لكلّ أسير اسم
تاريخ النشر: 12/12/21 | 9:47حسن عبادي/ حيفا
مساء الخير
بدايةً اسمحوا لي أن أوصلكم تحيّات الحركة الأسيرة التي تُثمّن غاليًا هذه اللفتة المباركة.
اخترت لمداخلتي عنوانًا مغايرًا: ” لكلّ أسير اسم”؛
التقيت أمس في سجن الدامون (الذي يحتجز الأسيرات الفلسطينيّات) بالأسيرة منى قعدان (هذه الحبسة السادسة لها) وبدأت اللقاء بالتعبير عن انفعالها لسماع اسمها يوم السبت عبر مكبّرات الصوت واسم كلّ واحدة من زميلات الأسر والزمامير وانبسطن جدًا ورفع الأمر من معنويّاتهن، فهناك من يذكرهن ويُخرجهن من عالم النسيان.
كان هذا من خلال وقفة شبابيّة (نشطاء من أجل أسيرات الدامون) بجانب السجن، تزامنًا مع مؤتمرنا السابع للتحالف الأوروبي لمناصرة أسرى فلسطين.
لاحقتني كلمات منى، وسمعت نفس الكلمات من تسنيم وشروق، فقرّرتُ كنزَ مداخلتي التي أعددتها للقاء اليوم وتأجيلها للمؤتمر، حين انعقاده، وترك المجال للزملاء والزميلات للتحدّث عن الوضع القانوني والانتهاكات بحقّ أسرانا في سجون الاحتلال.
استبدلت بها شريطًا متحرّكًا يلاحقني، حول أنسنة قضيّة أسرانا، وتحييد محاولات الأسطرة والشيطنة في آن واحد، فلكلّ أسير وأسيرة اسم وحكاية علينا حفظها عن ظهر قلب.
الاهتمام بأسرانا أقلّ الواجب تجاه تضحياتهم، وفي محادثتي الأخيرة مع ثائر حنيني قلت له: “أنت غير مدان لأحدٍ بشيء لتشكره، دفعت وما زلت تدفع دَينك وثمن نضالك منذ 2002، نحن المدانون لك ولزملائك في الأسر، واجبنا أن نشكركم على منحنا فرصة للعطاء من أجلكم”!
بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى خلف القضبان ويكتبون؛ لاهتمامي بأدب السجون، تبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان متنفّس للأسير، تجعله يحلّق ليعانق شمس الحريّة؛ من عتمة الزنازين يرسم الوطن قوس قزح… هم في زنازينهم أكثر حريّة من الطلقاء بيننا ذوي النفوس الذليلة.
شربت قهوتي الحيفاويّة صباح جمعة، فاجأتني زوجتي سميرة: ما دُمتَ مهتمًّا بما يكتبه السجناء وبأدب السجون، فلماذا لا تزور كميل وغيره ممّن يكتبون؟ راقت لي الفكرة وقرّرت فعلًا زيارتهم، وبعد خوض التجربة شعرت بأنّه صار لحياتي مذاق آخر.
كان اللقاء الأوّل صبيحة الاثنين، 03.06.2019 عشيّة عيد الفطر، في سجن ريمون الصحراويّ. انتظرت في غرفة المحامين فأطلّ أحمد سعدات منتصب القامة. التقيته للمرّة الأولى، لا شعوريًّا وقفت لمصافحته وعناقه لكنّي شعرت فجأة ببرودة الحاجز الزجاجيّ الفاصل، إحدى محاور حديثنا كان طُلبة وخطبة ابنته صمود من الأسير عاصم الكعبي، والوالد خلف القضبان ولا يستطيع أن يكون وكيلها (وتزوّجت لاحقًا بعد تحرّر عاصم والوالد قريبًا بعيدًا خلف القضبان).
