شعب فلسطين لن يسمح بأن تمسي فلسطين قضية منسية
تاريخ النشر: 13/01/22 | 13:40د. جمال زحالقة
تمر قضية فلسطين في السنوات الأخيرة بحالة من التهميش المتراكم والمتواصل، وهناك لزوم لدق نواقيس الخطر، بالذات لأن ما نشهده ليس حدثا دراماتيكيا يفرض نفسه بنفسه، بل لأننا بصدد عملية تراجع بطيء، وانخفاض مستمر في درجة الاهتمام العالمي والعربي وحتى الفلسطيني، تتغلغل بلا ضجيج وبلا ضوضاء وتفرض نفسها بهدوء، كعامل سياسي هو الأهم في السنوات الأخيرة.
ولا أجد مبالغة في الإشارة إلى أنّ ما نشهده (وبالأحرى لا نشهده) يشبه إلى حد كبير الظروف التي دفعت إلى اختطاف الطائرات قبل خمسين عاما، والتي كان هدفها المركزي لفت انتباه العالم إلى القضية الفلسطينية المنسية.. ونحن اليوم لسنا بعيدين عن حالة «القضية المنسية».
لم يأت تهميش فلسطين من فراغ، أو من تراكم وتزامن عشوائي لأحداث وتطورات إقليمية ودولية هذا من جهة، ومن جهة أخرى من المبالغة نَسبُ كل هذا التهميش إلى نجاح إسرائيلي، فهو لم يكن لينجح، ولو مرحليّا، لولا حضور عوامل مساعدة عربية ودولية، وغياب الفعل المقاوم الواعي للمشروع الإسرائيلي، الرامي إلى الإبادة السياسية للشعب الفلسطيني، وقصر كيانه في إطار «شعب ذو بعد واحد» هو البعد الاقتصادي.
استراتيجية التهميش الإسرائيلية
هناك تراكم للسخط والغضب والاحتقان، لا بدّ ان ينفجر، وشعب فلسطين لن يقبل أن يموت بالاختناق الطوعي، وهو حتما سينتفض وكل الدلائل تشير إلى ذلك
تندرج الاستراتيجية الإسرائيلية في تهميش القضية الفلسطينية، ضمن مشروع أوسع وهو «الإبادة السياسية – بوليتيسايد» للشعب الفلسطيني، وهذا اسم كتاب صدر عام 2003 لعالم الاجتماع الإسرائيلي باروخ كيمريلنغ، وحلّل فيه سياسة شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي في تلك الفترة، التي رمت إلى إبادة البعد السياسي للكينونة الفلسطينية، عبر سحب شرعية النضال الفلسطيني وتصنيفه في خانة الإرهاب، واغتيال القيادات الفلسطينية، وتدمير البنى التحتية الصالحة لإقامة كيان مستقل، ومنع إقامة مثل هذا الكيان. حين عاد نتنياهو إلى الحكم عام 2009، تبنّى بالكامل مشروع الإبادة السياسية، ودمج فيه استراتيجية تهميش قضية فلسطين كأداة مركزية لإبعادها عن التدويل، وحشرها وحصرها في الساحة الخلفية للدولة اليهودية كقضية أمن واقتصاد وما بينهما، وأصبح موقف النخب الإسرائيلية السياسية والأمنية، وليس نتنياهو وحده، هو أن التعامل المحلّي المباشر مع الفلسطينيين تضبطه موازين القوى المائلة بقوّة لصالح إسرائيل، في حين إن الساحة الدولية قد تحكمها اعتبارات أخرى غير أمن ومصلحة الدولة العبرية واعتباراتها الكولونيالية.
