حكومة ضعيفة في إسرائيل فرصة لفلسطين
تاريخ النشر: 11/11/21 | 8:25جمال زحالقة
أقرّ الكنيست الإسرائيلي، قبل أيام «ميزانية الدولة» ومرّ التصويت عليها بأغلية ضئيلة بلغت 61 صوتا مقابل 59 صوتا، واجتازت حكومة بينيت – لبيد، امتحانا مهمّا ضمن لها الاستمرار حاليا، على الأقل، إلّا إذا حدثت تطورات غير متوقعة، وهذا ليس بالمستبعد. لقد حاول بنيامين نتنياهو وحزب الليكود سحب صوت واحد من الائتلاف، كان كافيا لإفشال الميزانية وبالتالي إسقاط الحكومة، لكن هذه المحاولة فشلت، ويبدو أن على نتنياهو أن ينتظر مدّة أطول على كرسي رئيس المعارضة غير المريح له.
الميزانية، التي جرى تمريرها، هي لسنتين 2021 – 2022، والحد الأخير لتمرير ميزانية جديدة هو في شهر آذار/مارس عام 2023، وحتى ذلك الموعد، لن تشكّل الميزانية بحد ذاتها خطرا على بقاء الحكومة.
أمّا الخطر من السقوط بحجب الثقة، فهو صعب للغاية، لأن القانون الإسرائيلي ينص على ما يسمّى «حجب ثقة بنّاء» ومعناه الفعلي هو الحاجة إلى تصويت أغلبية مطلقة من 61 عضو كنيست وما فوق، لصالح مرشّح بديل لرئاسة الحكومة، وبغير ذلك لا تسقط الحكومة، حتى لو صوتت ضدها أغلبية. من الصعب جدّا أن تتوفّر مثل هذه الأغلبية، فكتلة اليمين الداعمة لنتنياهو مكوّنة من 53 عضو كنيست وهي بحاجة إلى 8 أصوات إضافية لصالح نتنياهو. كتلة القائمة المشتركة، هي في المعارضة، لكن من المستحيل أن تصوّت لنتنياهو، رغم معارضتها الشديدة لحكومة بينيت – لبيد. هناك طبعا إمكانية لانضمام عدد من نواب الائتلاف إلى المعارضة في دعم قانون تبكير موعد الانتخابات، وهذا من المستبعد لكنّه ليس من المستحيل في ظل أزمة ما قد تأتي. لقد جرت في الأشهر الأخيرة محاولات إغراء متكرّرة من نتنياهو لإقناع بيني غانتس رئيس حزب أزرق أبيض وله 8 أعضاء كنيست، بالانسحاب من الحكومة ليصبح رئيسا للوزراء بدعم من كتلة نتنياهو اليمينية. لم يصد غانتس هذه المحاولات، لكنّه واجه مشكلة في حزبه، حيث عبّر قسم من نوّابه عدم موافقتهم على مثل هذه الخطوة، التي لا يمكن تنفيذها سوى بمشاركة جميع أعضاء الكتلة الثمانية.
بالضغط الشديد يمكن تغيير الأمور.. وهذا يبدأ بتحريك النضال الشعبي فهو المكان الذي حين نقف عليه من الممكن أن نحرّك الدنيا
بعد إقرار الميزانية، تتجه إسرائيل، ظاهريا على الأقل، نحو حالة من الاستقرار السياسي النسبي، بعد أربع معارك انتخابية صاخبة. وقد عبّرت مكوّنات الائتلاف الحكومي الإسرائيلية الثمانية عن ارتياحها من تمرير الميزانية، ووعدت بالاستمرار في التحالف لسنوات مقبلة، ولكل حزب أسبابه ودوافعه الخاصة للإبقاء على مشاركته ودعمه للحكومة. لكن في الحقيقة، هذه الحكومة أبعد ما تكون عن الاستقرار، فهي أوّلا وأخيرا «حكومة على حافّة الهاوية» لا يجمع مركباتها سوى شهوة السلطة والخوف من عودة نتنياهو، والخشية من الفشل في الانتخابات المقبلة. وهي، إن بقيت، ستبقى غير ثابتة وتتأرجح تبعا للخلافات العميقة في صفوفها.
عرض أقطاب الائتلاف الحكومي الإسرائيلي تمرير الميزانية على أنّه إنجاز مهم «أعاد إسرائيل إلى طريق الصواب» كما قالوا، بعد ثلاث سنوات من إدارة الدولة بلا ميزانية، في ظل محاولات نتنياهو المتكررة الفوز بأغلبية مطلقة تمكّنه من سن قوانين تسمح بوقف وبتأجيل محاكمته، ريثما يقوم بتغيير القضاة أنفسهم. وبدأ الحديث عن سن قانون جديد يمنع من قدّمت بحقّه لائحة اتهام من تشكيل حكومة جديدة، وقانون آخر يحدد فترة رئيس الحكومة بدورتين أو ثماني سنوات. ويقود هذا التشريع وزير القضاء الإسرائيلي، اليميني المتطرف جدعون ساعر، الذي ترك الليكود ملتزما بالعمل على تنحية نتنياهو عن السلطة بلا عودة. يثير هذان القانونان خلافات داخل الحكومة، حيث عبّرت وزيرة الداخلية، اليمينية المتطرفة أييليت شاكيد عن معارضتها، ويبدو أنّها لا تريد أن تقطع شعرة معاوية مع الليكود ونتنياهو، خاصة أنّها أقرب إليهما سياسيا وأيديولوجيا، منها إلى معظم شركائها في الحكومة. لكن، وللمفارقة إذا نجح الائتلاف الحالي في تمرير قانون يمنع نتنياهو من رئاسة الحكومة، فإن هذا سيكون بمثابة من حفر قبرا لنفسه، فالاحتمال الأول أن يبقى نتنياهو ويخوض حربا شعواء ومعركة شعبوية تمنحه قوّة غير مسبوقة تهدد الحكومة القائمة. والاحتمال الثاني أن يتنحّى نتنياهو جانبا، وهذا سيؤدّي إلى تفكيك فوري للحكومة لأنّ معظم الوزراء يفضّلون التحالف مع ليكود بلا نتنياهو، على التحالف مع ميرتس والقائمة الموحّدة.