من أصعب الأمور التي ترافقني في لقائي الأوّل بأسير هي الجملة الأولى لبناء الثقة، وفي زيارتي الأولى لكميل أبو حنيش أعدّت زوجتي سميرة علبة كعك وطلبت توصيلها لكميل. أخبرتُه عن كعكات سميرة “المحجوزة” في غرفة الاستقبال فهي تخضع لفحوصات أمنيّة، إداريّة وقانونيّة بخصوص إدخالها وإيصالها لك، وكم كانت حسرتي حين غادرت السجن وعلبة الكعك بيدي. فكميل ورفاقه لم يتذوّقوا كعك أمهاتهم سنين طويلة. كتب كميل رسالة عنونها “كعكُ على بوابة السجن”؛ رسالة قلبت حياتي رأسًا على عقب، ولست بنادم. أحاسيسه ومشاعره التي عبّر عنها إثر لقائه ب”غريب” أدخلتني متاهة ودوّامَة لم أخرج منها حتى اليوم، وبعد قراءتها مرارًا وتكرارًا قرّرت لا شعوريًا، البدء بمشوار تواصليّ مع أسرى يكتبون، ومن خلاله ألتقي كلّ أسبوعين بأسرى عبر القضبان، ولكلٍّ قصّته وحكايته.
كانت زيارتي لعاصم في سجن النقب يوم عيد الفطر. عاصم يفكّر بوالدته التي بدأت رحلتها المنتظمة إلى السجون لتزور أبناءها الخمسة لترحل فجر عيد الفطر الجريح 28 تموز 2014 في ذروة العدوان الإسرائيليّ على غزّة… وهي بانتظاره! لم تحظ بدمعة فرح في مقلتيها ساعة عناق نجلها محرّرًا… فاض نهر أحزانها ولم يعد قلبها يحتمل مرارة أكثر، شقّت الأحزان جدول يوميّاتها ورسمت خارطة حياتها. حُرِم عاصم من عناق والدته، رحمها الله، ومعايدة أخواته، خطيبته وذويه وأحبّته، فكيف لنا أن نُعيّد دون التفكير بغيرنا؟ بعاصم ورفاقه خلف القضبان؟
في لقائي مع باسم خندقجي في سجن هداريم بادرني قائلًا: “أشعر أنّ اليوم عيد ميلادي لأنني سجين منذ خمسة عشر عامًا وللمرّة الأولى يزورني “غريب” لسبب كتاباتي، أشعر اليوم أنّني أصبحت كاتبًا حقًا”.
من وحي سماع كلماته (ورسالات أحمد أبو سليم وصفاء أبو خضرة) بدأت مشروع “من كلّ أسير كتاب”؛ من خلاله أعلن عبر صفحتي عن كتاب لأسير وأؤمّن نسخة لمن يتواصل معي، وهكذا وصلت عشرات الإصدارات لقرّاء ومهتمّين خارج الحدود، وبدأ الاهتمام أكثر بتلك الإصدارات، استضافت كتاباتهم مجموعة “أكثر من قراءة” في عمان ومنها إلى رابطة الكتاب الأردنيّين ومبادرة “أسرى يكتبون”، ومن خلالها تُعقد ندوة نصف شهريّة ويشارك الأسير بمداخلة يقرؤها قريبٌ له.
من هنا أناشد الجميع بقراءة ما يكتبه الأسرى.
التقيت الأسير حسام زهدي شاهين في سجن الجلبوع ليحدّثني عن حرمانه من لقاء أحبّته وفقدان أعزّائه دون وداع، حرمانه من احتضان وتقبيل “قمره” أربعة عشر عامًا (تلك الطفلة التي انتزعوها من حضنه ساعة اعتقاله لتكبر بعيدًا عنه) لهذا يصبح للقائه بغريب مثلي نكهة مغايرة ذكّرته بأنكين هوتفلدت النرويجيّة، عرفها قبل أسره وبعد مضيّ سنوات سُمح لها بزيارته وحين التقته خلف شِباك السجن مدّت يدها لمصافحته لكنّ الحاجز المشبّك حال دون ذلك، تلامست أصابعهم فارتبك حسام وسألته أنكين بعفويّة ما سبب ارتباكه؟ أجابها أنّها المرّة الأولى منذ اعتقاله يلامس بشرًا “غريبًا” وحتى الأهل لا يستطيع ملامستهم واحتضانهم فصاحت به “touch”، “تاتش”، “touch”، “تاتش”، ممّا لفت انتباه السجّان فانقضّ عليهما موبّخًا ونقلها لغرفة ذات حاجز زجاجي دون “شبك”! ومن يومها صارت اللقاءات عبر الزجاج وأنكين صارت وزيرة الخارجيّة في النرويج.
التقيت الأسير سائد سلامة ليحدّثني عن تعرّفه على عرّابِه الجرمقيّ الشامخ (سعيد نفاع) وكذلك أبو هند الحيفاويّ (أمير مخول) ولقاء الكلّ الفلسطيني وليحدّثني بحَرقة عن ثقل الفقد والحرمان.