في ظل انتقال مركز الثقل العربي إلى المسألة الإيرانية، ببعدها النووي وبتفرعاتها الإقليمية، وإلى المسألة العربية، وحروب العرب ضد العرب، وفي ظل الانشغال الفلسطيني بالانقسام والصراعات الداخلية، خلت الساحة لإسرائيل لتنفيذ مآربها السياسية، حيث قامت بحملة دبلوماسية وإعلامية جارفة، لجعل إيران أهم قضية في الشرق الأوسط، ولطرح معادلة مفادها أن الضغط على إسرائيل في الشأن الفلسطيني هو دعم لإيران، على نسق المعادلة التي روّجتها الدعاية الإسرائيلية في السبعينيات ومطلع الثمانينيات بأنّ الحركة الوطنية الفلسطينية هي تجسيد للخطر السوفييتي، وأن دعمها يعني دعم نفوذ الاتحاد السوفييتي. لقد درج رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بنيامين نتنياهو، على المفاخرة بأنّه استطاع تحقيق ما سماه إزالة قضية فلسطين عن جدول الأعمال العالمي، وتبجّح، هو ومن حوله، بأن قدراته الخارقة هي التي أنجزت ذلك. لا تصح الاستهانة بقدرات نتنياهو، لكنّها بالتأكيد ليست خارقة، فقد سارت الرياح الإقليمية والدولية بما تشتهيه سفينة التهميش التي قادها. وبكلمات أخرى هو خاض حربا من طرف واحد بلا مقاومة، أو ضغوط جدّية من المجتمع الدولي والعالم العربي والمؤسسة القيادية الفلسطينية، وبالتالي لم تتعرّض قدراته لامتحان، ولو تعرّضت لكان قد تراجع، فهذا هو تاريخه وشخصيّته: يخضع للضغوط حين توجّه الضغوط، وهو في الامتحانات الصعبة أضعف مما قد يتخيّله البعض. هذه قضية مهمّة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن فرص نتنياهو بالعودة إلى الحكم قويّة، كما تبدو الأمور اليوم.
تطبيع التهميش
لم تكن موجة التطبيع العربي الأخيرة ممكنة لولا أنه جرى وبشكل منهجي تهميش قضية فلسطين، ما عبّد الطريق للمطبّعين العرب نحو «كانوسا» تل أبيب. وبعد أن جرى في الفضاء العلني ترتيب سلم الأولويات في المنطقة، بحيث أصبحت قضية إيران هي الأولوية الأولى وقضايا الصراعات العربية الداخلية هي الأولوية الثانية وأمست القضية الفلسطينية في أولوية عربية منخفضة، وتحتل الخبر الخامس أو السادس في نشرات الأخبار، كان من السهل نسبيا على قيادات أربع دول عربية الانتقال إلى التطبيع العلني والتحوّل السريع للتحالف السياسي والعسكري بلا خجل.
وزاد التطبيع العربي من تهميش القضية الفلسطينية، وساهم في نشر الادعاء المريض بأن قضية فلسطين أمست «غير مهمّة» الأمر الذي أثّر سلبا في الرأي العام العربي، وفي الساحة الدولية أيضا. لقد دخلنا في دورة خطيرة هي تهميش يمهّد للتطبيع، الذي يعمّق بدوره التهميش، ويفتح المجال للمزيد من التطبيع وهكذا دواليك. لقد وصلنا الى حالة نحن فيها بحاجة الى رد الاعتبار للقضية الفلسطينية على الساحة العربية الشعبية والثقافية والتعليمية والسياسية والمؤسساتية، فتهميش فلسطين لم يعد حالة دولية فقط، بل حالة عربية تستدعي القلق.
خطيئة الانقسام والعقم السياسي
لعل أهم الاستراتيجيات الإسرائيلية في المحافظة على الاحتلال والهيمنة والتحكّم بمصير الشعب الفلسطيني، هي تفتيت الشعب الفلسطيني وتقطيع أوصاله وتجزئته، والهدف هو محو قضية فلسطين الشاملة وتحويلها إلى قضايا متناثرة، منزوعة من أي بعد سياسي. وجاء الانقسام الفلسطيني مساهمة طوعية في هذه الاستراتيجية الإسرائيلية، بغضّ النظر عن نوايا صنّاع الانقسام. لو صرفت الطاقات والجهود، التي بذلت وتبذل لصيانة الانقسام، في تدعيم وتطوير مشروع التحرر الوطني الفلسطيني، لكنّا اليوم في مكان مختلف تماما. الانقسام ليس هدرا للموارد فحسب، بل هو مساهمة فعلية إضافية في تهميش القضية الفلسطينية. وتستغله إسرائيل للادعاء بأنه «لا شريك فلسطيني» وبأنه يجب وضع القضية الفلسطينية على الرف وعدم الحديث عنها طالما ليس هناك «عنوان» فلسطيني متفق عليه. وما زاد الطين بلّة أن الانتخابات النيابية والرئاسية، التي جرى الإعلان عنها أجّلت إلى موعد غير معروف، ما أسهم في وضع علامات استفهام حول الشرعية داخليا ودوليا.
