والتاريخ أيضا غير موضوعي!

يوم الاثنين، 9 /6 /2010، كان يوما ملآن. رغم أني اعتزلت العمل، يعني تقاعدت في لغة كثيرين، منذ سنين. بالإضافة إلى ما كان علينا في ذلك اليوم من فرض سابق، تلقّيت دعوة لحضور ندوة فكريّة في اليوم ذاته، لتكريم البروفسور قيس فرّو، بمناسبة صدور كتابه “المعرفة التاريخيّة في الغرب: مقاربات فلسفيّة وعلميّة وأدبيّة”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، حزيران، 2013. أكذب عليكم إذا قلت إني قرأت المكتوب من عنوانه. أو فهمت الموضوعة، مادّة الكتاب المذكور، من الاسم الطويل السابق فحسب. على كلّ حال، قلت في نفسي، قيس صاحبنا، والأمسية لتكريمه، وليس هناك من هو أحقّ منّا بتكريمه. ثمّ إنّ اللقاء، لا بدّ، سيجمع كثيرين، كثيرين جدّا من الأصدقاء في عسفيا بلد قيس، ودالية الكرمل جارتها. هناك إذن أكثر من سبب، وكلّ سبب منها كاف مفردا لحضورنا الأمسية. الوصول إلى جامعة حيفا لم يكن مشكلة أيضا. تكفّلت ابنتنا، في حماس واضح، أن توصلني إلى الجامعة، ومنها بعد حضورنا الأمسية إلى البيت. اكتملت إذن العوامل كلّها للمشاركة في اللقاء. ساعدنا الحظّ في المشاركة إذن، وإن كنّا وصلنا متأخرَين قليلا، لأنهم غيّروا القاعة لتتّسع لجميع من أتوا. المهمّ أنّنا وصلنا.
رغم التأخّر البسيط المذكور، استمعنا إلى كلّ ما قيل هناك: كلمة تمهيديّة من البروفسور رئوبين سنير؛ عميد كليّة الآداب في جامعة حيفا، كلمة بروفسور محمود يزبك؛ عريف اللقاء ورئيس قسم تاريخ الشرق الأوسط في الجامعة، كلمة الدكتور مسعود حمدان؛ رئيس قسم المسرح في جامعة حيفا أيضا، كلمة الأستاذ مرزوق حلبي، وأخيرا كلمة “صاحب الشأن”؛ صاحب الكتاب والتكريم بروفسور قيس فرّو، صديقنا قيس يعني.
من كلمات المتكلّمين، وكلمة المحتفى به بالذات، تعلّمنا أنّ التاريخ أيضا لا يمكن أن يكون موضوعيّا خالصا. إذا كان التاريخ أحد فروع المعارف الإنسانيّة، مثله مثل الأدب، فلا يمكن أن يكون موضوعيّا تماما، خاليا من الهوى، بأسلوب القدماء. التاريخ ليس رياضيّات ولا فيزياء، ولا هو من العلوم بمعناها العصري الضيّق. ليس التاريخ وقائع مجرّدة ثابتة يتوصّل إليها الإنسان في المختبر، أو بالتجربة والخطأ. في اللغة العربيّة أيضا عندنا علم النحو وعلم التفسير وعلم العروض حتّى. لكن هذه كلّها ليست علوما بالمعنى الحرفيّ الضيّق المقصود هنا. التاريخ من وضْع المؤرّخ، أي من وضع الإنسان، وما يضعه الإنسان يظلّ إنسانيّا، بعيدا عن الوقائع المثبتة. قد يأتي، بعد كاتب التاريخ الأوّل، مؤرّخ آخر، فيعتمد وقائع مغايرة، ويستخلص نتائج مغايرة أيضا!
التاريخ إذن، كما فهمنا، مثل الأدب، من الحقول أو المعارف الإنسانيّة. بعيد عن الموضوعيّة الخالصة، بعيد عن العلوم الدقيقة. إذا شئنا تعرّف نهر النيل على حقيقته، مثلا، فلا يمكننا اعتماد ما كُتب فيه من قصائد. نستمع إلى “النهر الخالد”، في كلمات الشاعر محمود حسن إسماعيل، وبموسيقى وصوت محمد عبد الوهّاب، فنظنّ نهر النيل جنّة الله على الأرض. أما إذا زرناه بأنفسنا فلا تكاد تحتمل عيوننا ما ترى على شطّيه من أقذار، ولا أنوفنا ما يزكمها من روائح. من هنا نفهم أن الأدب لا يصوّر الواقع، كما علّمونا غير مرّة. التاريخ أيضا مثل الأدب، لا يقدّم لنا واقعا موضوعيّا. كلاهما يقدّمان لنا العالم، ماضيه وحاضره بعيون إنسانيّة، غير محايدة. حتّى الكاميرا غير موضوعيّة، غير علميّة: تصوّر لك المشهد من زاوية معيّنه فحسب. إلا أن هذا المشهد “يتغيّر” بتغيّر الزاوية. إذا كانت الكاميرا غير موضوعيّة، غير علميّة، فكيف بالأدب، أو التاريخ، كما أفادنا الصديق قيس؟
هذا ما استفدناه، دفعة أولى، من الندوة المذكورة. لكنّنا بعد قراءة كتاب بروفسور قيس فرّو، سنزداد معرفة على معرفة، وعلما على علم، وهو المطلوب.

سليمان جبران