المشهد السوري القاتم وكثرة الطباخين
تاريخ النشر: 05/01/15 | 0:00إن الظروف والوقائع القائمة في سوريا وطبيعة الصراع وتفرعاته وما نتج عنه من معطيات نفسية واقتصادية وسياسية وثقافية، تستبعد إمكانية الوصول إلى تسوية للصراع، متوازنة ودائمة في وقت قريب. ذلك لأن الأمور أصبحت أكثر تعقيداً مما كانت عليه طوال السنوات الماضية، حيث تشارك في صنعها: السلطة السورية والمعارضة السياسية والمعارضة المسلحة والمنظمات الإرهابية، وتتدخل دول الجوار بلا استثناء في هذا الصراع، كما أن لدول أخرى دوراً فيه مثل إيران وروسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، فضلاً عن الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، وغيرهم الكثير (وآذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق «الحج27») وفي إطار هذا التداخل والتشابك وكثرة المؤثرين والشركاء في الصراع والطباخين والمتدخلين في التسوية : يصعب إيجاد حل متوازن سياسي في وقت قصير، لأن كل طرف يحاول تحقيق رغباته ومصالحه وآرائه «ليشهدوا منافع لهم» تتناقض مع منافع الأطراف الأخرى أو تتباين معها، سواء في الداخل أم بين القوى الإقليمية والدولية، ولعل الأزمة السورية هي من أكثر الأزمات صعوبة في العصر الحديث وأكثرها تأثراً بمواقف أطراف عديدة إضافة إلى تعدّد أصحاب القرار وتفاوت قدراتهم ومصالحهم.
لم يعُد بالإمكان الآن الإحاطة بالصراع السوري واستيعابه كما كان الحال ممكناً بُعيد الانتفاضة أو عند بداية الأزمة. ويزيد الأمور تعقيداً وجود متطرفين في داخل السلطة وبين صفوف المعارضة وقرب هؤلاء المتطرفين من مراكز اتخاذ القرار أو مشاركتهم فيه. كما يزيدها تعقيداً رفض أهل السلطة بشكل عام أي حل سياسي، إلا إذا وافق أو حقق جميع مطالبهم ورغباتهم في أن تبقى الأمور كما كانت عليه قبل الانتفاضة. وشجع أهل السلطة على ذلك أنهم استطاعوا سابقاً إفشال جميع المبادرات التي طرحت، سواء العربية منها أم الدولية، ما أكد قدرتهم على المناورة وعلى تعطيل أي مبادرة أو أي مشروع حل لا يعجبهم، وفي الواقع، لا يعجبهم أي مشروع تسوية يتضمن تغييراً أو تطويراً جدياً أو إصلاحاً. وفي ضوء ذلك، تبقى أي مبادرة أو مشروع حل، في نظر أهل السلطة، أمراً عارضاً يمكن إفشاله بانتظار إيجاد ظروف أخرى تحقق النصر النهائي لهم عسكرياً كان أم سياسياً، ولا يأخذون بالاعتبار مصالح شعبهم أو مصالح حلفائهم ودول الجوار وضرورات الاستقرار والسلم العالميين، وكلها تقتضي إطفاء النار السورية التي بدأت تحرق أطراف هذه الجهات، ولكن لا يستطيع أهل السلطة دائماً وبلا تبصر واعتماداً على «الفهلوة» رفض كل مبادرة عربية أو غربية لحل الأزمة، وسيجدون أنفسهم يوماً مضطرين للقبول بهذه المبادرات.
ويبدو أن السياسة الروسية (وربما بالاتفاق ضمناً مع السياسة الإيرانية) ألحّت عليها مصالحها التي أحدقت بها المخاطر جراء الأزمة الأوكرانية والخوف من وصول الإرهاب إلى القوقاز للعمل لإيجاد تسوية للأزمة السورية، فكانت مبادرتها الأخيرة هذه مؤشراً واضحاً على رغبة موسكو بالوصول إلى تسوية، برغم أن مشروع مبادرتها الحالية لا يوحي بأنه يرضي المعارضة، لأنه – بحسب رأيها – دعوة للقاء أو التشاور لا للتفاوض ولا حتى للحوار، وليس له جدول أعمال ومحاور واضحة ولا خريطة طريق تتضمن مراحل زمنية لحل الأزمة، مما دفع بعض أطراف المعارضة للاعتقاد بأن هدف المبادرة الروسية هو خلط الأوراق وإنقاذ النظام بعد أن أصابه الإنهاك والتعب العسكري والاقتصادي والضعف بشكل عام، ولا تهدف للوصول إلى تسوية عادلة، وكان الدبلوماسيون الروس واضحين، فأكدوا لجميع أطياف المعارضة السورية الداخلية والخارجية بأن لقاء موسكو يهدف للتشاور وتبادل الرأي بين أعضائها الثمانية والعشرين المدعوين لهذا اللقاء بشكل فردي، لا للوصول لاتفاق على خريطة طريق، وتحديد مدة زمنية تقود للنهاية السعيدة من خلال اجتماع وفدي المعارضة والسلطة الذي يلي اجتماع أعضاء المعارضة مباشرة.
