في أدب الزيتون والزيت.
إبراهيم طه
تاريخ النشر: 06/11/23 | 18:41إهداء:
أول عهدي بالنقد الأدبيّ والنشر في الصحافة كان في الملحق الأدبيّ الثقافيّ للاتحاد في خريف 1983. كانت مقالة نقديّة عن قصّة نشرها الأديب مصطفى مرّار، أبو نزار رحمه الله، في الملحق أيضًا. ما يعني أني أتممتُ الآن أربعين عامًا في هذا المجال. احتفاء بهذه المناسبة الأربعينيّة كتبت مقالة من قسمين عن موسم الزيتون هذا العام. أهدي القسم الأول منها لروح أبي نزار، مصطفى مرّار، أول من جرّبت النقد عليه فتحمّلني. وأهدي قسمها الثاني إلى روح الصديق أبي هشام، محمّد نفّاع رحمه الله، أول من عمل من الزيتون والزيت أدبًا وسياسة وفلسفة.
(1) الطير وعابر السبيل:
موسم الزيتون هذا العام رحلة استجمام. قياسًا بموسم السنة الماضية هذا الموسم نقاهة لقليلي الخير والبركة. نقاهة وقطيعة رزق. الموسم خفيف جدًا. الحبّات ضائعات. قد تجد أربع أو خمس حفنات على كلّ زيتونة، وأحيانا لا تجد إلا حفنة أو اثنتين. في المعصرة التقيت برجل معه شوالان من الزيتون. حين كفت الشوالين في الحاوية أفلتت حبّة زيتون واحدة وتدحرجت. حبّة كبيرة مثل حبّة البلح. من غير المعقول أن تذهب سدى. ركض الرجل وراءها حتى مسكها. كنت أراقبه باهتمام. رفع رأسه ونظر إليّ فأصابه بعض الحرج والارتباك وامتقع لونه. فهو بالتالي رجل، رجل طويل وعريض، ولا يصحّ أن يركض وراء حبّة زيتون مهما كانت كبيرة. قلت وأنا أطمئنه مازحًا: “أنا معي 8 شوالات زتون.. عدّيتهن بالحبّة هاي السنة!” ابتسم الرجل ابتسامة صفراء. لم يصدّقني. لكنّي خفّفت عنه بعض الحرج.
كنت على آخر درجة في السلّم. والسلّم يرقص تحتي وأنا أطارد بعض حبّات الزيتون الشاردة. مرّ الحاجّ أبو طارق كعادته في كلّ موسم. ولا أعرف لماذا اخترت له هذا الاسم المستعار. الاحتياط واجب فعلًا. من حظّي أنه “عاقل” لا يقرأ الاتحاد. لأنه لو كان يقرأ الاتحاد لما نجّاني منه لا الزير سالم ولا أبو زيد الهلالي. كان يسوق سيّارته ببطء عن قصد. لمحني على السلّم وأنا أرتعد خائفًا. طرح السلام. حيّاني بتحيّة قديمة لا يعرفها جيل اليوم: “صح بدنه!” رددت عليه بلغته: “بدنه يسلّمه!”.. كلمة منه وكلمة منّي، تفضّل يا حاجّ. أطفأ محرّك السيّارة وجاء. ألهاني عن الشغل لنصف ساعة وشرب نصف برّاد القهوة. تحدّثنا في البداية في مواضيع عامّة عن حالة الطقس وموسم الزيتون وأوضاع الحرب وغلاء المعيشة. كان الحاجّ يقفز من موضوع إلى موضوع مستعجلًا كما لو كان على موعد مع زبون مثلي في كرم آخر. وقبل أن يغادر قال لي: “ما تنسى يا أستاذ، وإنت كلّك معرفة ومفهوميّة، تخلّي نصيب للطير وعابر السبيل”. أوصاني بوصفه عارفًا وبوصفي جاهلًا. ووصيّة العارف للجاهل فرض واجب. لكنّ الحاجّ قالها على المفصل بين المزح والجدّ. في الوسط بالضبط. الوسطيّة أحوط السبل. تحمي صاحبها من التطرّف أو الخوف أو الفضيحة. أجزم أنه كان جدّيًّا. ولمّا كان لا يملك ما يكفيه من الجرأة جعل قوله في الوسط بين الجدّ والمزح حتى لا أقفره. أبو طارق، لمن لا يعرفه، عنده شحّ وتقتير. هو يظنّ أنّ التقتير تدبير. والحاجّ فيلسوف في التنظير. لسانه شرعة! من يسمعه يظنّ أنه الإمام ابن تيمية. إحساسي أنّ حرصه مصبوب كلّه على عابر السبيل وليس على الطير. لو كان الأمر بيده لاستخرج عجمة الزيتون من حوصلة النسر.. تململت وتلكّأت قليلًا في الردّ على وصيّته. لاحظ الحاجّ تردّدي فقال: “للطير نصيب ولعابر السبيل نصيب من راس الكوم.. يا دكتور!” أول مرّة قال لي يا أستاذ. هذه المرّة قال يا دكتور. والفرق كبير في المعنى لاختلاف السياق. في الأولى كان الحاجّ على أمل. هذا تأويلي أنا. في الثانية بدا أنه يفقد الأمل. شعرت كأنه يعاتبني أو يحذّرني. كأنه يقول “عيب عليك أن تتجاهل حصّة عابر السبيل وأنت دكتور”. والدكتور لا بدّ أن يعرف الواجب أكثر من الأستاذ.. قصده أن أعبّئ له مقدار رطل من زيتون مخلوط، أخضر للرصيص وللمشقّح والمسبّح وأسود للمملّح، ككلّ موسم. هي حصّة عابر السبيل. وحصّته هي الصدقة الواجبة في رزقي. هكذا يؤمن من كلّ عقله.