هناك سيناريوهات كثيرة لأزمة داخل الحكومة قد تؤدّي إلى تفكيكها والذهاب إلى انتخابات مبكّرة، ما يضعها في حالة ضعف دائم. وما يقوم به الثنائي بينيت لبيد هو المتاجرة بهذا الضعف واستغلال القرف العالمي (وليس بالضرورة الإقليمي) من بنيامين نتنياهو، والتلويح به كبعبع مقبل إذا سقطت الحكومة. أي انّهما يعملان على تحويل الضعف إلى نقطة قوّة بكل ما يخص العلاقة مع الولايات المتحدة وأوروبا، وبعض الأطراف العربية (ليس كلّها، فمنها من يفضّل نتنياهو).
نشهد هذه الأيام كيف يحاول بينيت منع فتح القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية، ويعمل على إقناع الأمريكيين بأنّ فتحها سيهدّد استمرار الحكومة وعودة نتنياهو، حليف ترامب والجمهوريين. ويصرّح بينت ولبيد وغانتس بأنه لا مجال، في ظل الحكومة الحالية، لمفاوضات سياسية مع الفلسطينيين لأنها غير منسجمة في الموقف، وأي حديث عن مفاوضات وعن دولة فلسطينية مستقلة هو حديث عن سقوط الحكومة وعودة نتنياهو. ويكفي هذا الادعاء لإسكات الإدارة الأمريكية وحتى أوروبا. ونحن نشهد كيف تحوّل الموقف الأمريكي من «السعي إلى حل الدولتين» إلى السعي لإبقاء هذا الحل حيّا، لا أكثر، لأن أكثر قد يسقط الحكومة الإسرائيلية ويعيد نتنياهو البغيض إلى الحكم. أما في موضوع الاستيطان، فإن حكومة بينيت لا تختلف في شيء عن حكومة نتنياهو، سوى في أن فيها وزراء «يعارضون الاستيطان» لكنهم لا يؤثّرون في اتخاذ القرار الاستيطاني. وحين تجري المصادقة على بناء آلاف الوحدات السكنية في المستوطنات، يهمس من يهمس في آذان الأوروبيين والأمريكيين بألّا يضغطوا كي يحافظوا على حكومة تحفظهم من عودة نتنياهو «المتطرف». لقد ظنّ البعض أن إقرار الميزانية سيمنح الحكومة الإسرائيلية ثباتا واستقرارا، ويضعف حجّة الهشاشة والضعف والخوف من عودة بعبع نتنياهو، لكن هذا لم يحدث ولن يحدث لأن هذه الحكومة هشّة فعلا وستبقى كذلك، بسبب تناقضاتها الداخلية وأغلبيتها الضئيلة، وهي ستواجه كل أسبوع تحديا جديدا قد يشلّها وقد يهدد كيانها. لقد وصل الأمر إلى أن أطرافا عربية ومن اليسار الإسرائيلي تحاجج نواب القائمة المشتركة (الجبهة والتجمع والتغيير) كلّما انتقدوا الحكومة أو صوّتوا ضدها بالقول: «ماذا تريدون؟ هل تريدون عودة نتنياهو؟».. ويجيب نوّاب المشتركة وبحقّ: «ما الفرق بينهم وبين نتنياهو؟»
لا بدّ من تفكيك خطاب «الضعف والبعبع» فقد أصبح ما تفعله حكومة «اليسار واليمين والوسط» الإسرائيلية أخطر من عودة نتنياهو. فلو كان نتنياهو في الحكم، لما قام بأكثر مما نشهده الآن، لكنّه كان سيتعرّض لنقد ونوع من الضغط من قبل أوروبا والإدارة الأمريكية الديمقراطية، ولن يحظى بما حظي به أيام ترامب الخوالي. وهو، كما هو معروف عنه، لن يتجاوز استراتيجيات الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، في كل ما يخص الملفات الفلسطينية واللبنانية والإيرانية، ولا فرق جذري بهذا الشأن بينه وبين بينيت وحكومة بينيت – لبيد.
فلسطينيا، يقود المنطق السليم إلى اعتبار الضعف ضعفا، ويقود المنطق السليم أيضا إلى استغلال ضعف الحكومة الإسرائيلية لا إبداء التفاهم له. فمن الخطير تحويل القضية الفلسطينية وقضايا الاحتلال والاستيطان إلى قضايا إسرائيلية داخلية، تحكمها تقلبات السياسة الإسرائيلية لتبقى على الرف، ريثما تنضج ثمار المستحيل على أغصان التينة الإسرائيلية الحمقاء.
لقد انتهت مرحلة الأوهام وصناعة الأوهام، وأصبح واضحا أنّ إسرائيل حكومة ومجتمعا غير ناضجة لإنتاج جوّاني لمسار حل عادل ومعقول من أي نوع كان. ولم يعد هناك ما يُنتظر وما يمكن التعويل عليه، وفقط بالضغط والضغط الشديد من الممكن أن تتغير الأمور. الحكومة الإسرائيلية المتأرجحة هي فرصة لحشد الضغوط عليها، وهذا يبدأ بتحريك النضال الشعبي فهو المكان الذي حين نقف عليه من الممكن أن نحرّك الدنيا.