قراءة عن ديوان عاشق من الجليل للشاعر حاتم جوعيه
تاريخ النشر: 29/09/15 | 8:04لماذا يحاولُ الشُّعراءُ أن يكتبوا عن العشق والهوى ؟! لماذا يحلو لهم دائما، شعراء وشاعرات أن يطرقوا هذا البابَ فتذوبُ الكلماتُ رقَّة وعذوبة ً وننفعلُ معها نحن جمهور القرَّاء ونحفظُ منها ما نحفظ نُرَدِّدُهُ في كلِّ مناسبة ؟! هل لأنَّ حديثَ القلوب أكثر وقعا في النفوس من أحاديث العقول ؟! أم لأنَّ الشاعرَ يستمطرُ الكلمات على من يحبُّ فتطيعُهُ دون عناء ؟!.. إحدى الشاعرات كتبت ذات يوم تقول: ” أحبُّ الرجلَ الهادىء ليمتعني الإنتصار حين أثيرُهُ “. وفي مكان آخر كتبت: ” يعجبني أن أكون امرأة فالرجل تقتلهُ النساء. أما شاعرُنا فيرى نفسَهُ معبودَ كلَّ النساء الجميلات فيُحَوِّلَهُنَّ خدمًا وجواري من حوله في قولِهِ:
(” ولو أردتُ جميعَ الغيدِ تعبُدُني لكانتِ الغيدُ كلُّ الغيدِ كالخَدَم ِ “)
هذه المقارناتُ بين الرجل والمرأة، بين نظرة هذه ونظرة ذاك تحبِّب لنا قراءة الشعر، لأنهُ حديثُ القلوبِ، يثيرُ فينا مشاعرَ دفينة وينطق بألسنتنا لأننا عشقنا ونعشق ذكورا وأناثا، فالعشقُ هو جوهرُ الحياةِ والمحبَّة زهورها ورياحينها التي تجملها على الرغم من مشاكلِها وصعوباتِها وهو هو نفسه صناعة الحياة.
قدَّمتُ لمقالي هذا بعضَ هذه الكلمات لأنَّنا ازاء ديوان عنوانه ” عاشق من الجليل “. والاستاذ ” حاتم جوعيه ” يرى نفسَهُ عاشقا ليس فقط للجنس الآخر..فالعشقُ عندهُ إلى جانب الجنس الآخرهوعشق الوطن، عشق الإنسان لأخيه الإنسان في الإنسانية، عشق من تبَنَّى القضيَّة الفلسطينيَّة، عشق من
ضَحَّى بجميع الوظائف والمناصب قربانا للحقِّ، عشق مَنْ حملَ صليبَهُ فداءً للحقيقة ممتثلا بقول السيد المسيح: “ماذا ينفعُ الإنسان لو ربحَ العالمَ كلهُ وخسرَ نفسَهُ. وهو قولٌ رائعٌ وموعظة فلسفيَّة لِمَن يُريدُ ان يَتَّعِض !!.
بعد قراءةٍ ممتعةٍ في ديوان هذا العاشق، تجلَّت أمامي شاعريَّةٌ متفجِّرة من تلال المغار الجليليَّة – وشاعرنا يحبُّ هذا الإنتماء إلى الجليل – ولهُ مقدرةٌ كبيرة على الإبداع بشكل ملفتٍ للنظر، هذا إلى جانب الكثير من الصُّورالبلاغيَّة الرائعة والتّشابيه والإستعارات التي صَبغَت الديوان بصبغةِ التجربةِ الفذة وعُمق الفكرة وجزالة الأسلوب وفوق كلّ ذلك الوطنيَّة الصَّادقة مع شيىء كثير من الثقة بالنفس والإعتداد بها إلى درجةِ عبادة الذات وحتى المبالغة في مدح الذات !!..ونحنُ نذكرُ المثل الذي يقول:”مادح نفسهُ مذموم لدى الناس ” !.. إلا أنَّ شاعرَنا يحاورُ في هذا المجال بعض ضعاف النفوس والمغرضين الحاقدين والعملاء وأذناب السلطة الذين خانوا شعبهم.. مِمَّن تجنُّوا عليه وهاجموهُ بسبب ما يكتبُ وبغير حق ! وهو الذي قاسى الأمرين من ملاحقةِ السلطة وعملائِها لهُ، لمواقفهِ الوطنيَّة الشريفة والصادقة فهو خاضَ معركة طويلة في هذا الصَّدد وكرسَ كلَّ طاقاتهِ وشعرهِ وحياتهِ وشبابه للقضيَّة الفلسطينيَّه وللشعب الفلسطيني في الضفَّة والقطاع في انتفاضته الجبَّارة.. ولو أنّ موضوع نضالهِ هذا وعدم رضوخهِ لسياسة السلطةِ مقابل لقمة العيش والوظيفة والمركز العالي لم يُكتب ولم ينشر عنهُ في الصحف ووسائل الإعلام ! وهو يعتقدُ اعتقادًا راسخًا أنهُ لا يستطيعُ أن يبعَ ضميره كالكثيرين الذين باعوا ضمائرَهم، من عرب الداخل، لأجل الوظيفة والمكسب المادي لأنَّ لهُ ضميرا حيًّا ولا يستطيعُ أن يبيع َ قلمهُ وفكرهُ ومواهبَهُ وإبداعاته وَيُوجِّهَ فوَّهَة َ البندقيَّة إلى شباب وأطفال الضفَّة الغربيَّة وقطاع غزَّة لأنهم فلسطينيُّون ولأنهُ هو كذلك فلسطيني وعربي مثلهم.
