قراءة في رواية “رحلة إلى ذات إمرأة” للكاتبة صباح بشير
لبابة صبري
تاريخ النشر: 03/05/23 | 9:45تبني الكاتبة صباح بشير روايتها “رحلة إلى ذات امرأة” من خطاب نسويّ يندّد بالمجتمع الذّكوريّ وينتقد النّساء التي تتوارى وتتماشى مع هذا المجتمع، مثال ذلك أمها وأختها وأم عمر اللواتي يمثّلن المرأة الذّكوريّة؛ ويتّسم هذا المجتمع بظلم المرأة والتحكّم في مسيرة حياتها الشخصيّة، أي بمرورها من العذريّة إلى الأمومة، كأنّ جسد البطلة حنان يصلح لحلّ العذرية والإنجاب فقط، وشكّلت حنان في هذا المجتمع الذّكوريّ الكائن المستضعف الذي لا يستطيع حماية نفسه؛ ليغدو لعبة في قدر هيمنة المجتمع وقيمه ومعتقداته وأفكاره، ويتم التعامل معه جسدًا ومتعة.
وبالتالي تتناول صباح قضيّة الجسد الأنثويّ بما هو لباس ثقافيّ؛ بحيث يقوم المجتمع في هذه الرّواية بإنتاج خطابٍ يُمارس القهر والتّهميش تجاه البطلة حنان، تجعلها صوتًا خافتًا غيرَ حاضرٍ وسط دوائر متعدّدة من الحجب والمنع، هذه السّيطرة المُمنهجة للرّجال على أجساد النّساء تُعتبر وجهٌ من أوجه العنف الممارس عليها، ويعمل هذا النّوع من العنف بمثابة آليّة للمحافظة على سلطة الرّجل (عمر)، كلّ هذا تعزّزه القواعد والممارسات الثقافيّة وتحدّد مكانة المرأة (حنان) داخل البناء الاجتماعيّ العام. وهذا ما تحدّث به الباحثان الجزائريّان سليم سهلي ووسيلة بروقي، في بحثٍ اجتماعيٍّ أنثروبولوجيٍّ (2019).
تدور الرّواية حول عدّة ثنائيّات: ثنائيّة المرأة والرجل؛ حيث وضعت صباح المرأة في مواجهة الرّجل المتعنّت والمجتمع الذّكوريّ الظّالم. وثنائيّة المقاومة والهزيمة؛ حيث عبّرت الكاتبة عن مقاومة البطلة حنان للعادات والتّقاليد البالية إلّا أنّها أعلنت هزيمتها أمام محاولاتها المتكررة للتحرّر من هذه التّقاليد. يتجلّى انتصار المقاومة في الرّواية بشخصيّة أم إبراهيم عندما قاومت الفقر والاستغلال لكسب لقمة العيش، وبأصحاب الحرف التقليديّة في القدس العتيقة عندما قاوموا مشاريع الحداثة. وثنائيّة التمرّد والعجز؛ عبّرت صباح عن البطلة حنان بشخصيّة المثقّفة والمتمرّدة على فكر مجتمعها الذي يريد وضعها في قالب المرأة الخنوعة، لكنّ حنان في الواقع كانت عاجزة أمام جبروت هذا الفكر؛ حيث عاشت المعاناة مع عمر والأقارب والجيران، إلى أنْ آلت إليها الأحوال للهجرة، ولم تكن الهجرة والوحدة والانعزال في بلد آخر أفضل من مكوثها في بلدها الأصل، لذلك نرى البطلة عادت ولكن بقوّة أو هذا ما أوحت به الكاتبة في النّهاية. وثنائيّة الحبّ والكراهية؛ حيث أحبّت صباح أبيها وأمّها وصديقتها ماري وخالد ونادر، وكرهت أختها وتفكير أمّها وعمر وأمه ومنظومة المجتمع الذّكوريّ. وتنتهي الرّواية بثنائيّة الأمل والألم؛ حيث عبّرت الكاتبة في نهاية الرّواية عن عودة حنان المُشتهاة والحزينة في آن واحد؛ عادت حنان متشوّقة لأهلها ووطنها ونسمات هوائه وعبق ترابه ورائحة الأجداد، ولكنّ عودتها كانت متّشحة بغصّة جرح وطنها المسلوب وعدم تحقيق حلمها بحبّ خالد؛ هذا الحبّ الذي كان ينبض طيلة الرواية، كان أيضًا يشير إلى حرية حنان في التعبير عن مشاعرها وفي مبادرتها بإعلان حبّها في نهاية الرواية على الرغم من عدم تحقيق حلمها، ويشير هذا الحب إلى الهوية والانتماء لوطنها، فقد ربطت جرحها بجرح الوطن، وتمّ سلب حلمها بحبّ خالد كما تمّ سلب الوطن.
