فصل المقال فيما بين التوبة والإعتزال من إتصال
تاريخ النشر: 09/12/15 | 9:07إن ظاهرة إعتزال الفنانين وتوقف بعضهم فجأة عن الإستمرار في عطائهم الإبداعي تعد ظاهرة عالمية لا تختص بدولة أو مجتمع دون آخر.. هي ظاهرة أيضا قديمة قدم الثقافة والإبداع الإنساني في مختلف تجلياته .
وقد عرفت هذه الظاهرة شكلين من الإعتزال : الأول إعتزال طارئ يقترن بصمت طويل ثم فك إرتباط سلس عن كل أواصر العملية الإبداعية الفنية والتحلل من لبوسها وطقوسها .
أما الإعتزال الثاني فهو إعتزال علني يفاجئنا بالصوت والصورة والتصريح الإعلامي الواعي بأهمية القرار عبر حوار خاص أو من خلال إحتفاء رسمي أو مناسبة عابرة .
الأمر إلى حدود هذا السطور”الجنائزية” يعتبر عاديا ويتكرر في الساحة الفنية من حين لآخر خصوصا في الدول الغربية التي تدور فيها العجلة الفنية ضمن منظومة عقلانية ومؤسسات إنتاج ومدراء أعمال وأجندات فنية سنوية بعيدة عن الإرتجال وفن الصدفة …
لكن إذا ما قاربنا هذه الظاهرة في عالمنا العربي فإن الإعتزال الفني يقترن بغرائبية إنقلابه إن لم نقل بصورته الكاريكاتورية المنمطة التي لا بد أن تدفع بكل مهتم بالمجال الفني الغنائي والسينمائي والإستعراضي على الخصوص إلى التساؤال العميق حول هذه الظاهرة (الموضة) التي أضحت في السنوات الأخيرة تضرب مختلف الأجيال من الفنانين والفنانات وليس الرواد المسنين منهم فحسب أولئك الذين قد يشفع لهم تقدمهم في العمر والإرهاق المعنوي إلى إتخاد هذا القرار الصعب …
وقد نلتمس الأعذار لبعض الفنانين الذين آثروا في لحظة إنقلابهم الفجائية أو بعد سنوات عديدة من التفكير الرصين والإستشارة مع مدراء أعمالهم وحتى مع أقاربهم وأصدقائهم أن يخلعوا عنهم (كوستيم) السهرات الأسود المرصع بنثارات البلور المتلألئة أو الفستان الطاووسي الأحمر المجرور فوق المرمر الوردي الصقيل ، فيلقون بغتة بكل هذا البذخ المظهري في صوان التذكارات إلى جانب الأوسمة والتوشيحات وشهادات التقدير وألبومات المئات من الصور النادرة مع النجوم والمشاهير في بعض دول المعمورة … أقول قد نلتمس لهؤلاء الأعذار ونشفق لحال سقوطهم فجأة في زوبعة طقسهم الجديد المتلبد بغمام التشكيك فيما أبدعوا وأدوا من أغاني وأدوار سينمائية وحسرتهم في آخر لحظة على مازعموا أنهم (إقترفوه) في محراب الإبداع الفني من إنزلاقات أخلاقية جريئة باتت بعد توبتهم تتلفع بقناعة طارئة مشوبة بشعور بالذنب وكأنهم وجدوا أنفسهم فجأة على شفير الدرك الأسفل من جهنم خالدين فيها أبدا .
هذه المواقف الإرتدادية لبعض هؤلاء الفنانين تجعلنا نرتاب من جانبنا وفق عديد من المبررات حول عمق ثقافتهم العامة بل ونحفر في هشاشة مظاهرهم الحداثية المصطنعة وزيف خرجاتهم الفنية التي بصموا بها مساراتهم مما يجعلنا بكل تأكيد نشكك في صدقية هويتهم المهزوزة القائمة في جل الأحوال على جذور فكر غيبي ماورائي كامن في لاوعيهم ، يلاحقه ما يلاحقه من تأنيب للضمير ورهاب قائم على لائحة طويلة من المحرمات وأهوال جمة من صورعذاب القبر والحساب والعقاب في الدار الآخرة على كل ما اقترفوه من أعمال فنية (فواحش) في الدار الفانية مثلما يزعمون …
ومما لاجدال فيه أن ظاهرة التوبة والإعتزال الفني هي قبل كل شيء قرار شخصي حر شئنا هذا أم أبيناه نحن كمتلقين متفانين ومولعين بهذا الفنان أو تلك الفنانة .. والإعتزال أيضا يعبر بشكل ما عن إختيار وقناعة لاتختلف عن ذات القناعة التي ساقت الفنان بإرادة واعية وشروط موضوعية أحيانا أو بضربة حظ في كثير من الأحايين إلى الإنخراط في ماراطون الإبداع الفني بماله وما عليه من ضرائب وتكلفة مالية وإجتماعية ونفسية بل وحتى صحية خطيرة .. .
