ماركس بين رؤيتين متناقضتين
تاريخ النشر: 28/09/21 | 11:06نبيل عودة
هناك قول هام لماركس يناقض ما قاله عن احتلال الآلة مكان الانسان ما سيزيد املاق العمال، قال: “إن العصور الاقتصادية تختلف عن بعضها البعض ليس بما تنتج بل كيف تنتج وبآية أدوات عمل”!!
للأسف هذا الموقف لماركس لم ينعكس على تحليلاته للنظام الرأسمالي، والتغييرات التي بدأت تعصف بما كان سائدا في مرحلته الأولى. حتى مدعي الماركسية تمسكوا بأقوال ذكرها ماركس في بداية تحليله للنظام الرأسمالي وتجاهلوا هذا القول الذي يعتبر عمليا تطويرا لما طرحه في بداياته من رؤيته انه مع دخول الآلات يشرع العامل في الصراع ضد وسيلة العمل ذاتها، (أي الآلة التي ستحل مكانه)، التي ستسبب املاقه حسب الرؤية العتيقة لماركس، فيهب العامل ضد هذا الشكل المحدد لوسائل الإنتاج بوصفه الأساس المادي لنمط الإنتاج الرأسمالي الذي سيقود الى المزيد من املاقه. بينما الواقع ان الآلة لم تزيد املاقه بل ضاعفت الإنتاج مرات عديدة، وزادت الثروة الاقتصادية التي قادت أيضا الى تحسين شروط العمل وتسهيل الانتاج ومضاعفته وزيادة الأجور للعامل الذي أصبح صاحب خبرة تقنية بتشغيل الآلات أيضا مما ضاعف الإنتاج بشكل غير مسبوق، ولم يعد عاملا عضليا فقط بدون معرفة التقنيات الحديثة لآلات الإنتاج.
مثلا: منذ أواسط القرن العشرين نلاحظ ان التطور العلمي التكنولوجي بدأ بقفزات هائلة، أدوات الإنتاج تتبدل وتتطور سنويا أو ما دون ذلك أحيانا .. من الآلة البسيطة الى الآلة الميكانيكية، ومنها الى الآلة الالكترونية، ودخل عالم الهايتك في الإنتاج، العمل العضلي يخلي مكانه للعمل الفكري حتى في الصناعات الثقيلة. أدوات تنفيذ المهمات المهنية تتطور باستمرار. إنتاجية العمل تضاعفت بشكل لا يمكن مقارنتها مع المراحل السابقة. الثروة تضخمت بشكل أسطوري .. العامل المهني اليوم يجدد أدوات إنتاجه بسرعة تزيد عشرات المرات عن القرن التاسع عشر، ما طور في القرن التاسع عشر بكل سنواته المائة ، تطور في القرن العشرين كل سنة تقريبا .. وفي القرن الحالي (الواحد والعشرين) بسرعة أكبر، أحيانا كل شهر او كل اسبوع .. تطوير الآلة فرض ضرورة تطوير جيل جديد من العمال التكنوقراطيين، أصبح صاحب العمل مضطرا إلى شراء مهنيتهم بإغراءات المعاش وشروط العمل.
ان الثورة العلمية التكنولوجية أصبحت تشكل انقلابا اجتماعيا واقتصاديا في حياة المجتمع البشري. هذا الانقلاب لم يأخذ مكانته بشكل كامل في الأدبيات الاقتصادية – الاجتماعية لليسار عامة واليسار الماركسي (الشيوعي) خاصة وبالتحديد.
السؤال الذي يفرض نفسه هنا بالغ الأهمية: هل يمكن التعامل مع النظام الرأسمالي بنفس العقلية التي سادت المجتمعات البشرية قبل الثورة العلمية التكنولوجية؟
جرى اختراق الأجور وشروط العمل الى اتفاقات عمل عامة واتفاقات عمل خاصة. أي اختفى كل مفهوم الصراع الطبقي التناحري، لم يعد العامل عبدا مضطرا لبيع قوة عمله، بل يختار من يدفع الأجرة المناسبة مقابل قدراته المهنية والتكنولوجية أو الإدارية. المنافسة على العامل المهني فرضت واقعا مختلفا في علاقات العمل .. أي نشا صراع بين أصحاب المشاريع الصناعية لتجنيد العمال المهنيين في مشاريعهم، واتسع الطلب للعمال المهنيين ذوي الخبرة التكنولوجية، أما غير الملمين بالتجهيزات الآلية فهم هامشيون في الحساب الاجتماعي والاقتصادي وسوق العمل، أصبح صاحب العمل بحاجة ماسة للعمال المهنيين والتكنوقراطيين. أي بات نوعا من التعادلية بين العامل وصاحب العمل. البروليتاريا التي “اكتشفها” ماركس لم تعد بروليتاريا مسحوقة، بل فئات اجتماعية لها مكانتها الحاسمة في عملية الإنتاج. لم تعد الطبقة العاملة هي الطبقة التي صاغ ماركس نظرياته الاقتصادية والفلسفية بناء على فهمه لواقعها.
المجتمع البشري لم يعد نفسه المجتمع البشري الذي حلله ماركس واستنتج من واقعه أحكامه النظرية، خاصة موضوعة الصراع الطبقي التناحري.
ان التطور العلمي والتكنولوجي أحدث انقلابا بتركيبة وتفكير ووعي ومعلومات ومعارف كل الطبقات الاجتماعية بما فيها الطبقة العاملة.
لذا يمكن القول اننا نعيش بداية عصر ما بعد القومية، وليس فقط ما بعد الرأسمالية. هذه الظاهرة بدأتها اوروبا التي كانت دائما في طليعة التحولات الاجتماعية، الثقافية، الفكرية والعلمية. عصر الرأسمالية بمفهومه العتيق، انتهى ويجري تغيير جذري بتركيبة النظام الرأسمالي، نحن اليوم في مراحل ما بعد الرأسمالية ما بعد الاستعمار / لم يعد اسلوب الانتاج هو المعيار، بل النهج العادل للتوزيعة الاجتماعية للثروة.
شبعنا من ترديد مفهوم الصراع الطبقي التناحري خلال المائة سنة الأخيرة، دون ان نفكر هل حقا برز تأثير هذا الصراع في الواقع الاجتماعي؟
أصبح الحديث عن طبقة عاملة عتيقا مع تطور مجتمع مدني بالغ التأثير والقوة تغيرت المفاهيم أيضا التي تتعلق بالطبقة العاملة.
نحن في بداية عصر “ما بعد القومية”، تماما کما اننا في عصر “ما بعد الرأسمالية” – العصر الرأسمالي (البرجوازي) ساهم بتشکيل القوميات وتعميق ترابطها، الحلقات الضعيفة في تطورها الاقتصادي کانت ضعيفة في جوهرها القومي أيضا وما تزال.. من هنا نجد ان الهوية الدينية تجاوزت الانتماء القومي، وبالتالي أغرقت شعوبها بفکر معاد لأي تطور حضاري.
ان انتهاء العصر الرأسمالي الأول سيضع القوميات على هامش التاريخ. هذه الظاهرة بدأتها اوروبا، تاريخيا کانت اوروبا دائما في طليعة التحولات الکبرى في تاريخ البشرية، تحولات اجتماعية، قانونية، ثقافية، علمية.. الخ، لذلك اوروبا تشکل اليوم الاتجاه الجديد.. الذي سيسود عالمنا في عصره ما بعد الرأسمالي!!