تبني صباح روايتها من قصصٍ سرديّة، وتقوم كلّ من الرّؤية التراجيديّة والتّقنيّة الحكائيّة بترتيب هذه القصص؛ قصّة البطلة حنان بما هي عليه من ضعف وعجز ورفض للعادات والتّقاليد، بصياغة فرديّة مليئة بالطموح. وقصصِ النساءِ الأخرياتِ اللواتي عانيْنَ من موضوع الزواج والطلاق، بصياغة جمعية متعدّدة الحكايات ولكنّها تعود إلى حكاية واحدة مغلقة، أُفُقها هو ظلم المجتمع للمرأة، هذا الظّلم يمارسه كلّ من الرّجل والمرأة الذّكوريّة – على حد سواء – على المرأة. وبالتالي تُسمعنا الرّواية صوتًا فرديًّا/ جماعيًّا: صوتُ المرأة التي تبحث عن ذاتها، ويبقى البحث مفتوحًا في ظلّ الغُلب والغربة والخيبة والوحدة التي تعيشها المرأة. وكما يبدو فإنّ انغلاق بحث المرأة عن ذاتها يعني ذلك موتها.
لعلّ سطور بداية الرّواية تنصهر في نهايتها؛ لقد أشار لذلك الكاتب فيصل درّاج في حديثه عن رواية “ملحمة الحرافيش” لنجيب محفوظ، تشير نهاية الرّواية إلى بدايتها وتعطيها معنىً جديدًا: يطوي ماضيًا قاسيًا وكابوسًا ثقيلاً، ويبزغ أملاً ويولد حياة متجددة وأحلامًا جديدة قد تتحقّق أو قد تكون مجرد احتمال للتّحقّق، تقول حنان في النّهاية: “بدأت العمل على ترتيب أموري وأوضاعي، وها أنا أجلس على شرفتي الجميلة وأدوّن الذّكريات، بعد أنْ أغلقت أبوابَ قلبي بإحكام، وفتحت أبواب العقل على مصراعيْها”.
لقد تحوّل الماضي عند البطلة حنان إلى فضاءٍ زمنيٍّ شاسع، يتطلّب المساءلة ويقرأ الاختلاف عن حاضرها، وبالتالي فإنّ الماضي يصبح وعيًا بالحاضر، وتقوم صباح بإنشاء نهجٍ حاضرٍ جديدٍ يقرأ الماضي، ومن ظلال الماضي تلجأ إلى الخيال الإبداعي وتبني آفاق شروق المستقبل.
إنّ رواية صباح تقدّم قراءة اجتماعية للمرأة، تتأمّل المجتمع في أفكاره الكثيفة والمعقّدة، تبدأ ببوابة الذكورية القاهرة والواهمة، وتنتهي بجملة من الآلام والأحلام. وهي بذلك، مثل كل عمل أدبي إبداعي، تحتضن التناقضات في ذات كل إمرأة، وهي أيضًا – كما ذكرت يمنى العيد عن رواية “شجرة الفهود” لسميحة خريس- تنسج بأسلوبها السرديّ الواقعيّ تفاصيل حياة المرأة وهي تحاور زمنها المتغيّر وتطرح الأسئلة، تبني شخصيّات يتبلور حضورها عبر ما يرتسم من سلوكاتها ومعتقداتها وتقاليدها في موضوع الزواج والطّلاق، وفي علاقات الحبّ والغيرة، والرّغبات المكبوتة، والأحلام الماثلة في حركة الزّمن وسيرورة الحياة.