فليس في نظرنا من الغرابة في شيء أن يخلد الفنان مطربا كان أم ممثلا أو غير هذا إلى راحة التقاعد الكلي وينصرف إلى حياته الخاصة ليستمتع بدفئ أسرته ــ إن كانت لديه أسرة ــ إلى أصدقائه وبساطة يومياته ليعيشها كما يعيشها عامة الناس لاكما تفرضها عليه بروطوكولات الشهرة التي تدفع الكثير من الفنانين المشهورين للتنكر خلف نظارات سوداء عريضة وباروكات طويلة أو الهجرة إلى بلدان في الشرق العربي أو أمريكا وكندا درءا لمضايقات المعجبين بهم ومشاكساتهم وهروبا من نيران صديقة كإشاعات زملائهم أعداء النجاح الحقودين..
لكن الغرابة كل الغرابة في هذه التوبة (الموضة) الجديدة التي تنامت ظاهرتها في الآونة الأخيرة تجعلنا كنقاد فن ومتتبعين نتساءل إن كان الحقل الفني هو أيضا مستهدف من طرف هذا المد السلفي المتصاعد يوما بعد يوم خصوصا بعد هجمات الحادي عشر من أيلول الأسود والذي يجعل من أولويات أولويات معاركه نسف قيم الخلق والإبداع الإنساني الحداثي أكان غناءا أو رقصا أو سينما أو نحتا وكل الفنون التي يبغضها الدين الإسلامي باعتبارها محاكاة للخالق عزوجل …
ثم نتساءل كذلك كيف يستطيع هذا الفكر الغيبي أن يستحوذ على أذهان بعض الفنانات والفنانين الشباب منهم بالخصوص الذين يتوقفون في منتصف الطريق وهم لم يعطوا بعد الساحة الفنية بالقدر الذي يجعلهم يتعبون قبل الأوان ويلقون بأنفسهم في صقيع الإعتزال ـــ المتنكر في قناع التوبة ـــ مثل كثير من الشيوخ الذين قد يكون تقدمهم في السن وشعورهم بدنو نهاية العمر مبررا معقولا يشفع لهم للبحث فيما تبقى من رصيد السنين عن نوع من المصالحة مع الروح المنسية في متاهات الفن الساقط والتمتع براحة شاملة ممهورة بأجواء تأملية في الذات والوجود وفيما تبقى من الحياة …
ومما لاشك فيه أن جل هؤلاء الفنانين المعتزلين (التوابين والمتطهرين من ذنوب الفن !) قد راكموا ثروة مادية مغرية وأنشأوا بفضل إنتاجاتهم الفنية مؤسسات تجارية وصاروا رجال أعمال يرتعون في حسابات بنكية مذهلة لم يجرؤ أحدا منهم لا في الشرق ولا في الغرب العربي على التبرؤ منها باعتبارها ثروة تراكمت من أعمال يبغضها الدين الإسلامي بل مازالت ماكينة ثروتهم تدور في الحركية المالية البورصوية وتستثمرها المؤسسات المصرفية في مشاريعها المختلفة التي ينعتها جميع السلفيين بكونها إقتصادا ربويا فاسدا يحرمه الإسلام .