بصراحة، استفزّني الحاجّ لأني لم أعمل حسابًا لا لطير ولا لعابر سبيل هذا الموسم، خصوصًا إذا كان عابر السبيل هو الحاجّ. فقلت له، ما معناه، أترك الطير جانبًا يا حاجّ. لا تقلق عليه فقد أخذ حصّته من التين والعنب. ولا أظنّه يلاحقني على حبّات الزيتون مثلك. لا أبالغ إذا قلت لك إنّ الطير قد أكل من تيني وعنبي يا حاجّ أكثر ممّا أكلته أنا وأسرتي. أكل حتى أصابه السكّري من التين وسكر من العنب. وشاركه النحل والزقرط والدبابير في السطو على التينات والدوالي فأكلوا نصف الموسم هذا العام! لا أبالغ يا حاجّ! والحاجّ ليس غبيًّا. يفهم معنى الحكي.
أمّا عابر السبيل، يا حاجّ، فهو في الفقه الإسلاميّ مسافرٌ لا يجد ما يعينه على سفره. هذا الذي أعرفه أنا. ومن أنا أمام حضرتك في الفقه؟! قل لي يا حاجّ هل أنت عابر سبيل وعندك سيّارة مثل الصالون توفّر لك كلّ أسباب الراحة في سفرك الشاقّ والمرهق من بيتك حتى الجامع، والجامع لا يبعد عن بيتك أكثر من ثلاث مائة متر؟! قل لي من هو عابر السبيل الذي تقصده بالتحديد يا حاجّ؟ ما هي مواصفاته التي تجعله يستحقّ حصّة في زيتوني؟ ثمّ ما هو عدد عابري السبيل الذي يجب عليّ أن أطعمهم من زيتوني؟ لأنك مثلما ترى يا حاجّ قسم من حدود الكرم على الشارع العامّ، ويمرّ عليه مئات من عابري السبيل مثل فضلك كلّ يوم. لو فرضنا أنّ العدد كان ثلاثة وستّين عابرًا للسبيل، حسب عدد عروق الزيتون التي عندي، وكلّ عابر سيأخذ رطلًا مثلك معنى هذا الكلام أنني أخصّص ثلاث تنكات زيت طافحة لعابري السبيل.. زعل الحاجّ. فليزعل الحاجّ. المثل يقول “الرطل بدّو رطل ووقيّة”!
كان الحاجّ بهذه الطريقة، وبعروة الطير وعابر السبيل، يلملم قدرًا كبيرًا من الزيتون، كلّ موسم، من عندي ومن عند غيري طبعًا. يلملم ما يفوق حصّتي أنا الذي أموت في كرمي ثلاثًا وستّين ميتة على مدار السنة من حرث وتعشيب وتقليم وتنظيف وتحويش وسفر وسهر وانتظار ساعات في المعصرة وحفظ الزيت في براميل.. كلّ ما يحتاجه أبو طارق كي يحصّل مونته السنويّة في الزيتون والزيت هو نتف من الحكايات التراثيّة وشظايا معلومات دينيّة ولسان ماضٍ سليط. بعض الناس رزقهم في ألسنتهم. ورزق الهُبل على المجانين.. والغريب أنّ الحاجّ ليس أهبل!
