الأَحْوَالُ السِّيَاسِيَّةُ وَجَمَاعَةُ الإِخْوَانِ
تاريخ النشر: 16/08/15 | 15:00قصة حياة (12)
مذكرات الإمام محمد الغزالي
1917م – 1996م
الأَحْوَالُ السِّيَاسِيَّةُ وَجَمَاعَةُ الإِخْوَانِ
أشرت إلى الميزة التي وفرها القدر لي، وهي أني أجمع في منصبي بين الصفين الشعبي والرسمي، ما جعلني أملك حق الكلام في مختلف المحافل والمساجد.
وقد اجتهدت إذا تحدثت في أمر ما أن أستوفي عناصره العلمية، وأن أربطه بالمناسبات العابرة على نحو معقول، وأن أجرِّد كلامي من أي زُلفى للحاكمين، وأن أضمنه تصريحًا أو تلميحًا ما أنصف به ديني وأسترضي به ربي.
وهي خطة ضاق بها أصحاب السلطة، ولكنهم لم يتحاملوا عليها!
وقد ضمَمْت إلى هذا أني ألفت كتابًا عن “الإسلام والاستبداد السياسي”، لخصت فيه بعض ما كنت ألقيه على المعتقلين في “طور سينا”، والكتاب نابض بكره الفرعنة؛ ومساوئ الحكم الفردي الغشوم، ومُفعَمٌ بالتوجيهات الإسلامية في سياسة الحكم.
الانتفاع بالحريات الديمقراطية
وبديهي أن يجعلني هذا الكتاب وما سبقه في “القائمة السوداء!”…
كانت جماعة الإخوان المسلمين منحلة، بحكم القانون، غير أننا رفضنا أن نعترف بهذا الوضع، وسحنا في أرجاء البلاد، نؤكد حياتنا ورسالتنا بلباقة.
ونفعتنا الأوضاع الدستورية القائمة حين ذلك، فتلاقينا وتدارسنا حالتنا، بل إن التيار الإسلامي زاد مَدّه، وتضاعف رِفده، وبرغم المصائب التي حاقت بكثيرين منا فإن طبيعة التديُّن في شعبنا؛ والحفظ الذي كتبه الله لدينه؛ جعل علم الإسلام يرتفع مرة أخرى.
وفي هذه الأثناء جاءنا من الهند الأستاذ الداعية أبو الحسن الندوي، فكان مَدَدًا من أمداد الخير، وترافقنا معًا في الانطلاق من القاهرة إلى الأقاليم، ندعو إلى الله، ونرجع الناس إلى صراطه المستقيم، وقد لاحظت أن التوافق في الفكر يجمع بيننا، في أغلب النظرات والأحكام، وشعر إخواننا بذلك عن طريق المصادفة المحضة، فكان موضع ترحيب وسرور.
إن السنوات الأربع التي سبقت الانقلاب العسكري الناصري كانت من أعمق السنوات أثرًا في تاريخنا المصري، فقد استطاع الإخوان –في القدر المتاح من الحريات الدستورية- أن يجمعوا شملهم، وينمّوا كيانهم، ويؤكدوا بقاءهم!
الأحوال السياسية وجماعة الإخوان
وانـزاح حكم الأقليات، ورجع حزب الوفد إلى الحكم، وكان نجاحه الكاسح سببًا في أن الأستاذ مصطفى أمين، وهو عدو الوفد المبين، يقول معلقًا على هذه النتيجة: لكل داء دواء إلا الوفد ..!
ولم أكن يومًا أنتمي إلى حزب الوفد، فقد عرفت حسن البنا وأنا طالب في الرابعة الثانوية، في معهد الإسكندرية الديني، ويشرفنى أني كنت تلميذًا لهذا الرجل، بيد أنني حسن الدراسة لديننا ودنيانا، بريء من العلل التي تشوِّه النظر، وتفسد الحكم على الأمور.
واعتقادي أنه لو جرى تفاهم بين الهيئتين الشَّعبيتين لنجتْ مصر من النكسة الهائلة التي وقعت فيها بعد ذلك.
وما أحببت هذا التفاهم إلا لشيء واحد، هو ضمان بقاء الدستور الذي نالته مصر 1923، والذي يوفر للمصريين من الحريات –لو نُفِّذ- ما يمنع الفرعنة، ويحمي المستضعفين من الهوان.
إنني –أنا الداعي المسلم- لا أحتاج إلا إلى الحرية، لأؤدِّي واجبي، وأُنجح رسالتي، ويوم أفقد الحرية أفقد كياني كلَّه!
إن الإسلام لا يحتاج إلا إلى هذه الحرية كي ينتشر وينتصر!
وإذا كان بعض الفاشلين في العرض أو القاصرين في الفقه يخشَوْن هذه الحرية فليجاوزوا ميدانًا لا يستطيعون أعباءه، وليحترفوا شيئًا آخر غير الدعوة الإسلامية ..!
وكان ظني أن الإخوان بعد مقتل مرشدهم وحلِّ جماعتهم في ظل استبداد مسعور، سوف يستفيدون من التجربة، ويستبقون في مصر ضمانات الكرامة الإنسانية، ومعالم الحيات العامة، أفذلك وقع؟
كلا .. لقد مشى الأمر في طريق آخر!