التقيت الأسير كريم يونس ليحدّثني عن مواجهته اليوميّة مع سجّانه، معاناة الأسرى ومحاولات التضييق اليوميّة، الإضرابات داخل السجون الاسرائيلية لنيل الحقوق الأساسيّة وتحسين ظروف اعتقالهم غير الإنسانية، وكان كريم أولّ من خاض الإضراب وشكّل واحدًا من قادته، يرافقه ملحه وكأس مائه، متسلّحًا بعزيمة وإرادة.
التقيت الأسير وليد دقّة وتناولنا “الزمن الموازي”، صهر الوعي والمحاولات المستميتة لاستهداف معنويّات الأسير في السجون عبر إعادة صياغة عقله وفق رؤية إسرائيليّة، فباتت السجون بمثابة مؤسّسات ضخمة لطحن جيل فلسطيني بكامله، وهي أضخم مؤسّسة عرفها التاريخ لإعادة صهر الوعي لجيل من المناضلين. حدّثني عن ألمه وحسرته لاحتجاز السلطات حوالي ثلاثمائة جثّة فلسطينيّة ومنها جثمان الشهيد فارس بارود الذي توفيّ خلال فترة سجنه وما زالت جثّته محتجَزة وتساءل فارس محدّقًا بوجه سجّانه باستهجان: “هل ستحتفظ سلطة السجون بجثّتي حتّى تنتهي فترة محكوميّتي لتحريرها؟؟” ومن وحي اللقاء أُعدّ مُلصق “سيلفي الجثامين” وبصدد حملة عنوانها: “حرّروا الجثامين”.
حين التقيت بوليد دقّة تبيّن لي أنّ هناك فجوة عميقة بين الأسرى والكتّاب “الجدد”، ما بعد الأسر ومن وحي اللقاء تولّدت مبادرة “لكلّ أسير كتاب”، وبدأت بإيصال الإصدارات للأسرى في سجون الاحتلال (ووصل حتّى الآن مئات الكتب)، وهناك خلف القضبان تقام حلقات قراءة، يناقشونها ويكتبون عنها.
التقيت الأسير ناصر أبو سرور ليحدّثني عن حكايته والجدار، وحلمه بفنجان قهوة في حديقة، ويحقّقه بهرم بشريّ في الزنزانة ليصعد عاليًا مطلًا على حديقة السجّانين ويشرب قهوته ويدخّن سيجارته ليجيئه وحي الكتابة.
التقيت الأسير المقدسيّ شادي الشرفا ليحدّثني عن معاناة الأسرى الصحيّة، فهو بحاجة ماسّة لزراعة قرنيّة، وهناك أسرى يعانون من أمراض مزمنة دون علاج وبعضهم يموتون في الأسر نتاج الإهمال الطبّي، وضرورة توثيق حكايا أسرانا الإنسانيّة بعيدًا عن الأسطرة، فنحن نعيش ونغرق في الماضي وحضوره عميق وطاغٍ يعيق التفكير بعقلانيّة، يشلّ التخطيط والبرمجة لمستقبل أفضل، فنحن نستنكر بفزعاتنا اللحظيّة الآنيّة كلاعب الشيش بيش الذي يعيش اللحظة والعدو يخطّط بعيدًا كلاعب شطرنج محترف.
التقيت الأسير مروان البرغوثي ليحدّثني بحماس عن أهميّة مشروعه التعليميّ خلف القضبان، مسيرته مع طلبة البكالوريوس والماجستير من الأسرى، يحزّ في نفسه عدم مرافقة حفيدته تاليا للمدرسة في يومها الأوّل في الصف الأوّل، عدم تمكّنه من معايدة حفيدته رومي في عيد ميلادها الثاني.
التقيت بالأسير وائل الجاغوب ليحدّثني عن “الملف الطبّي” للأسرى وأهميّة نقله من مصلحة سجون الاحتلال إلى وزارة الصحّة.
التقيت الأسير معتز محمد فخري عبد الله الهيموني ليحدّثني عن فكرة إقامة وتأسيس “ملتقى أكاديميّة الشعلة الفكريّة” في الخليل لتعزيز التعليم/التدريب/الثقافة ودعم الحركة الأسيرة وأدب الأسرى، ومسار إعرف بلدك.