غالبا ما تبدأ قصة التوبة عند هؤلاء الفنانين المنقلبين على حياتهم الفنية بالتمرد أولا على اللباس ومظاهر الهندمة العصرية المنعوتة بالكفر .. وكأن طريق التوبة هاته لن تقبل عند الله عز وجل عدا بالتلفع في الحجاب والنظارات السوداء العريضة وعند الفنانين الرجال بارتداء الدراعة الطويلة البيضاء وإطلاق اللحية وقص الشارب عملا بقول الرسول ص (قصوا الشارب واعفوا عن اللحي) كما أن النبرة الصوتية عندهم هي أيضا تصطبغ بخفوت وحشرجة تشي بإحساس عارم بالحسرة والندم على (إقتراف) كل ريبيرتوار الماضي الفني المتألق حتى أن بعضهم ما انفك في كل مناسبة إعتراف أو حلقة للذكر والتصوف يذرف الدموع من شدة تأثره واسترجاعه لواقعة رؤيته للرسول صلى الله عليه وسلم وهو يحدثه في المنام كما يزعم وكما زعم الكثيرون من قبله وكما سيزعم آخرون من بعده حتى يعطوا لتوبتهم واعتزالهم الفني شرعية القداسة …
ولعل أشهر قصة توبة في المغرب حدثت في أوائل الثمانينات من القرن الماضي كانت مع الفنان والإعلامي المتألق ذلك الشاب الوسيم الراحل سعيد الزياني الذي قضى نحبه رحمه الله في حادثة سير على مشارف مدينة أبوظبي بعدما كان عائدا من السعودية يوم الخميس 10 أكتوبر2009، الراحل سعيد الزياني الذي حكى في أحد لقاءاته الوعظية كيف هجر من قمة الشهرة الفنية والإعلامية التي حققها في المغرب إلى طريق التوبة النصوحة واختيار سبيل الهداية والوعظ والإنتصار للفكر الوهابي السلفي …
وفي جميع الأحوال فإن جل الأسماء الفنية التائبة تلتقي في تجاربها هاته في بعض التقاطعات الحياتية نذكر من بينها:
ـــ تواضعها الثقافي والمعرفي والعلمي واقتصار ثقافتها السطحية العامة فقط على مطالعة المجلات والصفحات الفنية ومواكبة حركية الفضاء الفني وما يمور به من أحداث وتقلبات وتواطؤات بين الفنانين وما يعيشه الحراك الفني العربي من ميوعة وابتذال وما يندس من تحت خشباته من ألغام وكمائن بين الفنانين فيما بينهم ..إلخ
ـــ تشبع لاوعي هذه الأسماء بما يمكن أن نسميه بالثقافة السلفية (النائمة) على غرار ما يسمى ب (الخلايا النائمة ). تلك الثقافة الدينية الرابضة في كمون نفسي يتربص بهم من حين لآخر في انتظار اللحظة المواتية (للتفجير) الرمزي باعتبار هذه الثقافة (النائمة) هي الهوية الحقيقية المتسترة خلف الهوية الفنية (المصطنعة) .
ـــ إرتقاؤ بعضهم إلى قمة الشهرة بسرعة وفي وقت قصيرة مما يعجل أيضا بسقوطهم من هذه القمة إلى حضيض (إختفائهم القسري) بسرعة وفي وقت قصير ينتهي بالخروج العلني بقناع التوبة بهدف تزييف الفشل الفني الذي وقعوا فيه .
ـــ إحساسها العارم بالمعانات اليومية من أجل الحفاظ على التوهج والنجومية الدائمة مهما كانت التكلفة النفسية والصحية والمجتمعية .
ـــ جميع هؤلاء الفنانين أدوا فريضة الحج سواء قبل الإعتزال أو بعده باعتبار الحج ركنا أساسيا من أركان الإسلام مما يجعلهم يتأثرون بالأجواء الروحانية والشعائر الدينية هناك في مكة المكرمة التي توقظ في لاشعورهم موروثا عقائديا يدفعهم إلى وقفة تأمل وتدبر في جدوى الحياة بشكل عام والحياة الفنية بشكل خاص والتفكير في الحياة الأبدية الخالدة ما بعد الموت .
