الكليانيّة اللاهوتيّة
تاريخ النشر: 14/08/13 | 4:22 بدءا، ينبغي الكف عن القول بوجود إمكانيّة حفر في الجذور التاريخيّة لمسألة الدهرنة sécularisation la في ماضينا العربي-الإسلامي. لذلك، لا يمكن أن يكون هذا المسعى الذي نروم الخوض فيه إلا جديدا كل الجدة
من حيث المبدأ، لست ضد أي تأمل يروم إلى تقعيد شكل مجتمع، يتأسس على المساواة التامة لدى جميع المواطنين، الذين لا يتقاسمون معا نفس القناعات الدينيّة. بل اعتقد، من جهة أخرى، أن هناك بلدانا ستتقلص فيها مستقبلا أحاديّة المذاهب الطائفيّة. بمعنى، أننا نتجه تاريخيا صوب تعدديّة كونيّة، التي تدعونا إلى تعميق التفكير فيها مع وجوب تعلم كيفيّة تدبيرها. شخصيا، لست من أولئك الذين يعادون العلمانيّة، شريطة ألا تكون إيديولوجيّة مضادة للدين. فلكي تكون العلمانيّة مقبولة في مجتمعاتنا، ينبغي بذل جهد فكري لشرح معناها لدى عامة الناس، وإزالة فتيل التمثل القدحي إزاء هذا المفهوم، تمثلا يرى فيه وسيلة ماكرة لاستئصال كل ما هو إسلامي لدى المسلمين.
للأسف، نجد أحيانا حالات تاريخيّة من هذا القبيل، كحالة التجربة السوفياتيّة الستالينيّة. ومن ثمة، يتوجب علينا أن نخوض كلاما عسيرا مع الناس لإقناعها بمدى أهميّة إمكان العيش المشترك، كل واحد منا حسب أخلاقيته الخاصة مع الأخذ في الحسبان بوجود أخلاق مشتركة متضمنة في هذه المفاهيم كالمساواة، الأخوة، الخير والشر، هذا مع إمكانيّة أن يجسد كل واحد منا تصوراته وفق طريقته الخاصة.
هكذا، وضمن هذا المنحى، سأسمح لنفسي باستعارة عبارة المفكر محمد إقبال التاليّة: “إعادة بناء الفكر الإسلامي”، والذي أعتبره، بالمناسبة، فيلسوفا عظيما وشاعرا إنسانيا ورؤيويا. حتى وإن لم يسعفه النجاح على إرساء حركة يناط لها إعادة بناء فكرنا المعاصر منذ أمد طويل. وعليه، ألا يمكن العودة، والحالة هذه، إلى اللحظة التاريخيّة التي عرفت زواجا سعيدا مع الإسلام، الذي نجم عنه ولادة علم الكلام: علم أيقظ تأملات حول الأخلاق بغية إعادة بناء فكرنا عن طريق السعي إلى إيجاد مرة أخرى حركة فكريّة بأدوات حديثة، وفي ترابط تام مع الفكر المعاصر في أرقى صوره الحيّة والأكثر إثارة للعقل؟ فإنجاز مثل هذا العمل الفكري، لا يكفي جهد شخص واحد مهما علت قدراته. لهذا السبب، كنت أشد إصرارا وإلحاحا على ضرورة خلق مركز دراسات مفتوح وحر.
لقد طلب مني، في الآونة الأخيرة، إلقاء محاضرة في جامعة الزيتونة عنونته ب“دراسات بين الأديان”. فلا يعقل أن نكون مفكرين مسلمين دون دراية بالديانة اليهوديّة، التي توجد في قلب الإسلام. فالنبي موسى ذكر مئات المرات في النصوص القرآنيّة. ونفس الشيء بالنسبة إلى النبي عيسى؛ فقد تم ذكره مرات عدة وكذلك الأمر بباقي الأنبياء والرسل. ينبغي على الأقل معرفة سيرتهم
كما يتوجب كذلك توسيع دراساتنا للمذاهب الإحيائيّة وللديانات الآسيويّة، التي تضم نصف الجنس البشري. فوجود مثل هذا المركز للدراسات، سيسمح لنا بإحداث زاوج لزمننا على المستوى الثقافي. لكن ما يقع هو العكس، فنحن، واحسرتاه، نعيش حياة كائنات بشريّة منطوية على أنفسها. فمثلا، نجد كما هائلا من المخطوطات في مكتبات أوربيّة، بينما لا نعثر، في المقابل، على أي شيء من هذا القبيل في بلدان إسلاميّة. فطالما هناك غياب انتصار للآخر وعدم الاهتمام به، فلن يكتب الوجود لأي فكر حر في مجتمعاتنا الإسلاميّة.