التقيت الأسير “X” في سجن عسقلان ليحدّثني عن خُزعة من قبل “مطبّبة” أسنان في السجن، قلبت حياته رأسه على عقب! تبيّن أنّ تلك الخُزعة الخبيثة سبّبت له خدرًا وجعلته مهووسًا، يعاني من أوجاع في الحلق والمعدة، خدر في أطرافه ولا ينام الليل، ورغم ذلك لم يتلقَّ أيّ علاج غير المسكّنات التي لا تُسمن ولا تغني من جوع.
توجّه لإدارة السجن يوميًا ولم يفحصه طبيب مختصّ حتى اليوم وكلّ طلباته بأن يفحصه طبيب من خارج السجن باءت بالفشل.
كان رياضيًا متميّزًا قُبيل أسره وحالته الصحيّة تسوء من يوم إلى آخر!
شكا لي انعدام الظروف الصحيّة الملائمة داخل الأسر ممّا يزيد مخاوفهم وقلقهم في ظلّ العمّة كورونا وزيارتها المباغتة لعالمنا.
ظاهرة الإهمال الطبي تجاه الأسرى الفلسطينيّين أودت بحياة عدد كبير منهم، وما زالت تهدّد حيوات العشرات، والسلطات تتجاهل ضاربة بعرض الحائط القانون الدولي.
حين ودّعته قال لي: “وحياتك؛ بدّيش أهلي يعرفوا”.
التقيت بالأسير وائل ليخبرني بأنه منذ خطوبته صار للزيارة مذاقٌ آخر، ينتظرها بفارغ الصبر ليلتقي خطيبته إسراء ساعة زيارتها لأخيها معتز، وهي الأمل بمستقبل حرّ ليتمتّعا معًا بعناق شمس الحريّة على شاطئ المتوسّط…رغم مؤبّداتهم!
التقيت بالأسير إسلام جرار في سجن إيشيل ببئر السبع، ليحدّثني عن لقائه الأخير بوالدته، المرحومة رجاء، شهران قبل رحيلها عن هذا العالم فزارته على كرسي متحرّك، مع مسكّنات وإبر، لتخبره بأنّها اشترت له “نمرة أرض” في جنين وكأنّي بها تريد وداعه الوداع الأخير…ما أصعب الفقدان وأنت خلف القضبان!
قال لي: قضيّة الأسرى جامعة، توحّد كلّ أطياف الشعب الفلسطيني، آن الأوان لتدويلها والوصول إلى حركة عالمية للدفاع عن حقوق الأسرى الفلسطينيين، في ظل الهجوم الشرس الذي يتعرضّون له من قبل سلطات الاحتلال، التي تضيّق الخناق على حياتهم اليومية وتنتهك أبسط الحقوق الإنسانيّة.
حدّثني بحرقة عن الأسرى المرضى، منهم من يعاني من ظروف صحية صعبة للغاية، تُواجَه بوحشيّة وساديّة من السجّان، يموت بشكل بطيء،(منهم من هو مقيّد بالبرش)، والإهمال الطبّي حيث يُمنع الفحوصات والعلاج، قضايا إنسانيّة يجب تسليط الضوء عليها بصورة مختلفة، ومؤثّرة في العالم حتى يتحرّك، ناهيك عن انتهاك حقوق الأسرى الأطفال، الأسيرات والاعتقال الاداري، حيث مضى على بعض الأسرى عشر سنوات وأكثر داخل السجون دونما محاكمة أو تهمة توجّه إليهم، وإنما اعتقال بقرار عسكري لدوافع احترازية.
تحدّث بحماس عن التعذيب والقمعات المتتالية والعقاب الجماعي لأتفه الأسباب.
كلّ هذا ونحن صامتون صمت أهل القبور. صمتُنا عار!
التقيت الأسير إياد رضوان في مستشفى سجن الرملة المعروف بالمسلخ فحدّثني بحماس عن ناهض/منصور/خالد/معتصم/صالح/موفّق وغيرهم، فهم رفاقه في المسلخ(يوجد 17 مريضًا)؛ منهم من بُتِرت رجلاه، “بطنه برّا”، شللٌ كامل، مرض الأمعاء، سرطان المعدة، الفشل الكلوي، أمراض القلب، البواسير، ألم الأسنان، ألم الرأس المُزمن، وجع الظهر، الأزمة، عمليات في العيون…ومحمد ابن التاسعة عشرة مع مرض السرطان بين الحياة والموت، كلّ منهم مشروع موت مؤكّد!
