انا .. وامي .. والوطن
يوسف جمّال – عرعرة
تاريخ النشر: 05/01/24 | 9:01يا أمي .!
قلت كان هناك وطن ..
كّنا نجبل ترابه .. ونعمل منها بيوتاته ..
كان هناك وطن .. نحرثه ونعد ترباته
وكان هناك وطن .. ونملّي مياته .!
في حضنك تلفَّعت ,وسمعت حكايته ..
وعلى إيدك رسم الوطن ذكرياته ..
مش حرام ياما تناموا بجانب ” الحله .. ” رجال ونسوان أغراب .!؟ سألتك مرات
فتردّين دائما :
أغراب .!؟ كل الفلاحين كنا أخوه .. كنا ننام بحد بعض مثل تلامه .. تلم بحد تلم .
سمعت مره تلم اعتدى على تلم .!؟
مش حرام ياما , إنتن النسوان كنتن تغنين , والأغراب سامعين .!؟
نغنّي .!؟
كنا نغنّي للحصادين .. للغمارات .. لبير منيجل .. لخلة معاويه .. لخلة هويسه ..
يا ولد الحصادين .. بير منيجل .. خلة هويسه .. أغراب .!؟
فأسكت لأسمع المزيد .. والمزيد ..
حدثتيني – يا أمي – عن أبي مسعود , الذي رفع غِمْر القش دون أن ينتبه , أن أبي
حامد كان نائما فيه , ورفعه وحمَّله على الجمل .. ومشى الجمل وأبو حامد نائم بين
القش مسافه طويله .. ولما صحي من نومه , ظنَّ ان يوم القيامه قد حلَّ , فأخذ يصيح
: يا ربي .. ان كنت ماخذني على النار , فخذ معي أبا مسعود !
ظل يصيح حتى سمعه ابو مسعود , فأوقف الجمل وأناخه , وخرج أبو حامد من بين
القش , فوجد أبا مسعود أمامه فصاح : “والله عملتها يا أبو مسعود .!؟” .
يا أمي ..
وقلتِ أنه كان هناك وطن .. وكانت هناك نبعه تحكي قصته بهمس .. كأن قصتها لا
تنتهي ..
النَّبعة كانت تحكي قصة سلامه الطايع , الذي ورد النَّبعة مع حصانه , وقرَّر ان
“يأخذ نومه ” تحت شجرة التين .. فنام فطالت نومته , وظلَّ سلطان النوم قابضاً على
خناقه , حتى اليوم التالي .. ولما وجدوه بعد بحث طويل , نادوه ليستيقظ من نومه
العميق , فرَّد من غفوته :
تعبان يا مره .! تعبان .!
وكان الحياء الجميل , يغزو وجهك ” المخربش ” من عبث الزمان .. ويتحول
الى قمر ملائكي .. عندما تحكين هذه الحكايه .
يا بنيَّ الوطن غالي .. غالي الوطن ..
هكذا كنت تقولين ..
” وأزعلتك ” مره , عندما رجعت من المدرسه لاهثاً , وصرخت في وجهك
منتصرا .. كأني وجدت كنزاً ثميناً :
“الشيخ خلف ” بقومش في الليل .!
فقلت والذهول يعصف بوجهك:
مين ” قلَّك ” !؟
الاستاذ .! أكملت انتصاري ..
فسكت ولم تجيبي او تعلقي , فأدركت هول ما سببت لك من صدمه .!
كنت ” تأخذيني ” معك الى المقبره , نسلِّم على القبور , ونقرأ لهم الفاتحه ,
ومن ثم نصعد الى أعلى المقبره , الى ضريح ومقام الشيخ خلف , وتضعين
هناك الفطير والكعك والحلويات .. وتقولين قبل ان تسمعي تساؤلاتي
المستغربه :
“في الليل ” يقوم ” الشيخ خلف , هو وأولاده ” وبيوكلو ” .!
وعندما كبرت , عرفت أنك كنت تعرفين , ان الشيخ خلف ” لا يقوم ” في
الليل .. وكنت تعرفين , ان هذا الطعام كان ” يذهب” لفقراء القريه .! الذين
يأتون لأخذه بعد نزولك من المقبره .
الوطن غالي ..الوطن غالي .. يا بني .
الوطن صبرتنا- يا بني .. صبرتنا التي كانت مشاع لأهل البلد ..
