الفجر يولد من جديد / نبيل عودة
تاريخ النشر: 30/09/21 | 19:41لذكرى انتفاضة الأقصى 28-09-2000
الفجر يولد من جديد / نبيل عودة
نكبت حارتنا بامرأة حل لطف الله عليها، تخرج كل ليلة صارخة شاتمة متوعدة، واهل الحارة في نومهم العميق، لا تبقى ولا توفر احدا، توجه أقذع الشتائم، وتقذف التهديدات بأن ” تفعل وتترك ” بنساء الحارة ورجالها، ويتطاير الزبد من شفتيها في نوباتها الليلية العصبية. وكثيرا ما تلوح بسكين مطبخها متوعدة مزمجره. مما ترك توجسا في نفوسنا، بان ترتكب حماقة على حين غفلة. والحق يقال، ان اهل حارتنا يؤذيهم حالها البائس، ويريدون للطف الله ان يطولها مرة اخرى بمؤسسة ترعاها، علها تعود الى كامل وعيها وتصبح واحدة منا وفينا، تغرق مثلنا في النوم حين يحين زمنه السلطاني، وتستيقظ ليومها الجديد، بنشاط وأمل، وتبادلنا ونبادلها التحيات والأحاديث والعلاقات الطيبة المرجوة بين الجيران. وسننسى ايامها السوداء التي أطارت النوم من عيوننا وعيون اطفالنا، بصراخها المؤذي وبشتائمها المدوية في سكون الليل، وبعربدتها المنفلتة على رجال الحارة ونسائها، لأنهم يتنفسون نفس الهواء الذي يصلها، ويلاطفهم نفس النسيم الذي يرطب قيظ الصيف في بيوت الجميع، او يرى الله بها امره رحمة لها ولنا، فهو الرحيم وهو السميع.
تلك المرأة والمتلطف بها، كما يفكر البعض، ولا اقول هذا على ذمتي او مسؤوليتي، حتى لا اتحمل وزر الخطيئة، انما انقل ما يدور وليس في ذلك ما يدل على اشتراكي بما يفكرون، بان الله يحمل اثم تصرفاتها المنفلتة ، اذ اختصها بلطفة وبتنا عاجزين عن فهم وتعليل ألطافة التي كثرت واتسعت مع تزايد شتائم جارتنا وصرخاتها المدوية في منتصف الليل ، فهمنا انها تتهمنا بتنظيم اعتداء عليها ، واننا نجمع القمامة ونفرغها امام منزلها ، واننا نصطاد الذباب والهسهس ونجمعه ونطلقه في محيط بيتها ، واننا نمارس السحر لتبقى الدنيا سوداء في وجهها ، ونتآمر لنسرق الورود التي لا تألو جهدا ، رغم لطف الله بها .. على رعايتها بحنو واكثارها.
وكثيرا ما اصابتنا الحيرة من عقلها الشائط في علاقاته مع اهل الحارة والجيران الاقربين خاصة، وقدرتها العجيبة في رعاية الورود، تخصيبها واكثارها.
والحقيقة، لولا عقلها المصاب بلطفه، دام مجدة في علياء، لما تردد أحد في التقرب والتعلم والاستفادة من خبرة جارتنا في تنمية الورود، بل ودعوتها اهلا وعلى الرحب والسعة في بيوتنا، بعد ان يعود عقلها الى مخدعه، ويتستر لسانها بمأمنه.
وللتاريخ اقول ان جارتنا نزلت علينا في يوم غائم … ولا يدري أحد كيف تم هبوطها ومن اين مصادرها لامتلاك بيتها الكبير ذي الساحات والمشارف والاحواض، وقد قارن البعض هبوطها بالهبوط الناجح على القمر. غير ان هبوط القمر له مصمموه ومطلقو آلاته ، اما هبوطها فلم يعرف اصلة ووسائله ، ولا مبتدأه ولا خبره ، انما اضحى حقيقة نعايشها بقبول وتوجس بالا تكون وراء جارتنا سيرة لا تطمئن البال ولا تضيف لبيوت الحارة كرامة وصونا للشرف ، وكان واضحا ان هبوطها في حارتنا هو شوكة تزداد انغراسا مع الايام ، ورغم الورود المنماة في الاحواض والشرفات ، الا ان الاحساس يحمل توجسا لا تفسير ظاهر له وقلقا من آت مجهول ، قد لا يتناسب مع حارتنا واخلاقنا وقيمنا وحسن سيرتنا ، وقد تواصل ازعاجها وزعيقها المؤذي ، وحرماننا من النوم الهانئ ،واقلاق راحة بالنا ، ومثولها امامنا ببشاعة لم ينتظرها احد من الخالق في خلقة الذي قيل لنا في صغرنا ، بان صناعته في منتهى الكمال والجمال والاتقان ، فهل كانوا يكذبون علينا ؟! وماذا يستفيدون من اخفاء الحقيقة ؟! او هي محاولة لتجربتنا في ايماننا بقدرته ومشيئته سبحانه في علياء؟!. وكيف نرى الجمال في كل ما نرى؟ وهل ابقت جارتنا شيئا من دلالات جمالها ؟! ترى ما الذي يمسخ سحنتها في عز الليل، ويحيلها شرسة تأخذ راحتنا ونومنا الهنيء، لتصليه على نار كلماتها النابية والمؤذية؟ كنا نتأمل ونتعجب ونناشده سبحانه .. ان يحل بنا مزيدا من الصبر والتقوى وان لا يجربنا بجارتنا، ونقيم له الدعوات ان يبرد غيظها غير المبرر، ويطفئ حدتها الملتهبة ويخفف انذاراتها لنا بالثبور والدمار، وازاحة الغشاء عن عينيها علها تبصر نوايانا الطيبة ويرتد لها عقلها، ويطمئن بالها ويزول كربها وزعيقها، فننعم بغفوة آمنة اشتقنا لها وافتقدناها منذ ابتلينا بها.