وقد أحزنني وأنا في معتقل “الطور” أن الإخوان عمومًا يرفضون أي اتهام لسياستهم، وقد قلت: إنه بعد هزيمة “أحد” وقع اللوم على “البعض” من الصحابة، فلماذا لا نفتِّش في مسالكنا الخاصة والعامة، فقد يكون بها ما يستدعي التغيير! وما يفرض تعديل الخطة؟ لكن هذا التفكير لم يلق ترحيبًا ..!
والواقع أن الفكر السياسي عند جمهرة المتدينين يتّسم بالقصور البالغ، إنهم يرون الفساد ولا يعرفون سببه، ويقرأون التاريخ ولا يكشفون عبره، ويقال لهم كان لنا ماض عزيز، فلا يعرفون سرّ هذه العزة، وانهزمنا في عصر كذا، فلا يدركون سبب هذه الكبوة، ويشعرون أن العالم الغربيَّ بزغ نجمه، فلا يدرسون ما وراء هذا البزوغ ..!
نقاش حول الدساتير
قلت لأحدهم –وكان يكابرني- ما الفرق بين دستور سنة 1923م؛ والدستور الذي جاء بعد أيام الانقلاب الناصري؟ فقال بعد تحيُّر: لا أدري ولا يضرني هذا الجهل!
قلت: تدري فقط أن تثير الشغب حول الصلاة بالنعل أو بدونها، وحول انتقاض الوضوء من لمس المرأة أو عدم انتقاضه! فإذا اتصل الأمر بقدرة حاكم ما على تخريب البيوت وتعمير السجون، وحرق الكرامات، وترويع العائلات؛ قلت: الجهل بأسباب ذلك لا يضر!
إن العودة إلى الكتاب والسنة عنوان جميل، وسيكون هذا العنوان على فراغ قاتل يوم يتاح للفراعنة أن يتخطفونا مستندين إلى دستور وضعوه، لم نعرف نحن لِمَ وُضع وكيف؟
قال لي آخ آخر يرقب الحوار: لا تنس أن الدستور الذي نَوَّهتَ به مستورد من الخارج!
قلت: لا أنسى ذلك، إنه فعلًا مترجم، ومنقول عن جملة من الدساتير الأوروبية الحديثة، وليس كل ما جاء من الخارج يعاب.
إن القوم حصّنوا أنفسهم ضد المظالم المتوقعة بهذه المبادئ القانونية.
فإذا كنا في مصر نتعرض لذات المرض، فلا حرج من مواجهته بالحصانة المجرّبة!
إننا نرفض الاستيراد إذا كان ما نجلبه مضادًا لما عندنا، أو كان عندنا ما يغني عنه.
ومن حقي أن أرتقب من الإخوان كراهية من آذَوهم، وأهانوا إيمانهم، وكانوا يد الاستعمار العالمي التي بطشت بهم، وزلزلت أركانهم! وأن نُترجم هذه الكراهية إلى موقف سياسي صلب ضدّ الأقليات السياسية أو الأحزاب المصنوعة لخدمة فرد مسلّط.
وعلى أية حال فإنني سوف أعدّ من كبائر الإثم والفواحش تزوير الانتخابات، وكبْت الحريات، والافتيات على الجماهير، وسأسلك هذه الجرائم مع أنواع الخنا والربا، والسرقات الكبرى، وسأعتبر الحياد في مواجهة هذه الانحرافات خيانة لله ولرسوله ولجماعة المسلمين.
واستطاع الأستاذ صالح عشماوي، وكيل جماعة الإخوان على عهد الإمام الشهيد، أن يفتتح مقرًا لهذا النشاط الإسلامي في بيته في حيّ “الظاهر”، وشرع يجمع فلول الإخوان من هنا وهناك، ثم تحوّل هذا المركز المؤقت إلى مركز عام، يلقى فيه دروس الثلاثاء، كما كان الأستاذ البنا يصنع، ويجتمع فيه محامو الإخوان لبحث قضاياهم، ويَفِد إليه ممثلو الشعب القديمة من الوجهين البحري والقبلي ..!
وكنا نحس أن وكيل الجماعة يقوم مقام المرشد في غيابه، إلى أن ينتخب هو أو غيره من أعضاء الجماعة مرشدًا جديدًا مكان الإمام الشهيد.
ولم يكن المضيّ في هذا النشاط تسلية بل تضحية، ومغامرة قد تطيح بالنفس والمال، لأن الملك “فاروق” كان قائمًا على عرشه، وقد كثر خلصاؤه من أمثال “بوللي” و “إدجار جلاد” و “كريم ثابت”، وآخرين نسيت أسماءهم لبُعد العهد.
عندما عدت إلى القاهرة وجدت أمامي مشكلة عويصة، فإن المحكمة أبت أن تُطبق على علماء المساجد قانونًا صدر لإنصاف حملة الشهادات العالية، ومعنى ذلك أن تبقى مرتباتنا خمسة جنيهات، بينما يأخذ زملاؤنا المدرسون اثني عشر جنيهًا، وكذلك الكتبة والإداريون ومن إليهم!