وحدثتني عن أم السعيد , التي لقطَّت صندوق صبر من صبرتنا , وحملته على
رأسها , ورجعت مستعجله .. لتفطِّر أبا السعيد صبر , قبل أن ” يسرح ”
على دراسة الغله , فالتقت في الطريق بسلامي الجُّر , ” فألهاها” بالحديث ,
فوضعت الصندوق بجانب الصخره , وجلست عليها , “فقرمز ” سلامي
بجانب الصندوق , وأخرج موسه , وبدأ يقشِّر أكواز الصبر ” ويبلعها” وهو
يبلع, وأم السعيد ” تخرِّف ” هو يبلع وأم السعيد تخرِّف , وما ان ” استفاقت ”
, حتى أتى سلامي على صندوق الصبر كلَّه .! فصاحت من” قحف”رأسها :
– وين الصبرات .. وين الصبرات يا سلامي .!؟
– والله الزلمي ” ليطلقني “.!
يا أمي .. الوطن غالي .. غالي الوطن .. هكذا كنت دائما تقولين ..
وحكيت لي قصة أبي شداد ,الذي لم يعرف في حينا إلا بعمّي ” الجُّر ” .!
وتقول الحكايات :
أن عمي الجُّر ما لبس ” بأجره ” منذ ان ولد , على يد الدايه خضره البدوي ,
حتى دفنوه حافياً في مقبرة القريه .!
وتقول الروايات :
أن أفعى طولها ذراع , لسعته وهو في طريقه عائد من الروحه الى البلد , ولم
يحس بسمومها , فعلقت في رجله الخميله والقاسيه , مثل الصخر , وجرَّها من
الروحه ,حتى وصوله الى البلد دون ان ينتبه .. فلما نبهه جعفر الفارس الى
الحادث الجلل , الذي أصاب رجله , حنى قامته الطويله , ” وخلعها ” من
رجله , واستمر ماشيا في طريقه .. وهو يقول موجها حديثه الى جعفر الفارس
: ” مجرَّد حيِّه لليش هلقد مكبِّرها .!؟” .
يا أمي
أرضعتني حليباً مطعَّماً بالسريس والزعتر ..” وربيتني ” على حكاياته ..
حكايات الوطن ..وقلت ان الوطن سنابل .. سنبله تقبِّل جارتها السنبله ,عندما
تهبُّ الريح من ” العبهريه ” والخطامي .. وصبارين واللَّجون .
وحدَّثتني – يا أمي – عن الخاتم الذهبي الوحيد , الذي كان يزيِّن إصبعك ..
حيث تقول الروايه :
حمل أبي جمليه بالعكوب من الروحه , وتوجه الى طول- كرم ليبيعها في
سوقها .. وعندما قبض ثمنها لمعت في ذهنه فكره :
لماذا لا يشتري لزوجته , خاتما ذهبيا يفرِّح به قلبها .!؟
دخل دكان الصائغ , عندما قاس الخاتم على إصبعه الخنصر , وبعد أن دفع
ثمنه , وجد أن الخاتم ” أكل ” كلَّ ثمن العكّوبات , حتى أنه لم
يبق معه شيئا من المال ليسَّد به العصافير التي بدأت تأكل معدته .. ورجع الى
البيت وجيوبه وأكياس جماله فارغه , من كل ما أوصته به زوجته , من
حاجات الأولاد والبيت .
فصار يضرب في هذا الخاتم المثل : ” صار فينا مثل خاتم عكّوبه .!” .
وعكّوبه .. هي منطقه في الروحه , اشتهرت بكثرة العكوب .. ويضرب
المثل لمن يضيع ماله , في أمر ليس من الضروريات .
أمي ..
فتَّحتُ عيني على حكايات الوطن في حضنك,
قرأتُ أبجديته في عينيك ,
حملت همومه على كاهلي بعد رحيلك ,
رحلتِ وتركتني أذوق عذابه من بعدك
إني أراك في جباله , في وديانه , في سهوله , أمي إنّي رأيته يتقطَّع في
قطرات دموعك,
أمي كانت حياتنا تسير على ثلاث :
أنا وأنت والوطن . تركتنا مشوهين نتوه في غياهب اليتم ,ورحلتِ .
وتركتني “أتقلّى ” معه .