حدّثني بحِرقة عن التقصير تجاههم، فهم منسيّون ومهمّشون، لا أحد يهتّم بهم، قال لي: “جبال لو حطّناها هون بتنهار!”، لا نريد جنازات رئاسيّة رسميّة ونياشين، بدنا نعيش.
تدويل قضيّة الإهمال الطبّيّ للأسرى، لمنع القتل القادم، لعلّ وعسى أن ينفع الضغط العالميّ في تحريك هذا الملفّ الشائك؛ مقاضاة سلطة السجون، محليًّا وعالميًّا، لتشكّل ضغطًا على السلطات من أجل صحّة أسرانا المرضى وعلاجهم.
استعدتُ ما كتبه الأسير الراحل زهير لبّادة في مجموعته القصصيّة “آهات من سجن الرملة”(عانى من فشل كلويّ وأمضى فترة اعتقال طويلة في مستشفى سجن الرملة، أُفرج عنه بعد تدهور حالته الصحية بحالة غيبوبة، تم نقله إلى غرفة العناية المكثّفة في مستشفى نابلسيّ ليموت بعد أسبوع من إطلاق سراحه) التي دوّن فيها رحلة عذاب الأسرى المرضى نتيجة سياسة الإهمال الطبي المتعمّد وكذلك الأسير راتب حريبات في كتابه “لماذا لا أرى الأبيض”؟
التقيت المعتقل محمد خليل محمد الحلبي، في سجن ريمون الصحراويّ. تبادلنا الحديث فجاء مثقّفًا لأبعد الحدود، يؤلمه حال غزّة وأهلها، رفض كلّ المحاولات لابتزاز اعترافٍ ما لتحريره وصرخ في وجه المحقّقين أن لا مساومة على الحقّ، وحين “فاوضته” القاضية على إطلاق سراحه شريطة أيّ اعتراف رفض تلك المساومة البائسة التي هدفها تبييض صفحة ووجه الاحتلال وأجهزة مخابراته.
يؤمن محمد أنّ اعتقاله ومحاكمته هدفها وأد العمل الإنساني ووقف المساعدات الدوليّة التي تشكّل الرئة الوحيدة لتنفّسهم.
تحدّثنا عن “حديث الأسرى” في البوسطة والمعابر، عن التعذيب والتنكيل المتواصل، رحلات “البوسطة المقيتة، فليس صدفة أن غالبيّة جلسات المحكمة يوم الخميس أو الأحد لزيادة تعذيبه لتستمر كلّ رحلة في طريق الآلام 4-5 أيام، ناهيك عن تلك الرحلات “البوسطيّة” الإكسترا، عشرات المرّات بالغلط!
حدّثني عن الألم في عيون أولاده حين يراهم في وقفة احتجاجيّة هنا وهناك، ممّا يزيده إصرارًا وأملًا.
افترقنا قائلًا: “أنا مش رامبو”! فقط قضيّة إنسانيّة، لا غير.
أمّا بالنسبة للأسيرات فالتقيت الغالبية الساحقة منهن في سجن الدامون في أعالي الكرمل؛
كان اللقاء الأوّل مع الأسيرة خالدة جرار فحدّثتني عن تجوالها في كرمل حيفا وبحرها في “زياراتها” بواسطة “البوسطة” البغيضة، يرافقها حرس ملكي فشعرت وكأنّها برينسيسة، لفحوصات طبيّة في مستشفى حيفاوي، وحين دخلت الغرفة صاحت بالطبيب: “زيح، بدّي أشوف البحر!”، وكم كانت سعيدة بأنّ الطبيب الذي فحصها عربيّ من جناح الوطن الآخر الذي تحلم به ليل نهار، شاهدت البحر عبر النافذة…والبواخر للمرّة الأولى!
التقيت بأسيرات تعلّمن الثانويّة العامّة داخل جدران السجن، فاعتقلن وهن طفلات، وها هن يدرسن في الجامعة، ويحلمن بالتجوال في شوارع حيفا، ويطلبن من الأهل تصوير الكرمل وجماله في كلّ زيارة وتزويدهن بالصور ليشاهدن الكرمل الذي يتنفّسنه، وتقول إحداهن بسخرية سوداويّة: “محبوسين في أحلى محلّ بالدنيا ومحرومين من المنظر”.
