الطلاقة، أم الكفاءة؟
تاريخ النشر: 09/07/15 | 13:25“كل شيئ فرنجي، برنجي”. هذه عبارة ما يفتأ أهل بلاد الشام يستخدمونها الى ايامنا هذه، وكلمة ” برنجي” ،على أغلب الظن، هي كلمة تركية وتعني الشي الجميل، وكلمة فرنجي أي أجنبي. اذن والحال كذلك، فما بين ايدينا من ممتلكات او مقتنيات أو موروثات او علوم، فهي لا تساوي الكثير امام ما يسطع بريقه، والآتي الينا من بلاد العالم المتحضر، كما يروق للبعض تسميته. في مقالي هذا، سأتطرق الى بعض التأملات التي تظهر هنا وهناك عما يقال عن مدرسي اللغات الأجنبية –الاجانب- الذين، وبشكل فجائي وبأعداد ضخمة، حطوا بين ظهراني شعوب دول العالم الثالث، وانبروا ينافسون ابناء البلد ويزاحمونهم على ابسط مقومات الحياة – لقمة العيش. هل ما يقومون به من عمل يشكِّل إضافة نوعية، أم عرقلة مقصودة في مسيرة التقدم القومي للبلاد؟
من خلال العديد من المؤتمرات الأكاديمية وورش العمل على مستوى التعليم العالي، والتطرق الى الكثير من الهموم التعليمية، و الفائدة المرجوة من وجود الكم الهائل من المدرسين الناطقين باللغات الاجنبية في حِمى العالم الثالث، والقائمين بمهمة تدريس ابنائنا في المؤسسات التعليمية كمراكز اللغة في الكليات والجامعات بشقيها الحكومي والخاص، إضافة الى بعض المعاهد هنا وهناك، فقد تبلورت امور كثيرة لا ضير من تسليط الضوء عليها.
الناطق باللغة الأجنبية ليس بالضرورة أن يكون أكثر كفاءة من ابن البلد الذي قضى سنين طويلة من الجد والكفاح والسهر حتى تخرَّج وحصل على شهادة تخوِّله حق التدريس في مؤسسات بلاده التي ينتمي اليها ويعشق ترابها ؛ بل على استعداد للتضحية بنفسه لأجلها. فكثيرة هي الأحيان التي تطالعنا فيها الصحف المحلية والمواقع الالكترونية بوجود شواغر لمدرسي اللغات، وحال تقدم ابن البلد لهذه الوظيفة يتفاجأ بأن المطلوب هو” مَنْ لغتُهُ الأم هي اللغة الاجنبية”، ولا يفلح مقدم الطلب في اقناع بني جلدته، ومن بأيديهم العقد والحل، في قبول طلبه أو تجربته فصلا دراسيا واحدا كي ينجلي الأمر.
لا يغدو الامر رفض الآخر كونه الآخر فقط، إنما البديل موجود ومتوفر، وربما على كفاءة أكثر ممن ليس شافعه – في أغلب الأحيان- إلا المُقَلُ الملونة. ففي العقدين والنصف المنصرمين، اجتاحت هجمة شرسة ممن يَدَّعون تدريس اللغات، وحطت اشرعتهم في بلاد العالم الثالث. هل جاؤوا منقذين ورسل محبة للإسهام في رفع مستوى البلاد وخير العباد، أم جاؤوا هائمين على الوجوه لضرب عصفورين بحجر واحد: السياحة والعمل، وأيُّ عمل؟
عدد لا بأس به ممن هجروا بلادهم وهاموا في بلاد العالم الثالث لا يمتلكون من الكفاءة ولا الشهادات التخصصية شيئا، فبعضهم لديه شهادة اسعافية مدتها شهر واحد CELTA, DELTA)) تمكنهم من تدريس اللغة لغير الناطقين بها، ومنهم من لا يحملها، بل يحمل دبلوما او شهادة في مجال آخر غير مجال اللغة، ويجد القبول مباشرة كمدرس في بلاد العالم الثالث، وابن البلاد ليس له من الحظ شيئأ. فاذا كان باب التوظيف موصدا في وجوه خريجي ابناء البلاد من متخصصي اللغات، فلماذا تتكبد مؤسسات العالم الثالث عناء فتح كليات اللغات والصرف الباذخ عليها، وفي نهاية المطاف فرصة التوظيف هي من نصيب من قطع البحور السبعة سباحة؟ لا مشلكة البتة، فلعل الأمر أعمق من هذا.
