اسمعوا الحكيم
تاريخ النشر: 09/07/14 | 8:43كنا في سهرة أصدقاء ضيّقة. أصدقاء من أيّام المدرسة البعيدة: “المتشائم” المزمن، “الحكيم” البعيد النظر، و”الواقعي” كاتب هذه السطور؛ سكرتير الجلسة وضابط النظام، حين تحمى الأمور، فلا يُراعى النظام في الكلام! نلتقي مرّة كلّ عشرين ثلاثين يوما، لكن نبدو لمن يراقبنا، أو يتابع نقاشاتنا، كأنّما كنّا معا أمس في سهرة سابقة. دائما نفس النقاش، ونفس المواقف إلى حدّ بعيد.
النّساء في السهرة يتناولْنَ في أحاديثهنّ كلّ نواحي الحياة. حتّى السياسة أحيانا. لا أعرف لماذا لم يُصَبْنَ مثلنا بداء السياسة، ولا بداء كرة القدم: هل “الأمراض” هذه، تُرى، هي أمراض “رجّالية” فحسب؟ هل النساء ألصق منّا، نحن معشر الرجال، بالواقع؟ لماذا نحرق دمنا، نحن الرجال، في السياسة وكرة القدم، ويتناولن هنّ الأمور بواقعيّة، وبرود حتّى؟ على كلّ حال، هكذا نحن دائما. متى نبرأ من السياسة وكرة القدم، الله أعلم. وقد لا نبرأ حتى يومنا الأخير أيضا. فقد بلغنا من العمر عتيّا، وما زلنا على ما فُطرنا عليه ماضين!
في اللقاء الأخير كانت عيني صغيرة. أنا الذي هلّل وكبّر للثورات العربيّة الأخيرة، بما فيها الثورة السوريّة طبعا. الحكيم كان دائما يهدّئني ويطالبني، في كلّ لقاء، بطولة الروح. الأمور بخواتيمها، كان يردّد على مسامعي دائما؛ ننتظر ونرى. لذلك، آثرت الصمت والإصغاء بالذات في اللقاء الأخير. لا أريد التذكير بمواقفي العاطفيّة الفطيرة، غير المختمرة يعني، من الثورات العربيّة في البلاد العربيّة، وفي سورية بالذّات. كانت فرحتي لا توصف حين افتتح الحكيم نفسه الحديث في هذه السهرة، وعن الوضع حولنا في إسرائيل بالذات، بعيدا عن العرب وثورات العرب أيضا.
لماذا تسمّي إسرائيل من خطفوا الفتيان الثلاثة “مخرّبين”، بدأ الحكيم النقاش بالتساؤل. لأنّهم فلسطينيّون؟ كلّ فلسطيني يقاوم الاحتلال مخرّب دوز دوغري؟ فرحت طبعا بافتتاحه النقاش في هذا الأمر بالذات. لا في الثورات العربية المجهضة. انبريت إلى الجواب بثوب السياسي المنظّر: كل من يُشهر سلاحه ضدّ المدنيّين، أو يخطف أحد المدنيّين هو إرهابي طبعا، عربيّا كان أو يهوديّا. ظننت بحكمي الصارم هذا أنّي اهتديت إلى تعريف الإرهاب. نجحت، قلت في نفسي، في تعريف الإرهاب. نجحت حيث فشل كثيرون، هكذا حسبت. لكنّ الحكيم لا يرتجل. لا يرمي الكلام دونما تفكير. كأنّما انتظر ملاحظتي تلك. كأنّما طرح هذه المسألة ليقول ما عنده. أخذ يشرح دونما فاصلة أو نقطة، ونحن جميعنا، الرجال والنساء، نُصغي صامتين.
هل في العالم كلّه حركة تحرير، ردّ عليّ الحكيم، “نظيفة” من الإرهاب تماما كما تحدّد في تعريفك النظري هذا؟ دعك من منديلا؛ هو الاستثناء الذي يؤكّد القاعدة! ماذا سمّى الفرنسيّون ثوّار الجزائر حين هبّوا يطالبون بالاستقلال؟ ألم يعترف بهم ديجول، الواقعيّ الشجاع، ويفاوضهم في آخر الأمر لتنال الجزائر استقلالها: دولة مثل كلّ الدول، عضو في الأمم المتّحدة، ولها سفيرها في باريس حتّى؟ والثوّار الكاثوليك في إيرلندا الشماليّة، ألم يكونوا “إرهابيّين” قبل جلوسهم إلى مائدة المفاوضات مع بريطانيا العظمى ليوقّعوا معها اتّفاقيّة لوقف النار؟
ولماذا نبعد ونقطع البحار، أردف الحكيم بصوت خفيض واثق ممّا يقول. منظّمة التحرير الفلسطينيّة، ألم تكن “إرهابيّة” قبل جلوس الإسرائيليّين معها، ليفاوضوها ويضحكوا عليها بما أسموه يومها “الحكم الذاتي”؟ بيجن نفسه ألم يسمِّه الإنجليز “إرهابيا” قبل 48؟ وماذا نسمّي دخول إسرائيل لبنان، تحت ستار الظلام، واختطاف الشيخ عبيد، من غرفة نومه، وإحضاره ليقضي في سجونها سنوات؟
التسميات من صنع الناس، تابع الحكيم في تلخيص موقفه، و”إرهابي” اليوم قد نتعرّفه رئيس دولة في قابل الأيّام، يُستقبل في كلّ المحافل، ويخطب على كلّ المنابر، بما فيها الأمم المتّحدة في واشنطن أيضا. بذلك ختم الحكيم أقواله، ونحن نهزّ رؤوسنا معجبين، صامتين: أنا “الواقعي”، وصديقنا “المتشائم” المزمن، والنساء اللواتي شاركن في النقاش السياسي، بهزّ رؤوسهنّ دونما كلام!
سليمان جبران