سمعت عن أهميّة الرزنامة السنويّة، ففي الأسر، وبغياب النقّال والحاسوب، تصير لها أهميّة عظمى، يدوّن الأسير عليها يوميّاته وما يجري حوله، ولكن حرم الأسرى منها هذه السنة بسبب التقليصات والتواطؤ من الصليب الأحمر ممّا جعل الأسيرة تخطّ السنة على دفتر، كلّ ترويسة صفحة تحمل اليوم والتاريخ… وتنتهي بيوم التحرّر المرتقب ؛ فدور الصليب الأحمر، وللأسف، يقتصر اليوم على ترتيب زيارة الأهل، لا غير!!!
التقيت بأسيرة تشتاق لاحتضان ولديها “محمد (7 سنوات) وعبد الرحمن (4.5 سنوات)” ووالدهما/ زوجها يقبع في زنازين ريمون الصحراوي.
سمعت من غالبيّتهن عن رحلتهن الأسبوعيّة لجبال الكرمل، ففي غرفة رقم 11 طاقة (شبّاك صغير) تطلّ على الكرمل، تضع الأسيرة وزميلاتها الخزائن فوق بعضها، ويتسلّقن لمشاهدة جبال الكرمل وخضارِه عبر تلك الطاقة، والبعض يرفضن رؤيته (عشان ما يتحسّروا).
حدثّتني إحداهن عن التواصل مع العالم الخارجي عبر الإذاعة، فتوقيت أسيرات الدامون يترتّب حسب برامج الراديو التي تعنى بشئون الأسرى، ودور الرزنامة التي تكون آخر صفحة فيها يوم التحرّر، وفي آخر الليل تخبّئ ورقة اليوم سرًا ففيها دوّنت كلّ ما جال في خاطرها من خربشات وتأمّلات.
التقيت في الآونة الأخيرة الكثير من الأسرى، وفي كلّ لقاء سمعت حسرة أحدهم يحدّثني بحرقة عن عزيز له مات ولم تتح له الفرصة للوداع الأخير، منهم من فقد أبناءه وبناته، ومنهم من فقد أخًا أو أختًا، ومنهم من فقد جدّاً أو جدة، ومنهم من فقد والده دون أن يلقي عليه النظرة الأخيرة قبل مواراته التراب، وساعتئذ تكون حسرته أكبر ولا تكفّر عنها مواساة زملاء الأسر.
حدّثتني صبيّة عن اكتشافها داخل الأسوار العالم الحقيقي خارجها وأهميّته، في المستشفى لامست كرسي من العالم الحقيقي (الكنبة)، وفي طريقها من الزنزانة إلى غرفة الزيارات تشاهد “السما الحقيقي”، ومن طاقة غرفة الأحكام العالية تشاهد السما بدون شبك. (ذكرت كلمة “العالم الحقيقي” أكثر من عشر مرّات وجعلتني أستوعب أكثر وأكثر الزمن الموازي للأسير وليد دقة).
التقيت بختام التي قالت بعفويّة “إحنا بشر بنتوجّع”، وحدّثتني عن وجع البعد والفراق، وجع الأمهات البعيدات عن أطفالهن، وجع البعد عن طالباتها وزميلاتها، وجع الحرمان من المشاركات في المناسبات من أفراح وأتراح، ووجع حرمانها من رؤية واحتضان وعناق حفيدتها سارة… وأختها جنى، كان من المفروض أن تتحرّر من الاعتقال الإداري يوم 01.03.21 لتكون إلى جانب ابنتها دينا ساعة الولادة، ولكنّها اعتقلت في بوابة السجن يوم تحرّرها لتُحرم تلك المتعة!
التقيت بجامعيّات تم اختطافهن من مقاعد الدراسة وأروقة الجامعة إلى زنازين الاحتلال لتصير أمنية إحداهن أن ترى شبابيك طبيعيّة، دون شبك وحديد وحماية، لتصير سبيّة الفورة، وزملاؤها تخرّجوا من الجامعة لتُحرم صورة الفوج، تسمع بتخرّجهم عبر الإذاعة وتتضايق لأنّها ليس بينهم وصورتها ناقصة.