(2) اليهوديّ وتجارة الزيت:
كلّ موسم زيتون أحمّل زيتوني بالتندر الكبير وأقصد معصرة أبو عبّود في كفر ياسيف. عنده معصرة حجر. وهناك ألتقي بالفلّاحين أمثالي ممّن يعتنون بزيتونهم على امتداد العام ويحوّشونه بأيديهم الخشنة. وألتقي أنصاف الفلّاحين ممّن لا يرون زيتونهم إلا في المواسم، يحوّشونه بأيديهم مدّة أسبوع من الزمان لتنقطع بعدها علاقتهم بكرومهم. وألتقي أشباه الفلّاحين ممّن يتمسّكون بزيتونهم لكنّهم لا يعملون به بأيديهم ليقوم الآخرون على رعايته وتحويشه على النصف. وهناك ألتقي بعض الجاحدين ممّن باعوا زيتونهم، فلا يعرفون شيئًا عن الزيتون ورعايته وتحويشه. والمصيبة أنهم لا يأكلون زيتًا معصورًا بالمفرمة فيأتون بملابسهم المكويّة في سيّاراتهم الفارهة لشراء الزيت العضويّ المعصور على الحجر.. هناك ألتقي برجال ونساء من كلّ الألوان باللغتين العربيّة والعبرانيّة. التقيت هذا الموسم برجل يهوديّ ترافقه امرأة وزوجها من عرب العرامشة. اليهوديّ مالك كرم الزيتون والمرأة وزوجها من العمّال يحوّشان الكرم مناصفة. الكرم في الأصل لأهل الكابري المهجّرة.
والكلام يجرّ الكلام ويأخذنا من الزيتون والزيت إلى التجارة وأصولها وقواعدها. وهذا موقف مألوف يحدث كلّ موسم تقريبًا مع غيره من التجّار اليهود الذين ألتقيهم في معصرة أبو عبّود.. كان اليهوديّ من أصل مغربيّ تاجرًا محترفًا ومحدّثًا لبقًا. أحسست، من نبره وجسده الذي يتلوّى، كأنه يعتذر عن علاقته بزيتون الكابري حين سألته عن كرمه. وكنوع من التعويض عن هذه العلاقة الهجينة أراد أن يعلّمني درسًا في تجارة الزيت بلا مقابل. حاولت أن أقول له من البداية بأني لست تاجرًا. ولو كنت لأعلنت إفلاسي من أول يوم. لكنه قاطعني أكثر من مرّة واستمرّ في محاضرته. كان لسانه سليطًا أكثر من أبو طارق. لكنهما صنوان. هو والحاجّ وجهان لعملة واحدة.
بدأ حديثه بالسؤال البلاغيّ لماذا هو يأتي أصلًا إلى هذه المعصرة؟ للتجارة طبعًا. لم أفهم العلاقة بالبداية. فهمتها لاحقًا.. ورحلة التجارة تبدأ بتحضير القناني. هذه يجب أن تكون زجاجيّة بلون أخضر سعة ثلاثة أرباع لتر. يجب. ثمّ يشتري ملصقات مع صورة شجرة زيتون معمّرة يكتب تحتها “شجرة مقدّسة”. بالعبريّة طبعًا. أنتم لا تحتاجون إلى هذا الشطط. يقصد نحن العرب. والملصقات يجب أن تكون كبيرة ما يكفي ليسجّل عليها كلّ مواصفات الزيت. هي سبع مواصفات يرتّبها بدقّة. وهو لا يكذب، كلّ المواصفات السبع صحيحة. وعليّ أنا أن أتذكّر أنه لا يكذب فيها ولا يختلق. وكأنني بحاجة إليه حتى أتذكّر. ثمّ يبدأ بعدّها واحدة فواحدة مرتّبة بحكمة تبدأ بتحديد نوع الشجرة وتنتهي بصفاء الزيت ونقائه. يذكر الصفة التي يضعها على الملصقات ثمّ يتبعها ببعض الشرح والتعليق حتى يفهّمني أنا:
– زيتون سوريّ بلديّ: المذاق الأصليّ. (الزيتون عندكم أنتم العرب طبيعيّ ليس مثل الزيتون عندنا نحن اليهود. عندنا فلاسفة كلّ يوم يبتكرون لنا صنفًا جديدًا يلائم ذائقة الأشكناز. لا طعم له ولا لون ولا رائحة. وما علاقتهم هم أصلًا بالزيتون؟! الأشكناز المدلّلين).
– بعل بدون سقاية. (السقاية تفقد الطعم. أنت بالتأكيد تعرف. أنت تبدو لي فلاحًا أصليًا من ملابسك وبسطارك وطاقيّتك).
– عضويّ بدون أسمدة أو أدوية. (هناك كثير من الأشكناز المغنّجين الذين تستهويهم هذه الأمور. لا يأكلون إلا الطعام العضويّ. مدلّلون! فليدفعوا ثمن دلالهم).
