الطبل يقرع ثلاثين مرّة
تاريخ النشر: 07/08/14 | 12:00حكاية لجدّي لست أنساها:
كنّا حوله ذلك المساء من أيام الصيف، فوق المصطبة الحجرية، نحيط به، وهو في صدر المكان، والهدوء يشمل الدار، كنّا نصغي إليه، نحلّق بعيداً مع حكايته التي لاتُنسى..
ذلك التاجر الشاب منصور في دكاّنه، يطالعك في أول السوق ، بوجهه الوسيم، وابتسامته الهادئة، وعينيه الصافيتين، يعرض بضاعته أمامك..
– هذا قماش من الهند، وذاك من الشام، وهذا حرير طبيعي من الصّين..
التاجر الذكيّ رأسماله الصّدق والأمانة، والبضاعة الجيّدة، واسم” منصور” في السوق على كلّ لسان، حتى صار التّجار الكبار يحسدونه، فتجارته رائجة، وبضاعته من الأقمشة والحرير مشهورة والناس يتزاحمون على دكاّنه ، لأنه يرضى بالقليل من الربح.. كان منصور يردّد دائماً:
– كن متسامحاً في بيعك تكسب كثيراً من الأصحاب والزّبن..
وذات يوم، جاءه رجل غريب، وقف يقلّب نظره في الأقمشة، ويتلمّس الحرير، ثم بدأ ينتقي أجودها، قال الرجل الغريب:
– أنا تاجر مثلك، وقد أعجبتني بضاعتك، أريد شراء هذه الرّزم، ولكنْ، ليس معي ما يكفي ثمناً لها، إذا أتيتني إلى مدينتي أكرمك، وأدفع لك الثمن..
أجاب منصور باسماً:
– لابأس عليك، خذ ما تشاء، ليس من عادتي أن أرفض طلباً..
أخذ الغريب ما أراد، تخيّر أحسن الأقمشة، وانتقى أفضل الأثواب، وجمع منصور ذلك كلّه في رزم كبيرة، حملها معه حتى آخر السوق، ثم ودّعه قائلاً:
– رافقتك السلامة.
………………
مرّت أيام وشهور طويلة، أحبّ منصور أن يروّح نفسه من عناء العمل، فجهّز حاله للسفر وزيارة ذلك التاجر الغريب في مدينته البعيدة..
كان الطريق شاقاً، والسفر صعباً.. وقد وصل منصور المدينة قُبيل مغيب الشمس، فأسرع إلى السوق يسأل عن الرجل.. توقّف أمام متجر كبير، كان هناك عمال كثيرون وزُبن ومشترون، وفي صدر المتجر رأى الرجل الغريب نفسه، دخل منصور عليه، فأنكره الرجل، وحلف أنّه لم يره من قبل، ولم يشتر منه شيئاً، ولم يسافر إلى مكان طوال حياته. وحين أشار إلى عمّاله، أحاطوا بمنصور ثم طردوه خارج المتجر!.
حزن منصور كثيراً، وشعر بأنه كان مغفّلاً حين صدّق رجلاً غريباً، وأعطاه بضاعة كثيرة دون أن يقبض قرشاً واحداً، ولكنْ.. ماذا يفعل؟؟..
لجأ إلى نُزلٍ يقضي فيه ليلته، ولم يكد يستسلم إلى النوم ، حتى هبّ على دقّات طبل يدوّي في أرجاء المدينة:
-” بم.. بم.. بم.. بم..”..”بوم”.
استغرب منصور وسأل صاحب النُّزل عند ذلك، فقال له:
– تلك عادتنا، في هذه المدينة، عندما يموت شخص يدقّ الطبل أربع دقّات، وإذا مات رجل أرفع مكانة دقّ عشر دقّات، ولكن عندما يموت الأمير فإنّهم يقرعونه عشرين مرة!..
التمعت فكرة في رأس منصور ، فترك منذ الصّباح الباكر غرفته، وقصد قارع الطبل، كان لايزال نائماً، أيقظه وأعطاه ليرة ذهبية طالباً إليه أن يقرع الطبل ثلاثين مرة!
ودوّى الصوت قوياً..” بم.. بم.. بم.. بم.. بوم بم.. بم..” ثلاثين مرّة، هزّت المدينة النائمة، وأيقظت الراقدين، سادت البلبلة، وعمّت الفوضى، وتراكض الناس في الطرقات صائحين:
– يالطيف ! ما الذي جرى؟ أية مصيبة وقعت!..
……………
وفي قصر الأمير، استدعي قارع الطبل، وسأله الأمير بنفسه:
– لماذا فعلت ذلك؟
فقال:
– هناك تاجر اسمه منصور طلب منّي هذا بعد أن أعطاني ليرة ذهبية!
غضب الأمير واستفسر:
– من يكون هذا التاجر؟ أحضروه في الحال!..
………..
ومثل منصور أمام أمير المدينة..
كان هادئاً ، ووجهه يفيض بالصّدق، قصّ عليه ما كان من غدر الرجل واحتياله، وقال:
– إذا كانت وفاة الأمير- لاسمح اللّهُ- تعلّن في عشرين قرعة، فلماذا لايعلن موت الأمانة والصّدق بثلاثين!؟..
أعجب الأمير بذكاء التاجر منصور ، فقرّبه منه، وأكرمه غاية الإكرام، وطيّب خاطره، بعد أن قال له:
– لن يموت الصّدق.. ولن تموت الأمانة بين الناس!..
ثم عوقب الرجل المحتال عقاباً أليماً، بعد ما دفع أثمان البضاعة..
أمّا منصور فقد رجع- بعد أيام- إلى مدينته ظافراً غانماً، وهو يحمل الهدايا الثمينة، والهبات الكثيرة، وقد اكتسب صداقة ألأمير، وصار اسمه يتردّد في كلّ مكان..
……….
هل عرفتم، ياأصدقائي، لماذا كنّا نحلّق مع حكاية جدّي، بعيداً، ونحن نصغي إليه؟
حكايته جميلة ، ومن الصعب أن ننساها……….
اعجبتني القص
انها جميلة
لم ارى مثلها في حياتي