مواطنُ الجمال في الديوان:
لم أبحث كثيرا كي أجدَ البيت او البيتين لأتحَسَّسَ مواطنَ الجمال فيما يكتبُ شاعرُنا، ذلك لأنَّ الديوان كما ذكرتُ يعجُّ بكلِّ ما هو جميل حتى لو جاءَ على طريقةِ الشعر العمودي الموزون المقفَّى. فلنسمع إليهِ يُحَدِّثُنَا عن شدوِ البلابل وغناء الطيور قائلا:
(” كتبت أغانيها الطيورُ على ثغورِ الياسمين “. وفي مكان آخر يقول:
(” الحُبُّ عمَّدَني إلهً في دروبِ الموتِ حَمَّلني صليبَ الرَّبِّ ففوقَ الجُلجُثَهْ.. فأنا نبيُّ البائسين “.
وشاعرُنا عندما يتكلَّمُ بلسان الذات إنَّما يعني كلَّ إنسان من المعوزين الفقراء والمشرَّدين والبائسين والأطفال المحزونين، وهو يعيدُ للزَّهر أريجَهُ وبهاءَهُ ويهدي الكثيرَ من إبداعِهِ للفلسطيني اللاجىء والمشرَّد ومسلوب الأرض والمصلوب على صليب الكفاح الوطني.وفي هذا الشيىء الكثير من الإعتزاز والروعة. إنَّهُ يحاولُ تجسيدَ الحلمَ الي يُراودُ مخيَّلة آلاف اللاجئين الفلسطينيَّين الذي يحلمون بالوطن وبالعودةِ إلى الوطن المستقل وإلى العَلم الذي لا بُدَّ أن يُرَفرفَ فوزق ربوع الوطن الغالي مهما استبدَّ المحتلُّ وهما بطشَ وتمادى في القتل والهدم والتَّشريدِ والتجويع.
إنَّهُ عندما يتغزَّلُ بمعشوقتِهِ لا ينسى ولو للحظةٍ أنَّهُ عربيٌّ يعتزُّ بعروبتِهِ..عروبته المكافحة المناضلة لا الذليلة المتزلّفة. فلنسمع لمَا يقولهُ في قصيدة شقراء مثلا:
(” شقراءُ يا شمسَ النَّهارْ
يا وردةً تاقتْ إلى شَدْوِ الكَنارْ
يا بسمةً سحريَّةً نامَتْ على شفةِ الصِّغارْ…
وأنا العروبةُ صوتُهَا ونشيدُها المُلتاعُ في دنيا النضال..
شقراءُ يا قيثارتي الأحلى ويا لغةَ الكنارْ….
الضَّادُ في شفتيكِ تسطعُ بالضياءْ… “).
هذا التمسُّك باللغةِ العربيَّة وبمفهوم النضال يتردَّدُ في معظم قصائد الديوان. لذلك إلى جانب الجمال نجدُ الوطنيَّةَ الصادقة والتمسُّكَ بالفكرةِ الثوريَّة للهدايةِ كعمود الدخان الذي صاحبَ بني إسرائيل في تيههم بصحراء سيناء.
عشقُ الذات من عشق الوطن:
ينضَحُ هذا الديوانُ بأبياتٍ وقصائد فيها الكثيرُ من عشق الذات لدرجةٍ أنَّ جميعَ العذارى والغيد الجميلات يتحوَّلنَ إلى جواري ازاء شخص شاعرنا وهو لو أراد بإيماءةٍ واحدة لركضت ملايينُ الجميلات تلهثُ خلفَهُ إلا واحدة وهي التي حَطَّمَت غُرورَهُ عندما التقاها فتحوَّلَ إلى مُتقشِّفٌ وطلَّقَ كلَّ النساء وأصبحَ هو وقلبهُ وفكرهُ الشريدُ ضحايا جمال العيون.
في قصيدة “رفقا بقلبي ” يقول:
(“جميعُ النساء اشتهتني لأنِّي….. جميلٌ بهيٌّ كربِّ البرَايَا
لقد كنتُ رمزَ جنونِ الغرُورِ….. وما زلتُ مَعبود كلَّ الصَّبايا
وَراءَ لوائي تسيرُ العذارى….. وَيخطونَ حيثُ ترُوحُ خطايا
غروري تحطَّمَ يومَ لقاكِ….. وكم كنتُ أختالُ دونَ هدايَهْ
فإنِّي وقلبي وفكري الشَّريدُ….. ضَحايا جمالِ العُيونِ ضَحايَا “)
في مكان آخر صفحة 135 يقولُ:
(” أنا دونجوانُ العصر لكنِّي سئمتُ منَ النساءْ
وتركتُ قي دنيا الهوى مليون معجبةٍ ومعجبةٍ حَيارى باكياتْ “).