كانت لافتة للنظر موافقة تيارات المعارضة السريعة على عقد لقاء يجمعها في القاهرة، تمهيداً للوصول إلى برنامج موحد وقيادة موحدة، بعدما كان «الائتلاف الوطني لقوى المعارضة»، الممثل الرئيس للمعارضة الخارجية يرفض سابقاً اللقاء بقوى المعارضة الداخلية، لأنه يعتبر نفسه الممثل الوحيد للمعارضة، بشقيها الداخلي والخارجي، المعترف به من عشرات الدول، ويتهم المعارضة الداخلية بالتخاذل ومداراة السلطة. وهذا ما دعا بعض المطلعين للقول إن «الائتلاف» استجاب لطلب سعودي دعاه للقاء بفصائل المعارضة الداخلية كنتيجة طبيعية للمصالحة الخليجية، إضافة لشعور «الائتلاف» بضعفه من جهة واستجابة لطلبات عديدة من القوى المؤثرة العربية والدولية من جهة أخرى. وعلى الأغلب، كان اجتماع القاهرة استجابة من قوى المعارضة جميعها للرغبة المصرية في الدخول شريكاً في حل الأزمة السورية بعدما ابتعدت مصر كثيراً عنها ولم تتدخل بها طوال أربع سنوات، برغم أنها ذات دور أساسي ومؤثر في المنطقة.
ويبدو أن الإدارة الأميركية شجعت على لقاء المعارضة في القاهرة لتخطف المبادرة من يد الروس بعدما رأت أنها يمكن أن تكون بداية حل وتفوز روسيا بقصب السبق، وهي لا ترغب بأن يكون الحل آتياً من موسكو، فضلاً عن أن معظم أطراف المعارضة والدول العربية ذات العلاقة تتمنى أن ينطلق الحل من القاهرة، أي من بلد عربي لا من عواصم أجنبية. وهذا ما يحقق الرغبة المصرية ورغبة الجامعة العربية ورغبات الدول العربية الأخرى. وعلى أي حال، اتفقت قوى المعارضة التي اجتمعت في القاهرة على أسلوب التعاون بين أطرافها مستقبلاً وصولاً إلى تشكيل وفد موحد يمثلها سواء جرى تفاوض مع أهل السلطة أم مع غيرهم، كما اتفقت على عقد مؤتمر تشاوري بين أطرافها في القاهرة أيضاً، يضم قوى المعارضة الداخلية والخارجية كافة، وصولاً إلى برنامج موحد (أو على الأقل ثوابت محددة) وخريطة طريق صالحة لتحقيق التسوية، وتكون المعارضة بلقائها هذا قررت ما كان يجب أن تقرره قبل أربع سنوات، وقبلت ما كانت ترفضه طوال مدة الأزمة.
يمكن الوصول إلى تسوية للأزمة السورية لو رغبت هذه الأطراف جميعها بذلك، لأنها قادرة على إلزام أهل السلطة وقوى المعارضة السياسية والمسلحة بالقبول بالتسوية، من خلال تنازلات متبادلة، وقبول حل يساهم فيه الجميع ويحقق إقامة نظام سياسي جديد مدني ديموقراطي تداولي، وهذا ما تخشى السلطة السورية القائمة إقراره، وتحاول الالتفاف عليه مسبقاً بالمماطلة والتسويف والتمسك بالتفاصيل، أو أحياناً بطرح شعارات رنانة كما كان شأنها مع حميع المبادرات السابقة العربية والدولية. وليس من المستبعد أن يقول الوفد الرسمي هذه المرة في موسكو إن السلطة لا توافق إلا على مشاورات فقط، وإذا أصرت المعارضة سيقول إن السلطة لا تجري مفاوضات مع أحد من مواطنيها لأنها تملك القوة العسكرية والشرعية والرؤيا الواضحة. وإذا أصر الآخرون تدعوهم لعقد مفاوضات في دمشق وليس خارج الحدود، باسم السيادة والوطنية.
لقد أصبح مشهد الأزمة السورية الآن كما يلي: عسكرياً، يستمر الصراع المسلح في سوريا ويزداد عنفاً ووحشية مع مرور الأيام بين السلطة والمعارضة المسلحة وبينها وبين المنظمات الإرهابية، وبين هذه وفصائل المعارضة المسلحة الأخرى وبين المنظمات الإرهابية بعضها مع البعض الآخر. فالكل يحارب الكل، وسياسياً، تحاول الديبلوماسية الروسية تمرير مشروعها الذي تشكك المعارضة في مصداقيته وفي جدواه. وتحاول المعارضة توحيد صفوفها وتتعاون لتفعيل دور مصري، ويلقى هذا تشجيعاً من دول الخليج، وتبحث السلطة السورية عن أفضل الطرق لإفشال أي مبادرة تحت وهم إمكانية تحقيق نصر عسكري تعد به منذ سنوات عدة، وتنتظر تركيا إقرار منطقة عازلة، وتدير الإدارة الأميركية وجهها باتجاه «داعش» وظهرها لسوريا، ولا يستطيع الأوروبيون عمل أي شيء فعال، وهو ما يجعل المشهد السوري قاتماً ومحزناً.
حسين العودات – السفير