سبحانك في علاك، لا يتم امر الا بمشيئتك، ولا يرى النور انس او جان الا بإذنك، رحمتك يا قدير، حنانك يا غفور.
طال انتظارنا للطف آخر، يضاف على لطف الخالق الاول الذي انعم به على جارتنا، فيعدل ما بار في خلقها، فتزول حيرتنا من حديث بعض ضعاف النفوس وقليلي الايمان من اهل حاراتنا، انه في علياء (المغفرة ثم المغفرة) له جولاته وصولاته، بعضها لأمر في نفسه او خارج عن أرادته كما يدعون. لا يكتمل تجليه، ولا تنتظم صنعته، ويبقى منتقصا وعديم الفائدة للبشر، وان الامر يشبه سكة الانتاج، يخرج منها الصالح تماما والصالح اقل والبائر كجارتنا .. ولكن حيرتنا بقدرتها، رغم لطفة النازل عليها .. على تنمية الورود ورعايتها بحب جلى واضح معظم ساعات النهار، اما ساعات الليل فتكرسها لشتمنا وقذفنا بسافل الكلام وبأشد التهديدات قساوة وجنونا، فكيف يتساوى الورد مع الجنون ؟!
بعض الشباب تواقحوا وأعلنوا ان جنونها من جوع فرجها، وان اشباع فرجها يضمن صمتها في الليالي التي احالتها الى معاناة طويلة لأهل حارتنا، ولكن هل هناك من يجرؤ على تطبيق هذه النظرية ؟!.
بعض الشيوخ ايقظت فيهم نظرية الشباب الفرجية، ذكريات ايامهم الغابرة، فتنافسوا في قص غزواتهم وعنترياتهم، فاضحكوا اهل الحارة، ومسكها عليهم الشباب وتساءلوا بخبث وهزء، ان كان من المعقول ان يكون شيوخنا، الذين يدبون على عصيهم وأحيانا على عصيين، ويقحون ويبصقون ويضرطون كل ساعات يومهم، لهم مثل هذا السجل الذي لا يخجل به أكبر ” دون جوان ” عرفته غرف النوم؟ وان كان شيوخنا الافاضل بمثل هذه القدرة التاريخية على حرث الفرج، فكيف تحول هبوط جارتنا في حارتنا بمثل هذا الاشكال وبمثل هذه الضراوة، بمثل هذا التعطش للأذى، وبمثل تلك الدلالات البارزة لجوع فرجها ؟! والبعض سأل ما لا جواب له، لماذا يا حضرات الرواد الباسل لم تتطوعوا لإشباع جوع جارتنا قبل أن يمسها لطفة ؟!
والواقع ان الشيوخ كالشباب ، استطابوا حديث الفروج ، حتى زجرهم عقلاء الحي وانذروهم بالويل والثبور والحرق بنار جهنم اذا واصلوا الخوض في المحرمات والاعراض، فالجارة ، حتى الغريبة عن الحارة ، والدخيلة على بيوتها ، لها حرمتها ، فنحن العرب استثنانا الله من الرذيلة ،ووهبنا الفحولة لنستثمرها في العمل الصالح والمشروع ، بالإكثار من نسلنا ، وتعزيز جيوش المؤمنين الصالحين ، وان الدلالة لمصيبة حارتنا بجارتنا هي مئات التجارب التي لا بد لنا ان نقف فيها بثبات وايمان ، حتى لا نسقط بالتجربة الربانية ونتحول الى عبدة الشيطان لعنة الله علية ، وان لا ننسى ان لسبحانه في علياء شؤون في خلقة ، ليس لنا ان نخوض فيها حتى لا نقع بالمحظور ، وانه تبارك اسمة ، لا ينتظر اقتراحاتنا ، ولا ينقصه صواب الرأي وحسن التدبير ، وانه لو شاء للطف لسانها او اخرسها ، وانه لو شاء لبعث اليها فحلا يضمها الى حريمة بدل وحدتها القاسية .. ويروضها ويشبعها فما وفرجا، فتطيب حالها وتستقر نفسها، ولكن مشيئته لم تكن كذلك، فالحذار من الخوض في شؤونه.