فلماذا تركهنَّ باكيات ؟ !.. وهو يُجيبُ عن هذا السؤال بسرعة قائلا:
(” إنِّي وَهبتُ جميعَ طاقاتي وفكري.. قد وهبتُ جميعَ أزهاري وأحلامي وعُمري للوَطنْ //
سيظلّ يخفقُ حُبُّهُ في القلبِ حتى أن يُعانقني الكفنْ // “).
وقد يصلُ بهِ حبُّ الذات إلى الإدِّعاء بأنَّهُ عنقاءُ الزَّمان وإلهُ العنفوان:
(” أنا عنقاءُ الزَّمانِ
وَإلهُ العُنفوانِ
فاشهَديني يا بلادي في سُهوبِ الرَّفض رائِدْ
إنَّ شعري في مدار الشَّمسِ يخطُو
فوقَ هُدْبِ النَّجمِ صاعِدْ
لم أزل رمزَ التَّصَدِّي والتَّحَدِّي… إلخ..
هذا العشقُ للذات سرعان ما يتحوّلُ إلى عشق للوطن والكفاح وللشعب.. فهو قد كرَّسَ نفسَهُ لخدمةِ شعبِهِ كما يقولُ في (صفحة 98):
(” أنا للشَّعبِ وللشَّبِ أنا
لهُ حُبِّي وعطائي وغنائي وبكائي
لهُ شعري..
هُوَ شمسي وَظِلالي
هُوَ إيماظةُ فكري “.
أثَرُ المسيحيَّة في شعرِهِ:
إنَّ شاعرَنا قد درسَ الكتاب المقدس بعهديه القديم والحديد وأصدرَ كتابا سَمَّاهُ: ” دراسات في اللاهوت والفلسفة وعلم النفس ” ركَّزَ فيهِ على ستَّة أنبياء من العهد القديم هم: إبراهيم الخليل، يوسف بن يعقوب، موسى كليم الله، إيليَّا، أليشع وأيوب البار.. ثمّ انتقلَ إلى دراسة الملائكة ومعجزات السيد المسيح وتعاليمه اقواله إلى جانب فكرة الإيمان والإستشفاء النفساني وما إلى ذلك، فقد تركت هذه الدراسات إثرَها البالغ في نفس شاعرنا وصبغت أشعارَهُ بصبغةٍ دينيَّةٍ فلسفيَّة، حتى بات يتعاطف مع دعوة السيد المسيح في الإيمان والخلاص كما يبدو من مقدمتهِ لكتاب الدراسات هذا.
ولو عُدنا إلى ديوانهِ ” عاشق من الجليل” لوَجَدْنَاهُ يحوي الكثير من العبارات والمصطلحات المسيحيَّة بشكل بارز. فهو يستعملُ كلمة صليب في عدَّة مناسبات وكلمة معموديَّة وتسامح، ثمَّ عيد رأس السنة الميلاديَّة، وكلمة الأبديَّة وترديد كلمة الرَّب بسطَ جناحيهِ أو كان الرَّبّ على عرشِهِ كما وردَت على ألسنةِ الرُّسُل في الأناجيل. ثمَّ أنه يهدي كتابَهُ لكلِّ من يرغبُ في معرفةِ كلمة الله ويبحثُ عن الخلاص العجيب. وإلى كلِّ من حَملُوا الصليبَ والآلام في سبيل الهدي والإيمان…طوبى لهم لأنَّ لهم الحياة الأبديَّة في ملكوت الله السرمدي. كل هذه التعابير مأخوذة أساسسا من تعاليم المسيحيَّة، ويبدو انَّ شاعرنا من خلال دراستِهِ كان قد استوعبَها فباتت جزءًا مكمِّلا لمعلوماتِهِ الواسعةِ ومعينا لا ينضبُ من قاموس الشاعر يعودُ إليهِ بين الحين والآخر كمصدر هام للوحي والإلهام والإبداع.
أخيرًا إنّ هذا الديوان يضمُّ في صفحاتِهِ مجموعة كبيرة من القصائد في مختلف المواضيع الإنسانيَّة، الإجتماعيَّة، السياسيَّة، الوطنيَّة، الغزليَّة والفلسفيَّة، جدير بأن يقتنيه كلُّ عاشق للشعر لأنهُ يثري مكتباتنا البيتيَّة والمدرسيَّة والعامَّة ويضيفُ لبنة هامَّة إلى أدبنا المحلِّي.
إنَّنا إذ نحيِّي شاعرَنا على هذا العطاء المُمَيَّز وعلى ثوريَّتِهِ المُبدِعة وفكرهِ الفلسفي العميق لأنَّهُ شاعرُ الحُبّ والجمال والكفاح في آنٍ واحد، لنرجو أن يتحفنا في المستقبل بالشيىء الكثير ممَّا عندهُ فتحيَّاتُنَا القلبيَّة لهُ.
بقلم: الدكتور بطرس دله – كفر ياسيف – الجليل