لسنا أنفسنا ولسنا غيرنا
تاريخ النشر: 20/12/14 | 21:28تتدافع الأسئلة في البال، ويتسبب «لامنطق» تدافعها في وهن القدرة على ترتيب أولوياتها. فكيفما جالت عيوننا على امتداد «وطن عربي»، أيقنا أن كتلته البشرية إما مأزومة أو مهزومة.. أنت كمفكر ومن رواد علماء الاجتماع العرب المرموقين في تحليلاتهم. كيف تجري ترتيب أولويات ما نحن فيه، وما سنكون عليه؟ فهل لديك جرأة القول بعد فقدان معنى ما نشهد ونشاهد؟
الأزمة والهزيمة لفظتان خادعتان يمكن إخلاء القاموس العربي منهما. متى كان الوضع سويّاً ليتأزم؟ ومتى امتدت انتصاراتنا لتكون الهزيمة استثناءً؟ للخيال الأصولي أن يذهب إلى أزمنته الغابرة، بحثاً عن السويّ فيها، وللنهضوي أن ينظر إلى نهضته من جهة ما قبلها، ولكن هذا لا يغيّر من مشهد اليوم، وهو مشهد تاريخ عربي يتشظّى في نطح جدارٍ مسدود. الانسداد كلمة أنسب، وهو نتيجة صيرورة طويلة تراخت فيها عوامل المناعة فبدت كأنها تحمل موتاً بطيئاً. أليست يومياتنا، اليوم، في عدد قتلانا؟ لقد فوت العرب فرص تغيير كبرى، وما كان ممكنا منها لم يعد ممكناً. ولو دفعت القول إلى أقصى ما يخطر في ذهني، خصوصاً من وجهة جيوسياسية، لقلتُ إن العرب أصبحوا يعيشون كلّ يوم على أنه آخر أيامهم، ولقد نجحوا في تدريب جامعتهم العربيّة على تأبينهم! لا جرأة في قول هذا بقدر ما فيه من حزن.
في إحدى المقابلات مع قسطنطين زريق المنشورة العام 94 في صحيفة «السفير» قال يومها «نحن أمة متخلفة ولا بد من ثورة على الذات».. وفي الجامعة اليسوعية أطلق أدونيس مؤخراً عبارة « لسنا أنفسنا».. ما هي شروط تحقق ثورة الذات على «أنفسنا» كي نجد أنفسنا؟
لقد حان الوقت ليقول العرب للعرب بعض حقائقهم، من دون مواربة. لقد عشنا طويلاً نموّه على الذات، ننتج اللّامعنى ونتداوله، نتكاذب سياسيّاً وأخلاقياً، وحتّى فكريّاً، كما تتكاذب، اليوم، ألقاب «المحلّلين» على الشاشات. طوّعنا اللغة لهذا التكاذب، فلا هي، بعد هذا، تصدّقنا ولا نحن نصدّقها. لقد صعب علينا إعادة المعاني إلى الأشياء. لم يعد من الإفراط القولُ بأن الأغلبيّة تنتج اللّامعنى، في التكرار وفي الكلام العابر، ولم يعد من قبيل الهزل أن يقال إنه من الرفق بالمعنى أن تكف الأغلبية عن الكلام! كيف يكون الحديث عن الأولويات في وضع كهذا؟ الأولويات كانت دائماً مقلوبة، تقلبها مقايضات أنظمة مستبدّة. أكبر الخسارات، في أشهر المقايضات، كانت خسارات الحقوق والحرية والعدالة الاجتماعيّة. وإذا أضفنا أن مصالح القوى الخارجية تُملي علينا، في كل مرحلة، أولويّاتها المتجدّدة فإن من الخسارات أيضاً ما كان يسمّى سيادة وطنيّة. أما ما يبدو أن الربيع العربي أراد إعادة ترتيبه من الأولويات فهو يبدو، في أغلب حالاته وحتى الآن، مدهوساً، متناثراً بين أقدام الطوائف والميليشيات المتناحرة، وحتّى في خطب الحركات والأحزاب السياسيّة. أما في أهدأ الحالات كحالة تونس فتتقاسمه ماضويّتان، واحدة سياسيّة والأخرى دينيّة. هذه الماضوية تؤكد، من جديد، أن إعادة ترتيب الأولويات، في علاقتها بالتغيّر الاجتماعي، تحتاج إلى قطيعة يبدو أن الثقافة العربية لا تتحملّها، وهذا موضوع آخر.
