النوم في حضنها!
تاريخ النشر: 10/11/14 | 22:43في زمان كان ومضى، قالت لنا كتب التاريخ، تلك التي راحت تصف لنا تحولات مجتمعاتنا وثوراتها وانتفاضاتها على المحتل الخارجي ثم المحتل الداخلي والتسلط والقمع، إنه كان يوماً هناك شريحة أو طبقة من مجتمعنا، تقف على رأس الهرم الاقتصادي ولكن لا يزال قلبها مدفونا بتلك الأرض، تلك التي تسمى وطنا، ربما يكون صغيراً بعض الشيء أو ممتدا يتجاوز الحدود المصطنعة.
كانت برجوازياتنا، وكان تجارنا وإقطاعيونا وكومبرادوريونا، سمّهم ما شئت، يقفون ليس بعيدا عن الآخرين من فئات شعبهم. ربما كانوا على بُعد خطوة من فئات الشعب الأخرى، ولكنهم يبعدون أكثر منها عن السلطة والمتربصين بها. عند أي تحرك كانوا هم الأكثر مبادرة لبناء الوطن والدولة الحديثة. يسخون بأموالهم وأبنائهم من أجل تطوير التعليم والصحة والثقافة والحريات العامة. قالت كتب التاريخ كثيراً انهم وقفوا في وجه الجهل والتخلف والظلم أيضا، نعم وقاطعوا الظالمين بل حاربوهم. كانت نساؤهم تستغني عن مجوهراتها وما غلا ثمنه من أجل تلك الأرض نفسها التي هي الوطن.
أليس كان فعلاً ماضياً كما قالوا لنا في كتب النحو والصرف والحذف؟ بقيت تلك الفئة في كتب التاريخ. صرنا نبحث عنها طويلا من دون جدوى. جاء الطوفان الرأسمالي فابتلعها وأصبحت أكثر ولاء له من الارض والوطن. أما أبناؤها، فهم يتقنون كل لغات الكون إلا هي. يتواصلون عبر أجهزتهم الحديثة مع العالم البعيد ولا يعرفون ما يجري في الحي الشعبي القريب منهم ومن قصورهم الفخمة التي تحرسها كلاب أكثر رفاهية من جيرانهم. فهم يعرفون الفرق العالمية ويتابعون سباقات السيارات الفاخرة والخيول، ويقفون كتفاً بكتف مع علية القوم هناك، يضربون كؤوس الشمبانيا الفاخرة ويتحركون بطائرات خاصة ومراكب وعربات تحمل أرقامها أسماءهم، أو صممها أكبر مصممي العالم. أما محتويات سياراتهم الداخلية، فإما ان يقوم بها مصمم الأزياء العالمي إيلي صعب، وإلا فلا!
ينظرون لتلك الوجوه المتعبة مع نهاية يوم عمل شاق بشيء من الازدراء وفي صلواتهم. نعم، فهم أيضاً يتقربون من الله حيناً ويعتقدون انه سيحابيهم في قطعة أرض في الجنة.. فكلما ارتكبوا خطيئة، «مسحوها» ببناء مزيد من الجوامع، بعضها للفقراء والمعتازين، أو ربما رموا بمخلفاتهم من ملابس ومأكولات لأولئك الفقراء والمعتازين أنفسهم. يتعرفون على تلك الفئات «الأخرى» من المجتمع فقط للدعاء لهم بطول العمر، وهم يتطلعون لهم وكأنهم قادمون من كوكب آخر. لا يعرفون ماذا يعني أن يأتي الشتاء القارس في بعض نهاراته وتحبل السماء بغيوم داكنة، ثم ترسل بأمطارها بل بسيولها فتغرق عشش أولئك وخيم الآخرين النازحين أو اللاجئين. ويبقون هم يحتسون الشكولاتة الساخنة المستوردة من بلجيكا ويستمتعون بزخات المطر من خلال زجاج نوافذ سياراتهم أو منازلهم المخملية.
ترى كيف سيكتب المؤرخون عنهم؟ كيف سيصفون شريحة من المجتمع، مهما كانت صغيرة، لا تعرف عن مجتمعها سوى أنه مجتمع متخلف يستحق ما يجرى له، سواء من المحتل أو من قبل الأطقم الحاكمة؟ فهذه ينامون في حضنها مسترخين، فهي التي تسمح لهم بأن يسرقوا الأوطان بدلا من أن يبنوها! ففي سيرة النهب، نحن نتوحد. وأي آخر قادم من تلك البلدان البعيدة، ذاك المتربص بخيرات هذه الأوطان، فأهلا وسهلا ومرحبا به هو الأقرب لها.. لهذه الشريحة من أي فرد آخر ممن تزدريهم.
هذه ليست تلك التي تحدثوا عنها في تلك الكتب القديمة، هي الآن تبعد كلما اقترب منها أحد من «الرعاع». تبنى المدن الحديثة وتسوّرها وتحكم عليها الحراسات والكاميرات. تسور الشواطئ لها ولها وحدها، تتقاسمها هي ومن هم في السلطة وبعض الزوار الذين يشبهونها!
البعض يقول إن التاريخ يكتبه المنتصر. ربما أحيانا هو كذلك، ولكن المنتصر في الماضي كان الوطن أيضا عندما وقفت هذه الشريحة التي كانت تتزعم حركات التحرر والنضال وقدمت أبناءها وبناتها ليقودوا المسيرة بعلمهم وعملهم ومعرفتهم. لم تكن تفهم عمل الخير كحسنة منها أو ربما «مكرمة» كما هي الآن، ولا كوسيلة للفردوس، بل كانت تؤمن بأن في توفير فرصة العمل حرية وصيانة لكرامة أصبحت نادرة. هي تسلقت إلى فراش السلطة حتى أصبحت جزءاً من اللعبة التي تجثم على صدر الوطن، وهي التي أصبح أبناؤها جزءاً من حاشية «السلطان» ربما تحت مسميات عدة.. وهي أعلنت موت البرجوازية الوطنية حتى إشعار آخر!
خولة مطر – السفير