الطريف هنا أن ممن وصلوا الى بلاد العالم الثالث كمدرسين، مازالت حقائب الكثيرين منهم على حالها، استعدادا للرحيل في اية لحظة الى بلاد اخرى للسياحة والاستجمام ثم التدريس. مساكين شعوب العالم الثالث عندما يفرحون بمقدم مدرس من بلاد ما وراء البحار ويبنون عليه الآمال العراض في النهوض بالمؤسسة والصعود بها الى اعلى قمة الهرم الاكاديمي، ولكن- بعد سنة من الالتزام بالعمل، وربما أقل- يعلمون من الغير- وليس منه مشافهة ودون استقالة- أن هذا المدرس النجيب قد حمل شنطته التي ما زالت على حالها، وامتطى صهوة الريح تحت جنح الظلام وحط في بلد اخر به شواطئ اكثر جمالا،
ومناظر طبيعية اكثر ابهارا وظروفاً ميسرة لراحته بشكل اكبر. وما تزال الشنطة على حالها استعدادا للرحيل الى بلد اخر.
ففي حديث مع اكثر من مدرس أجنبي، تبين أن معظمهم ممن يمتهنون شد الرحال، ودائما يرددون العبارة الشهيرة” الحياة قصيرة، فلنستمتع بها “. يعشقون الترحال والضرب في الارض، وهم على استعداد لصرف ما يوفرونه في نهاية العام على الاسفار. وقصة حقيقية اخرى، وأثناء الحديث مع مدرس من الآخر، وكانت وجنتاه يكاد يقفز الدم منهما لحمرتهما، اخبرني بأنه ينوي اكمال عدد الدول التي زارها الى مئة، اذ كان حينها قد زار بضعة وتسعين دولة. فهمه الاول- قبل التدريس- هو التجوال في بلاد الله، لأن هذه الفرصة لا تتوافر في بلاده ولذا فعليه اغتنامها قبل الكهولة. ومنهم من يتحدث عن متاع الدنيا في القطر “الفلاني” أفضل منه في “العلاني”، وهلم جرا.
فالمدرس الأجنبي- الناطق بلغة غير لغة شعوب العالم الثالث- يتنقل بكل حرية ويسر من دولة الى أخرى، والكل يكسب ودَّه ويتمنى رضاه. فهو( يبرطع ) كما يشاء وحيثما يشاء والكل يشير اليه بالبنان ؛ كفاءة وعلما- ظاهرياً. إن استقال وغادر لبلاده، فلا مانع من رجوعه- إن رغب- الى عمله السابق، وربما بعقد عمل يفوق السابق، أما ابن العالم الثالث إن حدث واستقال، أو ترك العمل لظرف ما ، “ولا الجن الازرق “يرجعه الى عمله ثانية، حتى لو كان ارسطو طاليس في المعرفة.
يقال بأن المدرس الأجنبي احسن اخلاقا وتهذيباً، واكثر فهما في فن” الإتيكيت” والمعاملة؛ فلا يوبخ طالبا ولا يضرب احدا. كما ان بعض المؤسسات التعليمية توحي للملأ الاعلى بأن مصير ابنائهم الزاهر هو بيد المدرس الاجنبي، فليعضوا عليه بالنواجذ لأنه الاقدر على توصيل المعلومة لابنائهم، وهو ضمان مستقبلهم وصمام امانهم. فالكثير من ابناء العالم الثالث لديهم الهوس بالاجنبي؛ فهو لا يخطئ ولا يفسق، ولا يغش، ولا يكذب ، وهو كتلة من الثقة تدب على قدمين. فبحسب نظرية ابن خلدون ان المغلوب خير مقلد للغالب، فكونه تغلب عليه بطريقة ما وسيطر عليه، فإذن هو افضل منه، ويجب
تقليده. ولماذا ليس ابن البلد الذي يصلح للارتقاء بابناء جلدته؟
ابن البلد هوالاقدر على فهم واستيعاب الموروث الثقافي لابناء بلده، وهو الاصلح لمعرفة نقاط ضعفهم، كونه مر بنفس التجربة، ويعرف مكامن القوة والضعف عندهم، وهو الاقدر على النهوض بهم، وتبسيط المادة الدراسية لهم، وتقديمها بأسهل الطرق. فكفاءات العالم الثالث من وزراء ومديرين ومهندسين وأطباء من الذين قامت على أكتافهم نهضة البلاد، كان مدرسوهم كلهم من بني جلدتهم، وليسوا مستوردين. ولنرجع الى النقطة الاصلية في هذا الموضوع: من الاقدر على افهام الطلبة اللغة الاجنبية، الناطق بها، أو مدرسها؟