نداء الثورة على الذات له أصول روحانية تقوم على مجاهدة النفس وعلى تأمّل يعتبر أن منافذ الذات لا تنفتح إلاّ من الداخل. لكن الأمة ليست كائنا ميتافيزيقيا. السؤال هو: ثورة من، وعلى أية ذات؟ الحديث عن ثورة أمّةٍ على ذاتها، هكذا في المطلق، غالباً ما يكون تحاشيا تقليديا للحديث عن ثورة اجتماعية. لقد حدث ان ادّعت الأمة ثورتها على ذاتها في الخطب الفاشية أيضاً! مهما يكن، فالسائد، عربيّاً، هو جلد ذاتٍ مطلقة، أسطوريّة، وهو جلد لا يخلو من مازوشيّة بدائيّة. نعم، لسنا أنفسنا، بمعنى من المعاني، وتخصيصاً إذا كان هذا يعني ذلك الانفصام الذي يكثر الحديث عنه في الخطاب العربي والذي تعبّر عن أعراضه ازدواجيّة في الفكر والسلوك، كما تعبّر عنه ثنائيات فكرية وإيديولوجيّة لم تستطع الثقافة العربيّة لا حلّها ولا الاستغناء عنها: التراث أو الأصالة والمعاصرة أو الحداثة، الهويّة والاستلاب، الخ… بهذا المعنى الانفصامي لسنا أنفسنا ولا غيرنا. وما دامت الحال هي هذه، فأيّ نفس، أيّ ذاتٍ، نبحث عنها؟ أهي تلك الممكنة التي يبدو مستعصياً علينا، أكثر فأكثر، بناؤها أم تلك المستبطَنة من تجربة بائسة؟ هناك اليوم، من يبحثون عن أنواع من أنفسهم أو من صور ذواتهم في غياهب القرون الخالية. يقولون إنهم وجدوها حيث تركها الأولون وإنهم فرحون بذلك. نعرف كيف يحتفلون بهويّة قاتلة، فعلاً. هل من الضروري إضافة، أن خطاب الهويّة في الفكر العربي هو، في مجمله، من أكثر الخطابات رجعيّةً؟ لقد ساهم جموده في جلب كوارث الماضي إلى الحاضر وفي شد المستقبل إلى الماضي، كما ساهم في ترسيخ التسلط السياسي الذي سلّح الهويات بالأساطير والسواطير في مواجهة التغيير. الخطاب الهويّاتي السائد، فكرياً وسياسياً، هو مما يجب تعريته وتفكيكه مثلما تفكك القنابل الموقوتة. هوياتنا تتوحّش، اليوم، وتتعسكر.
أين يكمن سر أزماتنا المتناسلة من رحم الازمات المتكررة والمتشابهة؟ لقد افتقدت معاني اللغة في إعطاء معناها الدال.. نشعر وكأننا في حالة انعدام الجاذبية.. من هم هؤلاء الذين يتشكل منهم هذا المجموع البشري المقيم بين المحيط والخليج؟ (طبعاً باستثناء اسرائيل).
كان لعبارة «من المحيط إلى الخليج» معنى الانتماء الحضاري أو الثقافي وحتى الاجتماعي، إلى حد ما. ولذلك كان يبدو بديهياً أن يقال «المجتمع العربي» و «الشعب العربي» في صيغة المفرد كما يقال «الوطن العربي». كان لها أيضاً، في لحظات محددة من التاريخ السياسي العربي الحديث، معنى الكينونة العربية المتماسكة المتكاملة، وقد تم توظيف هذا، مثلاً، بدهاء جيوسياسي غربي، في استعمال عبارة الصراع العربي الاسرائيلي، بقطع النظر عمن كان، فعلاً، يصارع اسرائيل من العرب. اليوم يتبيّن أن كل هذا من مجاز «اليوتوبيا» أو العجز. طبعاً، لا تزال هناك تجليات في الحياة العامة وخيوطٌ من الأواصر تكسبك شعوراً بانتماء قَد يحدّ من إحساسك بالغربة في بلد عربي، لكن مصائر العرب، إجمالاً، تنوعت وتوازت واختلفت وتعارضت وتحاربت، وفُرسانهم في ذلك أنظمتهم. لقد أصبحت مصائر البعض مصائبَ البعض. يكفي أن نتساءل: كم هي البلدان «الشقيقة» التي تؤاخي بينها حدود مشتركة؟ أو كم «شقيق» أقرب من الصديق ومن غير الصديق؟
وإذا كان نقد هذا الوضع العربي العام أو «حال الأمة» أمراً مألوفاً فإنّ من غير المألوف نقد الشعب أو هذه الشعوب من المحيط إلى الخليج. تعودنا نقد المجتمع ومجاملة الشعب، حتى لكأن المجتمع بلا شعب أو لكأن الشعب خارج المجتمع. كلنا شعبويون، من هذه الوجهة. الربيع العربي بيّن أنّ الشعب يمكن أن يريد وأن يثور ولكنه، في ثورته، يفرز أنبل ما فيه وكذلك أسوأ ما فيه. لقد تظاهرت النخب، خصوصاً السياسية منها، باحترام إرادة الشعب وخياراته، مهما كانت، وهذا حال دون طرح السؤال عن مضمون وعيه الممكن وعن إفرازات وعيه التجريبي. اختصاراً، هذا يعني ضرورة إرجاع مفهوم الشعب إلى الواقع الاجتماعي.
