الثقافة الفلسطينية بين الماضي والراهن
تاريخ النشر: 13/03/15 | 13:07تحيي جماهير شعبنا في آذار من كل عام شهر الثقافة الفلسطينية، إدراكاً منها بأهمية ودور الثقافة كسلاح فعال ومؤثر في معارك البقاء والصمود والمواجهة، والدفاع عن الوطن، والحفاظ على الهوية، وصيانة التاريخ الوطني الكفاحي الفلسطيني.
وليس من قبيل الصدفة اختيار شهر آذار لمشروع الثقافة الفلسطينية، ففيه ولد شاعر المقاومة والثورة الراحل محمود درويش، كما يلتقي فيه يوم المرأة العالمي وعيد الأم ويوم الأرض الخالد وبداية فصل الربيع وتفتح أزهاره، وكل هذه المناسبات تكتسب أبعاداُ وطنية وإنسانية وثقافية.
لقد نشأت وتبلورت لدى شعبنا ثقافة وطنية تقدمية إنسانية تقدمية مقاومة ومقاتلة وملتزمة مناهضة للصهيونية والاستعمار والاحتلال. وعبر مسيرة النضال الوطني التحرري استطاع المثقفون والمبدعون الفلسطينيون تحقيق الكثير من الانجازات الثقافية، ولم يستغلوا القضية الوطنية لأهداف وغايات ومصالح شخصية ضيقة، بل اندمجوا فيها ووضعوها في أعماقهم، وانغمسوا بالهم والجرح الفلسطيني، وحملوا فلسطين في قلوبهم وعقولهم.
وقد شهدت الثقافة الفلسطينية عصرها الذهبي إبان المد الوطني الثوري وانطلاق الثورة الفلسطينية، وظهور المقاومة الفلسطينية كعنصر أساسي في مواجهة التحديات ومقاومة الاحتلال والمحتلين، وشكل مركز الأبحاث في بيروت، الذي أسسه الدكتور أنيس صايغ – طيب اللـه ثراه -، وكان يعتبر أهم وأعظم مركز أبحاث في العالم العربي، مفخرة فلسطينية لدوره العظيم في حفظ الذاكرة وصيانة التراث الفلسطيني، ولما قدمه من فكر سياسي وثقافي حضاري متنور ومتقدم.
لقد مرت الثقافة الفلسطينية بمراحل عدة، وكل مرحلة عبرت عن تداعياتها وإفرازاتها. ففي مرحلة ما بعد النكبة عبرت الثقافة الفلسطينية عن الحنين إلى الوطن، ورسم صور ومشاهد وتفاصيل النكبة، وتصوير أحوال وأوضاع اللاجئين في الخيام ومخيمات البؤس والشقاء والتشرد، وانتقاد موقف الأنظمة العربية الرجعية المتواطئة مع الاستعمار. وفي مرحلة ما بعد هزيمة ونكسة حزيران العام 1967 جاءت الثقافة الفلسطينية انعكاساً وتجسيداً للواقع الجديد، واقع التحدي والنضال والكفاح ضد الاحتلال الصهيوني، والتزاماً بقضايا الوطن وهموم الناس وجراحاتهم وعذاباتهم، وتعبيراً عن الطموح الجماهيري والشعبي بالخلاص من ربقة المحتل. أما في مرحلة الانتفاضة فالثقافة الفلسطينية صورت ممارسات الاحتلال التنكيلية القهرية والعدوانية تجاه الفلسطينيين، والإشادة بالمناضلين والمقاتلين بالحجر والمقلاع. وفي مرحلة ما بعد أوسلو وقيام السلطة الوطنية واكبت الثقافة الفلسطينية المرحلة الجديدة وصورت العودة إلى أرض الوطن، وعكست أحوال الناس وعلاقتهم بالسلطة.
والواقع أن ثمة أسئلة تدور في الأذهان حول الوضع البائس الذي آلت إليه الثقافة الفلسطينية بعد أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية. فماذا حدث وجرى لثقافتنا ؟ ولماذا هذا التراجع والنكوص الثقافي، ومن عمل على تصحر واحتضار هذه الثقافة ؟.
لماذا احتجبت وغابت المجلات الثقافية الأدبية والفكرية الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة ؟ وهل يعقل أن شعباً تحت نير الاحتلال، ويقاوم لأجل الحرية والاستقلال والديمقراطية لا يملك صحيفة أو مطبوعة تكفل حرية الرأي والتعبير ؟!.
كيف يحدث كل ذلك بينما كان شعبنا في الشتات والمنافي القسرية وداخل الوطن المحتل يملك المؤسسات الثقافية والمنابر الأدبية والفكرية، ويصدر الصحف والمجلات والدوريات الثقافية اليومية والأسبوعية والشهرية، أما اليوم فلا يملك سوى صحيفتين شبه رسميتين ناطقتين باسم السلطة، هما “الأيام” و”الحياة الجديدة”. فالناظر في الحالة الثقافية الفلسطينية الراهنة يلمس غياب الدور النقدي للمثقف الفلسطيني، الذي كان يدفع ثمن التزامه الفكري والعقائدي والأيديولوجي، بدلاُ من يقبض مقابل ذلك، ونشوء وتفاقم ظاهرة المثقفين السلطويين السعداء الذي لا يحتاجهم الوطن الفلسطيني السليب، ولا الشعب الذي يئن تحت حراب الاحتلال.
باعتقادي أن كل ذلك مرده غياب وتراجع المشروع الوطني الفلسطيني، وحالة الضياع والإحباط والتشتت التي تلف شعبنا بفعل اتفاقات أوسلو التي لم تحقق شيئاً خلال العقدين الماضيين. وكذلك الحالة الانقسامية التي يشهدها الشارع الفلسطيني وتأثيراتها وإفرازاتها على النضال الوطني التحرري الفلسطيني، وسقوط المبدعين والمثقفين الفلسطينيين وانخراطهم في صفوف السلطة وتحولهم لأبواق سلطوية تأكل من خبز السلطان وتضرب بسيفه.
وإزاء ذلك لا بد من انطلاقة جديدة تعيد الاعتبار للثقافة الفلسطينية التي تقاوم وتتحدى الهزائم والنكسات، وتبث الأمل والتفاؤل الثوري في النفوس بالانتصار على الظلم والقمع والتعسف والاحتلال والطغيان، وولادة مبدعين ومثقفين نقديين جدد يعيدون الوهج والسطوع للفكر النقدي والروح النقدية التي اتسمت فيها ثقافتنا الفلسطينية على امتداد مسيرتها قبل أوسلو.
شاكر فريد حسن