التقيت الأسيرة أنهار، حامل في شهرها الثامن، متوتّرة جدًا من فكرة الولادة في الأسر، وهي خائفة أن يأخذوا منها المولود “علاء” وتظّل سجينة وهو بعيد عنها، وتقول بحرقة: “بدّي أخلّف برّا ويرجّعوني بعدها قدّيش بدهم”. (من الجدير بالذكر أنّ حملة عالميّة ساعدت على ولادتها خارج السجن).
التقيت إسراء لتخبرني عن وضعها الصحيّ ومعاناتها، الإهمال الطبي وحرمانها من تلقّي العلاج لسنوات طويلة، دون أصابع ووجه مشوّه يتوق لعلاج، وجع وتشنّجات متواصلة، تفكّر بالدخول في إضراب عن الطعام حتى تحصل على العلاج الضروري.
قصّة أسرانا لم تُحكَ بعد؛ بقيت مُهمّشَة، منسيّة ومُغيّبَة.. لكلّ منهم حكاية وقصّة، وهناك ضرورة ملحّة لتوثيقها، كلّ أسير وحكايته، وروايتها جمعاء تشكّل فسيفساء لأسطورة نضاليّة يشهد لها التّاريخ، تلك اللوحة لم تكتمل بعدُ؛ لأن معظمهم لم يحكوها و/ أو لم يكتبوها، ولكلّ ظروفه وأسبابه، وفي نشر تلك الحكايات بعض حريّة.
نحن بلد المليون أسير، ورغم ذلك نسمع عن أسرانا هنا وهناك، فزعات عرب موسميّة حين يُضرب أسير عن الطعام أو حين يستشهد أو حين نحتفل بتحرّره!!
من خلال تجربتي أرى من الضرورة اتخاذ خطوات عمليّة من أجل أسرانا وقضيّتهم:
تحضير شريط متحرّك وعرضه في المولات والميترو وفيه اسم الأسير، عمره، يوم الاعتقال ومدّة الحكم … لا غير. لتثير ضجّة إعلاميّة عمليّة.
تفعيل التيك-توك والانستغرام من أجل قضيّة الأسرى (فقط اسم الأسير، يوم الاعتقال ومدّة الحكم … لا غير).
حملة “لكل أسير رسالة” – من خلالها خلق مبادرة تُبعث من خلالها الرسائل/معايدات/ بوست كاردات للأسرى ممّا يزيد من معنويّاتهم.
تبنّي أدب السجون: مساعدة الأسرى في طبع ونشر كتاباتهم واقتناء إصداراتهم.
حملة لتشجيع المحامين في الداخل الفلسطيني للقيام بزيارة الأسرى والتواصل معهم بشكل تطوّعي.
حملة عمليّة بموضوع الإهمال الطبّي (تصوير الملف الطبي وعرضه على أخصّائي وتقديم دعاوى تعويضات للقضاء الإسرائيلي)
تنظيم وقفات احتجاجيّة دائمة وداعمة للأسرى
الضغط على محطات الراديو والتلفزيون لتخصيص ساعات بث للأسرى وأهاليهم.
التوجّه للصليب الأحمر للقيام بواجبه تجاه الأسرى: توفير الرزنامة(وهذا أضعف الإيمان)، ترتيب فحوصات طبيّة للأسرى وملاحقة علاجهم، ترتيب إيصال الرسائل من وإلى الأسرى.
واسمحوا لي أن أنهي ب”وصيّة” الأسير المرحوم كمال ابو وعر (أحد ضحايا مسلخ سجن الرملة): “إنّ أقسى أنواع الموت هو هذا الموت الذي لا صوت له، لا أحد يسمعه، يظل مدفوناً خلف الجدران، يندثر في الصدى والنسيان، فلا تكونوا أيها الناس مشاركين في هذا الصمت، حنجرتي مخنوقة ولكن الموت يتكلم، من يصغي ويحرك أوتار حنجرتي ويسمعني الآن. إكتب بحبرك عني وعبّر.. فزنزانتي خرساء صامتةٌ كالقبر، اكتب ولا تخف فأنت حر.. أما أنا فأسيرٌ أتجرّع المر”!
نعم؛ الحريّة خير علاج للسّجين.
***مداخلتي في ندوة “الأسرى والإعلان العالمي لحقوق الإنسان” التي نظمّها التحالف الأوروبي لمناصرة أسرى فلسطين في اليوم العالمي لحقوق الإنسان 10.12.2021