فإذا ما استعنا بكتابات محمد الغزالي كأنموذج تطبيقي، فنحن واجدون فيها بعض أفكار إيجابيّة كقوله: “عوض بناء المساجد، فلننشئ المصانع”. لكن تبقى، مع ذلك، جموع أفكاره محافظة، وناسخة طبق الأصل لإسلام قرون الوسطى. ويتجلى ذلك في إصداره فتوى إثر اغتيال فرج فودة، تضمنت فيها أفكارا في منتهى العبث والاستفزاز والكره. فمن غرائب الأمور، أن تجد إنسانا ما يعتبر نفسه عالما“alem”، يسمح بشرعنة الاغتيال. فأن تشرعن الاغتيال لشخص واحد، معناه أنك تشرعن لهم على القيام بكل شيء. فما قام به يعد، في نظري، أمرا فضيعا بالمقارنة مع فتوى الخميني التي جاء فيها بضرورة إهدار دم الروائي سلمان رشدي، التي لم يترتب عنها، لحسن الحظ، موت الرجل. لكن ما قام به الغزالي، هو سعيه إلى تبرير واقعة الاغتيال.
فالإسلام حاليا يسمح بالقتل بجريرة في الرأي. وهذا أمر غير مقبول نهائيا. لننظر في مؤلف الغزالي: “حقوق الإنسان في الإسلام”. ففيه، يشرعن لقانون حول الردة؛ قانون يرخص قتل كل شخص مرتد عن الإسلام، على اعتبار الردة، بالنسبة إليه خيانة عظمى. فالخروج عن الأمة umma، التي ينظر إليها كدولة، هو إذن جريمة خيانة عظمى. ذلك أنه لا يمكن أن نتخيل موقفا أكثر هلاكا للعقل والمجتمع معا من هذا الموقف. للأسف، لقد أبان علماءles ulamas في هذه المسألة بالذات، إلى حدود الآن، عن نزعة محافظة مدهشة. فمع توافق أقرب إلى الإجماع، أيدوا فكرة المرتد، الآتية من متاحف الماضي العتيق. إن فكرة عقاب المرتد، ينبغي رفضها نهائيا من داخل المرجعيّة الإسلاميّة ذاتها. بل الأنكى من ذلك، عمدت جامعة الأزهر إلى إضفاء المشروعيّة المؤسساتيّة على هذه الفتوى.
فما يلاحظ إذن، في هذا النوع من المواقف المحافظة المضادة لصيرورة التاريخ، هي التي سيخوض فيها رجال الفكر التنويري معركتها مستقبلا. ليكن هذا المثال حجة توضيحيّة، لقد أصدر كاتب باكستاني مؤلفا حول المرتد في الإسلام، كتابا يندر العثور عليه بسب سحبه من جل المكتبات. تسعى أطروحته إلى بيان على أن فكرة الردة لا يوجد لها أي سند في النص القرآني. كما سبق لي فعلا أن كتبت في هذا الموضوع، وأثبت عدم وجود كلمة واحدة في القران تبرر قتل المرتد. ما عدا وجود حديث مشكوك في صحته. ومن هنا، فما ينبغي للمثقفين القيام به الآن، هو أن تتعبأ للجهر بـ“لا” لعقوبة المرتد. فمادام يقطن هذا القانون ذاكرة الناس الجماعيّة، وما لم يتجاسر العلماء أنفسهم على معارضته، فستمتلك الأنظمة الكليانيّة أداة في غاية الفعاليّة من أجل إقصاء معارضيهم. ففي ضوء قاعدة جريمة المرتد، شرعن الإسلام السياسي في الجزائر جرائمهم.
ها نحن إذن أصبحنا أمام ظاهرة كليانيّة لاهوتيّة في مجتمعات الإسلام. هذا بالإضافة إلى توظيفهم الدائم العقاب بطريقة انتقائيّة. لقد صنع اللاهوتيون السلاح واستعملته السلطة السياسيّة من أجل تفرقة الناس بعضهم البعض. وهذا ما جعلني أخص صفحات طوال، تعلقت بتأملاتي حول قضايا الإسلام ومسألة التعدديّة. تلك كانت إذن الأسباب التي دفعتني إلى معارضة الغزالي.
هكذا يمكن الخلوص، على أن كل إنسان يتوجب عليه القبول بفكرة التعدد، أي أن تكون له القدرة على التعايش السلمي مع الغير وفق قاعدة الحق في الاختلاف. لأن في حال تحقق هذا المسعى الفكري، سنكون، في أوسع تقدير، قد قمنا بخطوة كبرى إلى الأمام. ولي أمل، وإن كنا دائمي الانتظار، أن أرى يوما ما مسلمين وهم يضعون ورقة التصويت في صندوق الاقتراع وفق قناعاتهم الشخصيّة، بمعنى أن يختاروا، وفق منظورهم، رئيسا أو نائبا برلمانيا، الذي سيمثلهم أحسن تمثيل، وكذلك أن يوفر لهم ضمانات لمجتمعهم المسلم وغير المسلم.
ترجمة حسن بيقي