مقاومة التهميش
لا بدّ أولا من الاتفاق على التشخيص بأن قضية فلسطين تعاني في السنوات الأخيرة من تهميش خطير. النقاشات والخلافات في وجهات النظر، وحتى الصراعات السياسية مهمّة ولها ما يبررها، لكن يجب الانتباه إلى أنّها كلّها تصبح غير مهمّة حين تكون القضية نفسها مهمّشة وغير مهمّة. إن حالة التهميش ليست وليدة الصدفة، على الرغم من دور التحوّلات الكبرى في المنطقة والعالم في تسهيل نشوئها وتطوّرها. هي بالأساس وليدة مخطط إسرائيلي مدروس، ساهم في إنجاحه التواطؤ العربي والعقم السياسي الفلسطيني. وهناك حاجة ولزوم للانطلاق بمشروع وبحملة ضد التهميش، لإعادة القضية الفلسطينية إلى مكانها الطبيعي بوصفها القضية المركزية في الشرق الأوسط، التي لا يمكن الوصول إلى سلام واستقرار في المنطقة من دون حلّها حلّا عادلا يضمن تصحيح الغبن التاريخي، الذي لحق بشعب فلسطين.
لقد ثبت تاريخيا ان شعب فلسطين لا يقبل التهميش، وحين تجري محاولات، وحتى مؤامرات، لإبعاده عن الساحة، يعود إليها بقوّة ليقلب الموازين ويحطّم أحلام من عملوا على التهميش. هذا بالضبط ما حدث عشية الانتفاضة الثانية، حين أحس الشعب بأن هناك محاولات لتصفية القضية الفلسطينية من خلف ظهره، وهذا أيضا ما حدث قبل الانتفاضة الثانية، بعد محاولات «التخلّص» من قضية فلسطين، بفرض حل غير عادل. ومن المؤكّد أن الهدوء الظاهري مخادع، وهذا الواقع ليس هو الحقيقة، فهناك تراكم للسخط والغضب والاحتقان لا بدّ ان ينفجر، وشعب فلسطين لن يقبل أن يموت بالاختناق الطوعي، وهو حتما سينتفض وكل الدلائل تشير إلى ذلك. الحالة الشعبية جاهزة، أو هي في طريقها إلى ذلك، والمشكلة هي في القيادة، التي يشلّها العقم السياسي، إلى درجة الاستكانة وقلّة الحيلة في مواجهة التهميش وبقية التحدّيات. المصالحة المطلوبة هي بين الشعب والقيادة، التي عليها الإصغاء الى صوت الشارع والاقتناع بأن النضال الفلسطيني ليس عبئا عليها، بل هو فرصة للانتقال من الهامش الى المركز ومن العقم إلى الفعل. لن تستطيع القيادة الفلسطينية وحدها محاربة التهميش، فهذا بحاجة الى حراك شعبي له فعله وأثره وصداه، لكن يبقى دور القيادة مهم جدّا، ومن العبث الحديث عن نضال بلا قيادة تمنح النضال أفقا سياسيا، ولا تبقيه مقطوع الرأس. القيادة الفلسطينية بحاجة لبناء ثقة الجماهير وإلى شرعية شعبية، وهذا يأتي إمّا بانتخابات، أو بوحدة وطنية كفاحية تشمل القوى الوطنية كافة. هذا شرط مسبق لفعل جدّي للخروج من حالة التهميش وإعادة قضية فلسطين إلى المركز.