قال شاب يلوح البريق في عينية، ان عقلاءنا زجرونا عن حديث الفروج بتهديدنا بالويل والثبور ونار جهنم، وفتحوا حديث الفحول، اي اننا عدنا لنفس المنطقة المحظورة، نتداول فيها لحل اشكالاتنا، ولكن لم يثبت حتى اليوم ان امة تحررت بقدرة فحولها على حرث فروج الغزاة، او ان اشكالياتنا حلت بقدرتنا الفحولية. فهذا يعيد الحديث الى اصلة، والى نفس المناطق المحظورة التي منعنا عنها عقلاء حارتنا، وهو يثبت اننا شبابا وشيوخا حرث الزمن في عقلهم وعقلنا، مصابون بنفس الداء. وان العقل في هذه المنطقة، يخرج في اجازة .. ويبدو ان أجازته طالت وهي بسبب ما نعانيه من الهبوط الغريب لجارتنا في حارتنا.
اشتدت قوه صراخ جارتنا واستمرت لزمن اطول، وصرنا نسمع عويل الذئاب بين صرخاتها وكأنها تتحول الى امرأة ذئب، وقد ارتعد الرجال قبل النساء. والتصق الاطفال بأمهاتهم رعبا، ولم يجرؤ أحد منهم على عبور الشارع بقرب بيتها الا ركضا سريعا ومن الجهة البعيدة، وتساءل البعض ان كانت جارتنا حقا امرأة، ام هي فحل بثياب تمويهية بقصد الفتك بحرمات الحارة؟ واشتعلت الاضواء الحمراء، وأحس اهل الحارة بالخطر المحدق، وقال البعض لعل المخفي أعظم، وغرقنا في حيرتنا.
ربنا هبنا من لدنك رحمة، وعزز ايماننا واحفظ لنا كرامتنا.
استقر رأي حارتنا بعد ان اعياها الحال، وتكاثرت الوساوس والهواجس، ان يستنجدوا بالحارات الاخرى، فالمصيبة قد تلحق بهم ان لم نتدارك الامر ونوقف الشر المتزايد .. حقا لا يمكن انكار نخوة ابناء الحارات وهمتهم المباركة، فتوافدوا جماعات جماعات لمد يد العون ودعمنا من الآفة المستفحلة .. وبعضهم اكتفى مشكورا بالدعوات الحارة، لخالق الارض والسموات، ان ينصر المؤمنين الصامدين على الشر والاشرار، فأقيمت الموالد في حارتنا، ترحيبا بالإمدادات من اصلب الرجال. وذبحنا الذبائح، واكلنا ودبكنا ولوحنا بسيوفنا امام شرفتها .. ومع ذلك لا يبدو ان جارتنا فهمت ان هذه الجحافل والسيوف هي لوقف استفحال شراستها وعدوانها، بل استمرت بصراخها الليلي المؤذي مما أرهق رجال الحارات وحرمهم من الخلود للنوم والراحة، ومع ذلك لم يتخلوا عنا الا بعد ان نفذ مخزوننا من الارز والخراف، فرجع كل الى حارته معلنين بصلابة انهم على استعداد دائم، إذا ما تواصل استفحال الامر، ان يعودا من جديد لدعم صمودنا وتقوية شكيمتنا، ودعوا لنا بالخير والوفاق، فشكرناهم على نخوتهم، وودعناهم بمثل ما لاقيناهم من ترحاب.
ويبدو ان جارتنا انتظرت هذه اللحظة … بعودة الطوابير الداعمة الى احيائها، فازداد جنونها. وبدأت تخرج لشوارع الحارة وازقتها في ساعات الليل والنهار، تعترض النساء والاطفال، صارخة شاتمة ملوحة بقبضتها، فلم يجد البعض حلا الا مغادرة الحارة، خوفا ورعبا من اذاها، بعد ان بات واضحا اننا لا نملك ما نطعم به طوابير الدعم من الحارات الاخرى.
حقا، اهل الحارة لم يكونوا قاصرين عن “فلخ نيعها” اما ما زجرهم فهو اباؤهم عن تلويث رجولتهم بالتشاطر على امرأة مصابة بلطف الله.