منذ مدة ليست بالقصيرة – قبل عقد ونيف من السنين- اذاعت محطة ال” بي بي سي” دراسة حول هذا الموضوع وكانت النتيجته مذهلة. إذ تبين أن مدرسي اللغات من غير الناطقين بها هم الاكثر قدرة على توصيل المعلومة للطلبة من ابناء جلدتهم. هذه الدراسة تمت على افتراض ان الاثنين – المدرس الذي لغته الام والمدرس الذي لغتة ليست بالام- هما بنفس الكفاءة، فما بالنا اذا كان الكثير الان من اصحاب اللغة – ممن يأخذون على عاتقهم تدريس ابناء العالم الثالث- هم ممن لا مؤهلات لديدهم- الا من رحم ربي؟
قبل بضعة اسابيع تداولت مواقع التواصل الاجتماعي خبر احد الناطقين بلغة اجنبية والذي قدم الى بلاد العالم الثالث، وهو في الأصل يعمل اسكافياً ( مصلح أحذية) في بلاده، لكن مؤهلاته هي فقط الأحداق الملونة، والفروة الحمراء. والشهادة للتاريخ، أن ذاك الاسكافي كان يتمانع ويرفض أن يلتحق بالسلك التدريسي، إلا أنه أمام الاصرار الهائل من المحيطين به من ابناء العالم الثالث لم يرد “تفشيلهم”، ثم رضخ أخيرا وقبل العمل كمعد للاجيال القادمة – اجيال الثورة –الإسكافية- عفواً، التكنولوجية.فلدى البعض حدس بأن الاجنبي(برنجي) وهو يمتلك العصا السحرية التي ستجعل أبناءهم
يرطنون اللغة كالبلابل. البعض من المؤسسات التعليمية في العالم الثالث والتي يرأسها الآخر لديها خطط بعيدة المدى.
بعض المدارس او المؤسسات التعليمية التي يراسها الآخر في العالم الثالث، ومن منطلق النبوغ والضلاعة في اتقان اللغة، يتم تقديم برامج صيفية لهم حافلة بالفعاليات في البلاد الناطقة باللغة. هناك، وما أدراك ما هناك، الرحلات المختلطة، السباحة المختلطة، والحرية في ارتداء الملابس من قصير وشفاف، وعمل كل ما يقربهم من اصحاب البلاد تلك كي لا يبدو الفرد بينهم شاذاً أو بالمعن العامي” كالثور الابرق”، بل في غاية التماهي والذوبان، فلا مانع من الحضور لقاعات الدريس ب”الشورت” و”التي شيرت “،وما خف لبسه، وعلى المثل المصري الشهير” الرزق يحب الخفية”، أما اللباس المحتشم للإناث فقد يجلب ما لا تحمد عقباه. كل ذلك مما يقوم به المدرس الاخر لينماز عن غيره، كونه الأدرى بما يفيد الطلبة.
قرأت مرة أن اليابانيين ينظرون الى المدرس الناطق بالانجليزية على انه مَبلغ العلم و الفهم، ولديهم مثل شهير If it walks and talks, that’s ok.بمعنى انه مادام صاحب اللغة يتحدثها بطلاقة، فهو بلا ريب يعتبر كفاءة ممتازة. أحد الناطقين بلغة اجنبية عبَّر عن فرحته بأنه ما من مرة يتقدم الى وظيفة تدريسية في العالم الثالث حتى تتم الموافقة عليه فورا. وفي خضم هذا الامر يقدم هذا الآخر بعض الملاحظات التي يجب توافرها اثناء التعيين، ولإحقاق الحق، فهو غير راض عما يجري لمتخصصي اللغات في العالم الثالث بخصوص الغبن في التوظيف. هذا ما يراه:
-لماذا لا يتم اخذ راي المتعلمين في اختيار من يقوم بتدريسهم: ابن جلدتهم، ام الآخر؟
-يجب، وبكل اصرار، ان تكون الكفاءة هي المعيار الاسمى في التوظيف، وليس اتقان المحادثة فقط.
-في المراحل الدنيا من الدراسة، يجب أن يكون المدرس من ابناء البلد، كونه يشرح الامور بكل بساطة وروية، مركِّزا على نقاط الضعف التي يتلمسها فيهم من خلال اللقاءات اليومية.
-وجود المعلم الاجنبي يشكِّل إضافة ايجابية في حال وجود مصطلحات لغوية غير مألوفة لدى المدرس المحلي ، وهذا مفيد للطلبة الراغبين في الالتحاق بمؤسسات تعليمية في الخارج.
في الموروث الديني والثقافي لدينا، أن المعلم يحتل مكانة عالية في المجتمع ،كونه يثقف الاجيال ويصقلها، وطالما امتدحت الكتبُ السماويةُ، والانبياءُ، والشعراءُ، والكتّابُ المعلمينَ. لكن بالمقابل، على المؤسسات التي تستخدم المعلمين ان تراعي الكفاءة والعدالة اثناء التوظيف، لا أن تكيل بعدة مكاييل.
يونس عودة/ الاردن