– التحويش حلب بدون ضرب. (وهنا أيضًا تجد الكثير من الزبائن الذين تعنيهم هذه الأمور. أولئك الذين يشفقون على الشجر. قالت له امرأة مرّة إنها اشترت من عنده عشر قناني زيت دفعة واحدة لأنّ التحويش حلب بدون ضرب.. يقول وهو يضحك).
– عصير بارد. (العصير البارد يحافظ على جودة الزيت. فعلًا، هذا صحيح. لأنّ الزيت إذا سخن بالمفرمة تقلّ فوائده وتزداد نسبة حموضته).
– عصرة أولى بكر. (هذه حقيقة لكنها هبل! ليس في بلادنا عصرة ثانية. بعض الناس بربع عقل! هذه قاعد حديديّة يجب أن تتذكّرها دائمًا في التجارة. بعض الناس بربع عقل).
– زيت صافٍ. نسبة حموضة قليلة (لونه أخضر فاتح يلمع مثل الذهب. هذا مهمّ.. ولم يزد على ذلك).
ثمّ اختتم محاضرته في أصول التسويق والتجارة بجملة مناكفة أو مشاكسة. “هذه المواصفات تكفي حتى أبيع الزيت أكثر منكم، أنتم العرب، بثلاثة أضعاف”. فقلت له: “والزيت لأهل الكابري أصلًا!” ابتسم اليهوديّ ابتسامة صفراء، لم أحدّد معناها… لكنّي أعترف أنّ هذه المحاضرة قد أسرتني. وأقحمتني في مونولوج مثير. مثير وطويل. الزيت هو الزيت نفسه. نأكله نحن بالفطرة، بالتوارث جيلًا فجيلًا ونعشق طعمه ورائحته ولونه بالفطرة. الزيت هو الزيت. أول مرّة أعرف أنني آكل زيتًا بسبع مواصفات. بسبع مواصفات مرتّبة. لم أفكّر في حياتي كلّها أني آكل سبع مواصفات وأنا أغمس اللقمة بصحن الزيت. الزيت هو الزيت. وزيتنا ليس للتجارة. نأكله ولا نأكل غيره إن كان بسبع مواصفات أو بربع مواصفة. زيتنا بسبع أرواح يا سيّدي. زيتنا لا يموت في ذاكرتنا. مبارك. محميّ ببركة الله. محميّ بعشقنا له. لم أفكّر في حياتي أن أتعامل مع زيتي بهذه الطريقة. الزيت في قلبي محفوظٌ مصون. ولم أشعر مرّة أني في حاجة إلى توصيفه أو تسويغه أو تعقيله أو تغليفه باللغة.
كلام هذا “المرّوكي الوقح” مخمّس مردود! هذه المواصفات السبع هي في الزيت نفسه، باعترافه هو، لكنّه يجعلها الآن في اللغة. واللغة لعبته. لا يباهي بالزيت نفسه، بل بالصفات السبع التي يسجّلها هو على الملصقات. وكأنها من عنده، أو من بيت أبيه وجدّه. لا يفاخر بالزيت، بل بشطارته وقدرته اللغويّة على توصيف الزيت. يتباهى بأنّ المواصفات السبع، التي اكتشفها بعبقريّته، هي ما يمنح الزيت خاصيّته الزيتيّة وحقيقته الوجوديّة! التجارة شطارة. والشطارة في الترويج لا في البضاعة نفسها. المسألة هي الرواية لا الزيت. المسألة هي السرد لا الحقيقة. الأصل ليس الشيء في ذاته وإنما غلافه السرديّ. اللغة قبل الفكرة. من يملك اللغة يصنع الواقع والحقيقة. وصناعة الواقع من مادّة اللغة يوصل في سياقات كثيرة إلى صناعة الوهم. من يعرف كيف يعيد كتابة التاريخ يكتب حاضره ومستقبله. معاهد أبحاث الأمن القوميّ تنهض كلّها على هذا المنطق.
كان التاجر اليهوديّ يحكي وأنا أشطح في تفكيري وأبتعد. بقدر ما كان يوغل في الشرح كنت أشطح وأبتعد. أعترف أنّ هذا التاجر قد جعلني أعمل من الحبّة قبّة ومن الزبيبة خمّارة. جرّني إلى السياسة ذاك التاجر المغربيّ. إلى التفكير البيئيّ الأخضر. إلى التفكير النسويّ. ثمّ جرّني جرًّا إلى الفلسفة. وأخيرًا جاء من سفّه ماركس وفنّد زعمه وأثبت، بالتجربة التطبيقيّة في تجارة الزيت، أنّ الوعي الذي تصنعه اللغة هو ما يحدّد الوجود والواقع!