ـــ عديد من هؤلاء الفنانين يزعمون أنهم أقدموا على التوبة بعد تعرضهم لواقعة أوتجربة في حياتهم الشخصية قد تكون رؤية في المنام أو تأتي عقب نجاتهم من موت محقق في حادث طارئ أو مرور بعضهم من تجربة مرض مزمن وعضال أوشكوا أن يفارقوا بسببه الحياة ..إلخ
ـــ جل هؤلاء الفنانين يستفتون أحد الشيوخ السلفيين المشهورين في بلدهم أوفي الشرق العربي حول شروط التوبة النصوحة وحول الشروط الدينية الكفيلة بتطهرهم من ذنوب ومعاصي الماضي على ما إقترفوه في نظرهم من آثام (فنية) لم تشجع المجتمع سوى على قيم الرذيلة والفاحشة والإنحلال الأخلاقي ..إلخ
ـــ عديد من هؤلاء الفنانين وخصوصا المطربات منهم من يعتزلن الغناء بسبب إرغامهن من طرف شركات الإنتاج على إنجاز كليبات إستعراضية جريئة .. حميمية وداعرة موجهة بالخصوص إلى شريحة الشباب بهدف دغدغة وكهربة أحاسيسهم وجوارحهم من أجل تحفيزهم على إقتنائها أو تحميلها أو إختيارها كرنات هاتفية أو تقاسمها مع مجموعات صداقاتهم على شبكات التواصل الإجتماعي الفيسبوك ويوتوب …
ـــ جل المطربين المعتزلين يتعاقدون بعد توبتهم مع شركات إنتاج أغاني وأناشيد دينية تلقى رواجا منقطع النظير في الأوساط الشعبية المحافظة مثلها في ذلك مثل الكتب السلفية وكتب طب الأعشاب التي تعرض في معارض الكتاب السنوية في مختلف الدول العربية .
ـــ تمييع المجال الفني الغنائي وإغراقه في مستنقع العري المجاني والكلمات البذيئة والسوقية وتحرش كاميرات المخرجين بمفاتن الجسد الأنثوي وتقديمه كبضاعة إعلامية للإستهلاك الشبقي من خلال لقطات ساخنة يعد هذا أيضا من بين الأسباب التي تدفع بالفنانات إلى التوبة أوالإعتزال بشكل نهائي .
ويبقى السؤال المحوري في مقاربة هذه الظاهرة الموضة الجديدة في المجال الفني العربي هو : لماذا يقترن الإعتزال عند الفنانين العرب كما قلنا آنفا بهذا الشعور بالذنب وبتأنيب الضمير والحسرة على ما (اقترفوه) في الحياة من أعمال فنية لا تختلف الإنسانية عامة في كونها أسهمت من دون شك في إسعاد المجتمعات ودونت لتحولاتها الثقافية والأنتربولوجية والإجتماعية … كما مكنت عديدا من مشافى الصحة النفسية من علاج بعض المرضى البسيكوباتيين بعد سماعهم لحصص من الموسيقى الهادفة النبيلة. ولنتساءل أيضا بكل موضوعية وعقلانية ، لماذا لا يقترن إعتزال الفنانين في باقي دول العالم بحسرتهم وندمهم هم أيضا على ما أنتجوه من فن رفيع وينقطعون إلى فضاءات التعبد الخاصة بهم كالأديرة والكنائس وغيرهما طلبا للصفح والغفران …
فلولا الموسيقار محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي والسيد مكاوي وأم كلثوم وعبدالحليم حافظ ولولا أفلام الرعيل الأول من الممثلين الرواد كفاتن حمامة وعمر الشريف وليلى مراد ورشدي أباظة لما صارت مصر أم الدنيا ولولا الأغاني الخالدات للموسيقار المغربي عبد السلام عامر وروائع الموسيقار عبد الوهاب الدكالي ولولا روائع طرب الملحون التراثي المغربي وقصائده الغزلية والإجتماعية الساحرة (فاطمة ودبليج زهيرو والحراز .. إلخ ) ولولا الموشحات الأندلسية والأهجوزات الأمازيغية المتميزة التي تغنت بجمال المرأة الأطلسية ولولا الطقطوقة الجبلية وأدوار العيطة المرساوية وغيرها من الأعمال الفنية التراثية لما عرفنا كنه العلاقات الحميمية للمجتمع المغربي ، تلك الأعمال التي مازلنا وستبقى الأجيال القادمة ترددها باعتبارها جزءا من هويتنا وذاكرتنا ورأسمالنا الرمزي الذي نفخر به بين الأمم والشعوب.
بقلم: عبده حقي