت في بعض الحالات وتخلق الفوضى في صفوف المناصرين لنضالات المواطنين العرب داخل اسرائيل، وتضر بنشاطاتاهم الاجتماعية والثقافية التي تهدف الى المحافظة على هويتهم الثقافية الجامعة العريقة، والى ترسيخ وجودهم الصلب في وطنهم.
من المؤسف أن يضطر بعضنا، من حين لآخر، الى العودة ومناقشة تلك اللجان وحثها على ضرورة اعادة النظر في منطلقاتها نحونا، نحن المواطنين العرب في اسرائيل، والتدقيق مجددًا فيما يضعونه، جزافًا، من مساطر تحرّم علينا وعلى غيرنا القيام او عدم القيام بفعل ما، تحت يافطة مقاطعة اسرائيل، العدو الصهيوني.
فعزيز مرقة لم يأت إلى كفرياسيف مطبعًا مع العدو الصهيوني، بل على العكس تماما، فهو حين وقف على المسرح قرب ساحة السوق الكفرساوية الشهيرة وحيا فلسطين وهو يضم كوفيتها بعفوية ساحرة روى حناجر الشباب بحماس وأسقاها حبًا أعاد إلى ربوع الجليل وعد أبائنا الصادق، ولكن .. ما دمنا في حضرة اعتذار جديد لابن الاردن بسبب الظروف التي أحاطت بفعاليته في كفرياسيف، على حد تعبيره، ، أودّ تذكيره كيف تماوج آلاف الشباب على وقع “دمعته” السخية وهي تغني لهم بفرح جليلي فريد؛ وكيف وقفت الحشود أمامه وقبل مجيئه، على مدار أربع ليال متتالية، كي تنشد للحرية أهازيج من عزة، وترقص بفرح على ايقاعات الجمر الذي أوقده قبله وقبل ميلاد صرعات المقاطعة والتحريم، شاعر صبغ الوطنُ سمرةَ وجهه، فصرخ في وجه القهر والقمع والرصاص معلنًا في احد مهرجانات كفرياسيف التاريخيه: “اليوم جئت وكلنا سجناء فمتى اعود وكلنا طلقاء” ؛ هذا هو راشدنا، فهل تعرفتم عليه في بلادكم وهو ينفخ في رماد العرب ويتحلّف دولة القهر ويتوعدها صارخا : “سنفهم الصخر ان لم يفهم البشر”.
نحن يا عزيزنا، في كفرياسيف وأخواتها، الرابضات من اعالي جبال الجليل حتى آخر خيمة ساهمة في رمال النقب، ولدنا كأبناء للقلق؛ فعلّمنا أجدادنا الذين رفعوا في وجه الليل المناجل وخاطوا من الكرامة للوطن كوفية، أن نرفض الذل والتذلل، وعلّمونا، أيضًا، كيف نعتصر الأمل من بطن غيمة ساهرة لتحرس ساحات البلد.
أنا لا أعرف من او ماذا يجبرك، في هذا الصيف المريض، على نشر اعتذارك بهذه النص المستفز لكل حر؛ ولكن عليك أن تتيقن بأن حضورك وغناءك بين أهلك في الجليل، بخلاف لو غنيت في احتفال ترويجي للمؤسسة الصهيونية او لعملائها، لم يكن تطبيعًا مع دولة العدو الصهيوني؛ واعلم كذلك بأن صدى تلك الليالي، رغم ضجيج من هاجموك ورغم اعتذاراتك، بقي في صدور جيل علمه الكبار قبلك وقبلهم كيف تلاطم أياديهم المخارز، وعلموهم الا يرضخوا لهرطقات مستوردة عرجاء ومغرضة، ولا لسفسطائيات هوجاء ونزقة.
لقد اعتذرت يا عزيزنا في حينه أمام قلة هاجمتك لأنك غنّيت للحب في ساحات كفرياسيف، التي كانت كما وصفها حاديها محمود درويش “بالبيت والطريق”، فأحزنتنا وأبكيت نجوم الجليل ؛ أو لم تكن تعلم أنك وقفت ليلتها في حضن التاريخ، وغنيت في احدى قلاعه المنيعة التي وقف على أبراجها “السميح” وخاطب سماءها قائلًا: “أنا لا أحبك أيها الموت .. لكنني لا أخافك”؛ وتألق في رحابها قبله رفيقه سالم جبران حين علم الكون درسًا في حب الوطن وانشد: “كما تحب الام طفلها المشوه أحبها ..حبيبتي، بلادي”. فهناك قريبًا من حيث وقفت أنت، أشهرَ “الدرويش” هويته في وجه الحاكم الاسرائيلي العسكري وأمره: “سجّل أنا عربي”. أولئك، وأمثالهم كثر، هم أهلي وهم بناة هوية شعبي/ك الثقافية؛ فقل لي بربك، يا عزيز، امام من اعتذرت ؟
وأخيرًا ، أعرف أن القضية لم تبدأ بزيارتك الينا ولن تنتهي عند مخاضات التطبيع والتتبيع؛ ولذلك ستبقى محاولات اخضاع مجتمعنا العربي في اسرائيل لمفاهيم المقاطعة الثقافية من خلال استنساخ تجارب هجينة لا صلة لنا فيها، هي مجرد محاولات عاقر لا يمكن أن تلد الا الاعتذارات أو المناكفات التي تستفيد منها في النهاية اسرائيل.
لن استعيد اليوم قوائم معضلاتنا التي تنتظر تفكيكها ومواجهتنا لها بجرأة وبحكمة، ولكنني سأكتفي بالعودة الى ما بدأت فيه؛ فاياد الشلبي بطل ذهبي شفاعمري احتضنته اسرائيل بكل دفء ورعاية، ويحتضنه، أهله وابناء شعبه، بكل تقدير وبجداره .. فماذا سيقول أهل المقاطعة في ذلك؟
انا لا انتظر الاجابة من أحد؛ فكما ترى، يا عزيزنا، نحن قوم يعرف بعضنا كيف يفخر بأبطاله، ويصرون، رغم الوجع والالتباس، على أن “ينقوا عدسهم بغرابيلهم” ولا يخشون الوقوع في حفرة، فهذه كي تأمنها يفضل أن تطمرها.
وأخيرًا، لا اعرف كيف ستعتذر من أمة أضاعت طريقها على ضفاف دجلة والجيحون، وتشتت ابناؤها كحبات الرمل في البحار . أما من أهلك فاعتذر فهم حصنك والأدرى بشعابك، ولكن لا تعتذر من شعبك فلقد اتخمته، يا باي، القوافي هباءً واعياه، يا ويلي، اللهاث وراء السراب.
لك منا كل الحب ، ودعوة جليلية خالصة لتحل ضيفًا عزيزًا في ربوعنا متى ما شئت، واعلم أن بين شفاعمرو وعمان ميدالية وحسرة وحب.