أمةٌ ابتُليتْ بأشباهِ العلماء
تاريخ النشر: 03/05/15 | 15:47الحمد لله والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد..
إنّ الناظر إلى حال الأمة اليوم ليجدها تعصف بها شتى الابتلاءات، من الخارج ومن الداخل؛ إلا أنّ بلاءها من الداخل أشدُّ بأسًا وأكبرُ تأثيرا.. فقد ابتُليتْ أمتُنا برؤساءَ وحكامٍ طغاةٍ ظلمةٍ لا يَرْعَوون عن سَوْم شعوبهم سوء العذاب لحماية كراسيّهم، علّهم يُخلّدون عليها إلى أن تُغمِض عيونَهم كفُّ الغاسل، بل لعلهم يطمعون أن تُدخَل معهم في قبورهم.. ساعدَتْهم في بطشهم هذا –للأسف- طُغمةٌ مارقة من أشباه العلماء؛ ممن ادّعوا العلم زورا وبهتانا؛ بَيْد أن بينهم وبين العلم العلم كما بين السموات والأرض.. فـ(إنا لله وإنا إليه راجعون).
وليس هذا فحسب؛ بل لقد ابتُليت أمتُنا كذلك بأشباه علماء من غير الصنف الأول؛ ليسوا أقلَّ فتكا بالأمّة منه، من حيث يدرون أو لا يدرون؛ هم أولئك الذين يبحثون عن التجديد لذاته، وفقط عن التجديد، بأي ثمن، وبغض النظر عمن سيدفعه، وهم صنفان؛ صنفٌ مريضٌ قلبُه، نسأل الله العافية، طمع روادُه في الاستغلاظ على حساب الدين، ليستووا على سوقهم، فيعلوَ صيتُهم ويرتفعَ رصيدُهم أمام أناسٍ يُمثّلون أرضا خصبة لاستقبالهم وتبنّي أفكارهم، لأنهم ملّوا “كل قديم”؛ لا لأنه قديم، بل لأنا لم نحسن في مقابل هؤلاء عرضَه؛ بل وأضفينا عليه روتينا وفظاظة جعلتْ بعضَ هؤلاء الناس يقعُدون كل مرصد لأهل الدين ممن لم يتقنوا فن توجيه الخطاب لقلوب تَعْتَوِرُها الفِكَر في ظل فِتنٍ تعصف بالأمة عصفا، وفي هؤلاء يصدق قول الشاعر:
أورَدَها سَعْدٌ وَسَعْدُ مُشْتَمِلُ مَا هكَذا يا سَعْدُ تُورَدُ الإبِلُ
وصنف آخر ملأه الحنقُ من أخمص قدميه حتى شدقيه من خطاب فظ متكرر، ورأى الناس تئنّ تحت سياطه، فاختار النقيض دونما حكمةٍ أو دراسةٍ لواقع، فبرز من بين شدقيه خطاب “منفتح” إلى أبعد الحدود، بل دون حدود.
فباتت أمتنا ما بين متطرفٍ ومتطرفٍ؛ متطرفٍ يدعو الناس فيُغلظ عليهم، حُرقة لا خُبثا ولُؤمًا، نحسبه كذلك، ويخطئ فيبدو كالمنـزَّه المتّهِم أمامَهم، ويتبنى آراء يؤمن بها هو، وفي الدين فيها سَعَة، ويطمح إلى أن يسيّر الناس على نهجه هو.. ومتطرفٍ آخر، هو أعظمُ خطرا من الأول، جعل شعارَه “الانفتاح”، فألقى حبله على غاربه، وأخذ ينبش نصوص الشريعة هنا وهناك، ويفهمها على مراده هو، ليَخْرج بنموذج يظنه صوابا (هذا إن أحسنّا الظن فيه)؛ فتأخذه العزة بالفِكر، وهو يرى إقبالَ الناس عليه، وما علم أنما هو إقبالُ “غريق متعلق بقشة”، همّه سماعُ الجديدِ لا غير، المختلِفِ عن سابقه الذي آلمهم، وما علموا هم أيضا أنهم بذلك يغوصون في وحْلٍ أشدَّ عمقا وأضلَّ سبيلا؛ وحْلِ الشبهات فوق ما يعتري نفوس البشرِ من شهوات.. فيتشجع هذا من أشباه العلماء على الخوض حتى في مسائلَ اتفق فيها جُلّ العلماء، ولاقت القبول عند غالبيتهم العظمى، وعَهِدَها الناس وتربَّوا عليها؛ بل ويسفِّه رأيهم ويستسخر منهم؛ فيختار الشاذ ويروّج له؛ بحجة “إصلاح الأحوال” تارة، وما هي كذلك؛ وإنما يَصلُح حالُنا برجال يتواصلون مع الناس ويحبّونهم، ويقفون مع الحق في وجه أعداء الأمة ويصدحون به دون خوف أو وجل.. أو بحجة “تنوير عقول الناس” تارة أخرى؛ وما علم أن عامة الناس في حاجة إلى من يتغلغل بلطف وحُبٍّ في قلوبهم ليغيّر فيهم ويُصلح أحوالهم، لا إلى سمومٍ تَشُلّ عقولهم، وتَبُثُّ الريبةَ في قلوبهم.. إلى غير ذلك من حجج واهية لا تبرّر له الخوضَ في تلك المسائل إلا في حضرة العلماء دون العامة، للاستئناس بتلك الأقوال، أو مناقشتها من باب التبحّر بالعلم، إن استُسيغ ذلك.
فهلّا أدرك هؤلاء قُبْحَ فعلِهم، وهلّا صحَوا من أحلامهم التي يأملون تحقيقَها على كواهل عامة الناس، وهلّا تصدَّوا لأشباه العلماء ممن يُمالِئون السلاطين ويعينونهم على صبّ شرورهم فوق رؤوس العباد صبا، وهلّا شحذوا هِمَمَهم وأشغلوا عقولهم برد الظلم عن إخواننا المضطهدين المقهورين في مشارق الأرض ومغاربها… بدلا من الاشتغال بالشبهات، أو حتى بتفاصيلَ مختلَفٍ فيها لا تضرُّ عامةَ الناس ولا تنفعُهم؟!.
وأخيرا.. بخٍ بخٍ لعلماءَ علماء، وما أقلَّهم! وبُعدًا بُعدًا لعبّاد الكراسيّ وأرباب الشبُهات من أشباه العلماء..
والله من وراء القصد..
بقلم: محمد يوسف ناجي (أبو مسلم) – مصمص