اسودت دنيانا ولم يعد لحياتنا معنى، ولم ندر كيف وصلنا لهذه الحال ومن اين ابتلينا بهذا المأزق؟
حال الجارة تزداد سوءا وعدوانا وباتت البيوت التي تركها اصحابها مرتعا خصبا لانفلاتها، كانت بلا اهل ليردوها عن غيها.
لا نعرف من اين هبطت علينا، وهل لها زوج، ام انه كان ونفق بعد ان رأى حالها؟ وكيف تصير حال كرامتنا إذا مددنا ايدينا عليها ؟!
بعض الشباب تنظموا وتسلحوا بالعصى لردع انفلاتها، الا ان كبارنا زجروهم وافهموهم ان للجار مهما استجار حرمته، فكيف والحال مع امرأة وحيدة ومصابة بلطف الله. ؟! ادعوا لها بالرحمة ؟؟
ولكن الله، سبحانه في علاه، له كما يظهر رأي مختلف، طرقة ليست دائما مفهومة لخليقته، فها هي الجارة تذهلنا وتحيرنا بوضعها مولودة في كل بيت مهجور. ترى من اقتحمها ؟؟ وهل كان اقتحامها ميسرا؟
وهل مقتحمها انس مثلنا او جن من المتحررين من اسر سليمان الملك. وكيف لم يلحظ أحد من اهل الحارة تغير حالها وشكلها بانتفاخ بطنها ؟! والمذهل وضعها عددا من المولودات من غير المعقول ان يحمل به بطن وحيد، فهل هي امرأة كما فهمنا حتى اليوم .. ام جنية متمردة من اسر سليمان الملك ؟! وهل يصاب الجن بلطف الله كالبشر ؟! وهل يمكن ان يشبع انس جوع فرج جنية ؟! وكيف يمكن الجماع بين انس وجنية ؟!وهل يسمح الشرع بهذا الجماع ؟!ومن اين لهذه الجارة هذا الخصب غير المحدود، وبهذه الكثرة المستحيلة على بني البشر ؟! فهل نحن امام عجيبة دنيوية لم يسمع بها أحد من قبل؟
والمرعب أكثر ان المولودات شديدات الصراخ كأمهن، فهل انتقل لهن لطف الله بالوراثة ؟! وما الحل امامنا؟ هل نحمل عصانا ونرحل ؟!
وبدأت تدور قصص تشابه الخيال، بان بنات جارتنا، رغم صغرهن … يتجولن في الحارات الاخرى مطلقات صراخا ذئبيا مرعبا .. والمذهل انها لم تلد اي مولود ذكر !! بلغ الذل مداه .. وبدأ تمرد الشباب على حكم الشيوخ ، واتهامهم بالمسؤولية عن التقاعس ولجم الانفلات الارعن لجارتنا في وقته ، واعطاؤها المجال الحيوي للتكاثر الغريب والمذهل وبدون الاخصاب من ذكر ، وقال الشباب انه بلغ السيل الزبى ،وانهم ليسوا على استعداد ليكونوا نسخة طبق الاصل عن اهلهم ، وان ما يجري هو تجاوز لكل مفاهيم التجارب الالهية ببني البشر ، التي يذكرها علماؤنا ويلوحون بها لزجر الشباب عن غية كما يقولون ، وقد اعلن معظم الشباب انه حتى الكفر اكثر عزة من الذل والمهانة لكل العمر ، وان الاصطلاء بنار جهنم اكثر رحمة من الاصطلاء بشراستها واهاناتها وبالحرمان من الراحة والنوم المتواصل ، وبالتزام عدم الرد ، جرت نقاشات حادة ، ولكن الاجيال اختلفت طرقها وقناعتها حتى الاولاد انصتوا لحجج الطرفين وكأنهم يفهمون ما يجري.
وفي فجر هادئ عليل النسيم، رائق الاشراق، وقع المحظور، كان من الرعب التفكير فيه، ويبدو انه بين الرعب والجرأة شعرة معاوية، وقد انقطعت.
لطفك ايها الخالق، مدد من قدرتك، مدد من رحمتك.
كان الاولاد، الذين لا يفهمون كما آمن الكبار .. في طريقهم لمدارسهم، كما في كل يوم .. وكل منهم يحمل اثقاله من الكتب والدفاتر والاقلام، وزوادة اليوم، وكالعادة بنات جارتنا يضججن ويعتدين على الاولاد، غير ان الاولاد هذه المرة لم يفزعوا، تسمرت انظار الحارة ولم يدروا ما يحصل. وما هي الا لحظات حتى كانت شنطاتهم بكتبهم ودفاترهم ملقاة على قارعة الطريق، وفي يد كل ولد حجر، وبيده الاخرى يرسم شارة النصر ..كان الفجر هادئا، ولكن حجارة الاولاد المنطلقة بتصميم جعلته فجرا داميا.