العالم العربي بين جهاد الدين وجهاد الدنيا
تاريخ النشر: 26/09/14 | 14:27في السنوات الأخيرة، فاجأ العرب العالم بعودة التاريخ بزخم كبير، خلافاً لمقولة فوكوياما الشهيرة عن «نهاية التاريخ» بعد الحرب الباردة. حدثان محوريان من نتاج عربي صرف: «الربيع العربي» ودولة «داعش» الإسلامية. فمن البوعزيزي التونسي، الذي شكل احتراق جسده شرارة انطلاق الانتفاضات الشعبية في تونس والعالم العربي، الى ابو بكر البغدادي الذي أقام الخلافة السلفية بارتكاب القتل الجماعي، ثمة واقع سياسي واجتماعي وديني ينفرد به العالم العربي اليوم.
انطلق «الربيع العربي» بزخم قوي وأدى الى تغيير أنظمة الحكم في عدد من الدول العربية وأخفق في أخرى. واذا صحّت رواية قيام «الدولة الإسلامية» على أساس التحالف بين «داعش» والعشائر وقادة البعث المتحولين الى الصوفية، فإن «داعش» يشكل النقيض القاتل لـ«الربيع العربي». فإذا كان «الربيع العربي» قد أدخل العالم العربي في الزمن المعاصر كحركة اعتراض شعبي واسعة ومتنوعة ضد أنظمة حكم سلطوية فاسدة، فإن «داعش» أدخله في زمن ما قبل الجاهلية، الى الانسان الاول في مشهدية بدائية تعجز مخيلة ألمع مخرجي هوليوود عن ابتكارها.
في التسلسل الزمني القريب، «داعش» نتاج حالتين:
النظام العراقي وطموحاته التوسعية والحرب التي أطاحته. فقد خاض نظام صدام حسين حرباً مكلفة مع ايران في عز زخم الثورة الإسلامية، وحربا اخرى، بعدما توهّم ان الجيش العراقي هو رابع أقوى جيوش العالم، فاحتلّ الكويت وضمها الى العراق محافظة إدارية، ولم يتراجع إلا بعدما شنّ عليه التحالف الدولي والعربي حربا لإعادة الكويت الى أهلها. أما حرب 2003، فكانت غير مسبوقة لجهة الذريعة الملفّقة لإدارة جورج دبليو بوش على أساس ان العراق يختزن أسلحة دمار شامل، ولجهة التخبط الكبير في السياسة الاميركية في مرحلة ما بعد إزاحة صدام. اجتاح الجيش الاميركي العراق وقضى على النظام بأيام قليلة، إلا انه ارتكب سلسلة أخطاء مميتة، بدءا بحلّ الجيش العراقي وسياسة «اجتثاث البعث»، وترك الحدود مفتوحة مع جيران العراق. كما أعلنت واشنطن «جهادها» من أجل شرق أوسط جديد، ديموقراطي بالكامل، ولم يبق لها مناصر في المنطقة. ايران، العدو المعلن، كانت المستفيد الاول من السياسة الاميركية المبعثرة. السعودية وسوريا اعتبرا ان حرب العراق وأهدافها تهدد مصالح الدولتين، وإن لأسباب مختلفة، وتركيا تعاملت مع الحدث بحذر شديد، لا سيما بالنسبة الى الاقليم الكردي. انسحب الجيش الاميركي بعدما تفاهمت واشنطن مع رموز الشرق الاوسط «القديم»، العشائر والمذاهب والطوائف والصحوات. وبات العراق دولة فدرالية مفككة رأى فيها الأكراد حالة متقدمة لإعلان الانفصال أو الاستقلال اذا أمكن، ورأى فيها السنة هزيمة تاريخية، وأتاحت للشيعة فرصة لاستعادة النمط السلطوي في إدارة البلاد، لا سيما في فترة حكم نوري المالكي. والنتيجة، تعطّل النظام وتفكّك الدولة وحالة انهيار وتشرذم أدت في النهاية الى سيطرة «داعش» على أراضي الدولة التي قامت منذ مطلع عشرينيات القرن الماضي.
أما سوريا، فكانت آخر حبات عنقود «الربيع العربي»، حيث جاء الحصاد مغايرا لحبات العنقود الاولى في ليبيا. في سوريا صمد النظام وتماسك الجيش ولم يتدخل «الحلف الاطلسي» عسكريا، لا بل استعادت الحرب الباردة بعض مظاهرها، فتصدّت روسيا والصين لقرارات مجلس الامن ضد النظام السوري ودعمت ايران حليفها الاستراتيجي بكل ما أوتيت من قوة. وبمواجهة النظام، تشكلت معارضة منقسمة، سياسيا وعسكريا وايديولوجيا، لا يجمعها سوى معاداة النظام. وجاءت الرهانات المتهورة لبعض قوى الخارج لتزيد مأزق المعارضة، لا سيما تركيا التي فتحت ابوابها للجهاديين، الآتين من كل بقاع الارض، لدخول الاراضي السورية. وسرعان ما تحولت الحرب في سوريا الى ارض الجهاد الاكبر بعد العراق وأفغانستان، وآخر فصولها دخول «داعش» مناطق سورية واصطدامها مع من سبقها من جهاديّي المعارضة، ومنهم «جبهة النصرة» المرتبطة بتنظيم «القاعدة». هكذا بات «الربيع العربي» في طبعته السورية ساحة لتصفية حسابات الماضي والحاضر بحدّ السيف بين الجهاديين أنفسهم وليس فقط مع النظام.
استفاق العالم متأخرا على الغزوة الداعشية، وجاء ذبح الصحافيين الاميركيين بمثابة «بيرل هاربور» إسلامية بالنسبة لواشنطن. وبرغم ان مقومات استمرار دولة «داعش» غير متاحة، إلا ان ضررها، المادي والبشري والمعنوي، كارثي. وقد يبدو ان دولة «داعش» هي الرد الميداني على «الربيع العربي»، ان بالنسبة الى داعمي الحالة الداعشية (التكفير السلفي) منذ زمن «القاعدة»، أو لمن يتصدى لها الآن بعدما تهدّدت المصالح المباشرة «للدول المانحة» في مراحل سابقة. هكذا انتقل الصراع من الجهاد العالمي المسلح ضد أميركا واسرائيل على يد الجيل الاول من الجهاديين بقيادة بن لادن والظواهري وسواهما، الى الجهاد ضد العرب وعموم الكفار الجاهلين (نسبة الى الجاهلية). ومن «جهاد الدنيا» في زمن «الربيع العربي» الى جهاد الدين، انتقل الاستهداف من الدولة الكافرة الى مواطنيها الكفار، وبحسب وحي يحتكره خليفة الدولة الداعشية، وفي عالم عربي ينتقل من نكبة الى نكسة الى انتكاسة قاتلة لقيم حضارة إنسان القرن الحادي والعشرين.
بقلم فريد الخازن – السفير