من هي هذه النحن؟
هل حاسبت نفسك على ما كتبت في معنى الثورات والجمهور و…؟
مباشرةً، مع بدء الثورة في تونس، كتبت مقالاً صغيراً بعنوان «لكي لا تأكل الثورة أولادها باكراً». كان من الواضح فيه أن الخوف ليس من أن تأكل الثورة أولادها، فهذا مألوف ومنتظر، وإنما هو من أن يكون ذلك بنَهمٍ سريع. غمرةُ الفرح جعلت البعض يجدون في هذا التحذير بعض التشاؤم المبكر، لكن سرعان ما تبيّنت مرحلة المرور من ثوار بلا ثورة إلى ثورة بلا ثوار، بعد أن عاد الثوار إلى مواقعهم، سالمين وغير سالمين. ولقد قيل عمّن «ركبوا» الثورة أو «سرقوها» الشيء الكثير. كتبت أيضاً «أسئلة الثورة» وأظنها لا تزال مطروحة. ولو كان لي أن أضيف لأضفت إلى الثمانية ثلاثة أسئلة، على الأقل، كانت متضمّنة في النص، ولكن الأحداث جعلت منها أسئلة كبرى: سؤال الدين، وسؤال المرأة، وسؤال التدخّل الخارجي. ومهما كان الرأي أو رأيي في ما كتبت عن الثورة فإن أقرب ما كتبت إلى نفسي هو النص ذو المسحة التراجيديّة عن «البوعزيزي وراء الخير والشر» والذي تمثّلت فيه البوعزيزي وأسئلته، وهو يواجه موته. ما كتبته عن الثورة هو قليل ولا يكاد يتسع للمحاسبة، خصوصاً أن أغلبه أسئلة بلا أجوبة.
ثمة الكثير مما نخشى وقوعه، لكننا لا نستطيع ترسيم خطوط وحدود هذه الخشية و»الخشيات».. لكن المفجع وسط هذه المخاوف ما نشهده من هدير لصوت العنف، لهذه الاحتفالية الغرائزية بموت الذات؟ كيف لك كمتبصر في شؤون المجتمعات العربية أن ترسم مساراتها ومصائرها؟ وكيف نقيم الثورات ونقع في الفوضى والعنف، كيف نغفو على تحليلات كبار المحللين والمثقفين ثم نستفيق على «كليبات» الرؤوس المقطوعة؟
ما قلته عن الانسداد العربي وعن تحايل اللامعنى في تغطيته كان من منظور الكينونة العربيّة، كما كان يُنظر إليها في خطاب التجانس والتكامل، وباعتبار اختلاف المصائر الجيوسياسيّة، بالدرجة الأولى. يمكن أن أضيف أن الثورات العربية قاربت وباعدت، في نفس الوقت، بين هذه المصائر: قاربت، شعبيّاً، في الانفتاح على الممكن وحتى اتصالياً، عبر الوسائل الحديثة، وباعدت، رسميّاً، في تنوّع الردود على هذا الممكن وفي الحذر منه. لكن، ومهما كان من مآلات الثورات العربية، فما حدث هو تحريك للتاريخ. ومثلما يحدث عند تحريك بركةٍ راكدة، آسنة، فإن ما يطفو خليط مما تراكم. وإذا كان من المألوف في الثورات أن تشقّها فوضى قد تختلف تسمياتها فإن العجب هو من ثورات تدفع ثمنا غاليا لتنحرف إلى نقائضها، بدفع من أضدادها. غالبا ما يكون هناك إفراط متعمّد في إسناد الفوضى والخراب، بل وحتى بعض مظاهر الإرهاب إلى الثورة. ما علاقة قطع الرؤوس، مثلاً، بالثورة؟ إنه من هُوامات الوصوليّة إلى السماء، اتخذت من عَنْفنة الدين طريقاً دمويّاً إلى الله. وهذا يُسأل عنه التحليل النفسي!
ما ضيّعه العربُ، جماعياً، يعانون تبعاته فرادى، وأغلب هذه المعاناة قاسٍ وفيه انتكاس تاريخي سحيق. حالة تونس استثناءٌ في المشهد حتى الآن. وإضافة لما يقال عن مدنيةِ الانتقال الديموقراطي في تونس وعن سلميّته وحتى عن أناقته، فإن أبرز ما حمل المشروع الديموقراطي في تونس، من وجهة نظري، أمران: تحوّل المطلب الديموقراطي إلى مطلب اجتماعيّ وظهور بوادر قابليّة الدين للاندراج في مشروع المجتمع الديموقراطي.
إن خطاب الهوية في الفكر العربي هو، في مجمله، من أكثر الخطابات رجعية، لقد ساهم جموده في جلب كوارث الماضي إلى الحاضر وفي شد المستقبل إلى الماضي، كما ساهم في ترسيخ التسلط السياسي الذي سلح الهويات بالأساطير والسواطير… هوياتنا تتوحش اليوم وتتعسكر
منى سكرية – السفير