مجزرة "الكيماوي" وإنتحار الضمير العالمي
تاريخ النشر: 23/08/13 | 23:35لقد كانت صبيحة يوم الأربعاء الماضي نقطة ذروة جديدة في أحداث الثورات العربية، وفي سوريا على وجه الخصوص، حيث إستطاع العرب أن يحطموا رقماً قياسياً جديداً في الوحشية، الهمجية، اللانسانية، السادية، الإجرام والدموية وذلك عندما إستفاق العالم مذهولاً على وقع الصور والأخبار القادمة من غوطة دمشق تحمل في طياتها أحداث مجزرة مروعة راح ضحيتها أكثر من 1300 إنسان سوري من بينهم عدد كبير جداً من الأطفال الذين ماتوا إختناقاً بغاز السارين الكيميائي بالإضافة للرجال والنساء الذين لاقوا نفس المصير. وبعد مشاهدتي للصور المروعة للجثث المكدسة في الممرات وغرف الموتى التي تناقلتها وسائل الإعلام ومشاهد لأطفال، رجال ونساء يحتضرون تحت تأثير الغازات الكيميائية التي تعرضوا لها دون أن يكون لمن سولت له نفسه القيام بهذا العمل ذرة من رحمة أو وازع من ضمير، وعندها بدأت أدرك كم نحن (العرب) دمويون ومجرمون بحق أنفسنا، وكم كان العالم كله محقاً عندما يحذر ويطالب بعدم السماح لهذه الدول من الحصول على هذه الأسلحة الفتاكة، ربما لأنه (العالم) كان يعرف لأي مستوى من الإجرام يمكن أن نصل إليه، ولأن العالم كان يعلم (أكثر منا) بأن معاييرنا الأخلاقية والإنسانية هي أدنى بكثير من المعدل المطلوب حتى يتم إئتماننا على أروحنا أنفسنا أولاً وقبل أن يكون بذلك حماية لباقي سكان العالم من الجنون الذي قد يجتاح بعض الأنظمة العربية أو بعض العرب. وفي ظل هذه الجريمة النكراء التي تدل على خسة ونذالة من قام بها، لا يسعني إلا أن أقول أن صبيحة يوم الأربعاء سيظل وصمة عار في تاريخنا العربي (لأننا نحن نتحمل مسؤوليته بالدرجة الأولى) وصمة عار في التاريخ الإنساني الذي يقف متفرجاً على عمليات القتل بشقيه (الممنهج والعشوائي) دون أن يحرك ساكناً تحت تبريرات واهية.
على ضوء الأرواح التي اُزهقت في غوطة دمشق يوم الأربعاء، وعلى ضوء الألم والصدمة التي تنتابنا جميعاً من جراء ما حدث أقول بأن هذه الجريمة هي أكبر من أن تكون بهذا الوضوح وأكبر من أن تُحل ملابساتها بسهولة، لأن هذه الجريمة مُركبة وحتماً تحتاج إلى لجنة تحقيق دولية متخصصة لتكشف للعالم حقيقة ما جرى في هذا اليوم المشؤوم، لأن الحُكم على من قام بهذا العمل سيكون مصيرياً وعلى ضوء ما ستصل إليه هذه اللجنة (التي لم يتم تكليفها رسمياً بعد) من نتائج وحقائق دامغة وسيترتب على ذلك مواقف يجب أن تكون حاسمة في محاسبة في محاسبة الطرف الذي إرتكب هذه المجزرة.
قد يقول البعض بأنه لا حاجة للجنة تحقيق دولية في هذه المجزرة، ولكني أقول بلى، لأن وجود لجنة كهذه سيجعل من توصياتها ملزمة للمجتمع الدولي الذي لن يستطيع الإستمرار بالمراوغة بعد أن كان قد صرح رئيس أكبر دولة بالعالم – الرئيس اُباما – بأن إستخدام السلاح الكيميائي هو خط أحمر. من جهة اُخرى هناك حاجة ماسة للجنة تحقيق دولية لأننا (على ضوء ما نشاهده في العالم العربي) فقدنا الثقة بجميع الأطراف، ولا يمكننا تبني أي من الروايات التي تطلقها الأطراف المتنازعة لوجود علامات إستفهام كبيرة حول مدى مصداقيتها ونظافة أيديها، وقد عودتنا الثورات العربية على المفاجآت دائماً، والحقيقة غالباً ما تكون أكثر تعقيداً مما تبدو عليه للوهلة الأولى، ولذا، أنا لا أرغب في تبني رواية معينة ثم يتبين لي بعد مدة أنني كنت في صف من قتل هؤلاء الأبرياء الذين لا أستبعد إمكانية قتلهم على يد أي من الأطراف، فقد شاهدنا (ولا زلنا) الكثير من الفظائع التي يرتكبونها جميعاً من حين لآخر. ولقد تلقينا الكثير من الصدمات تتلوها الصدمات خلال ما يسمى بـ "الربيع العربي" ولم نعد نستهجن أي من الأعمال من جميع الأطراف، سواء كان ذلك النظام السوري أو فصائل ومجموعات المعارضة المسلحة، فقد أثبتت جميع الأطراف المتنازعة في الساحة العربية (في سوريا وفي غيرها) على أنها بعيدة عن الصدق والمصداقية أو أي شعارات رنانة اخرى.
إن ملابسات الهجوم الكيميائي الذي وقع في غوطة دمشق أبعد ما يكون عن الوضوح لأنه مرشح لأن يكون هجوم إجرامي جديد من طرف نظام إستبدادي ظالم ومظلم تعودنا أن نتوقع منه التجاوز المستمر والقفز عن كل القيم الأخلاقية والإنسانية في سبيل الحفاظ على كرسيه المتأرجح منذ أكثر من سنتين. غير أن هناك ما يجعلني غير مطمئناً بشكل تام لهذه الإمكانية لأن كون هذا الهجوم جاء عشية وصول لجنة دولية للتحقيق في هجوم كيميائي سابق يجعل من إمكانية قيام النظام السوري بهذه الجريمة بمثابة تطوع لإدانة نفسه أو إعتراف بإرادة ذاتية يصل إلى حد الغباء سيخدم كل من كان يدعو للتدخل الدولي من أجل إسقاط النظام السوري بإستخدام القوة.
ومن جهة اخرى لا يمكن إستبعاد إمكانية أن تكون إحدى مجموعات المعارضة المسلحة هي من قامت بشن الهجوم الكيميائي عن سابق إصرار وترصد بدافع الخُبث والمكر، ولا سيما أن بعض المجموعات المعارضة كانت قد إستولت بالسابق على مخازن تابعة للنظام السوري تحتوي على كميات كبيرة من هذه المواد والأسلحة، وقد شاهدنا موت العديد من مقاتلي المعارضة الذين ماتوا جراء نقلهم لهذه المواد بصورة خاطئة أو أثناء التعامل معها، فليس هناك أدنى شك بإمتلاك هذه المجموعات للأسلحة الكيميائية، ويحتمل أن وجود لجنة تحقيق دولية موجودة اليوم في سوريا للتحقيق في حادثة هجوم كيميائي سابق كان قد سقط خلاله عدد كبير من الضحايا المدنيين المواليين للنظام والذي تُرجح التحقيقات بأن من قام به هي إحدى مجموعات المعارضة المسلحة، في حين أن قوات المعارضة تدعي أن من قام بذلك الهجوم هي قوات النظام التي أخطأت بالتصويب فأصابت مناطق موالية لها، وبين هذا وذاك يظل للمعارضة مصلحة في شن الهجوم الأخير صبيحة يوم الأربعاء على غوطة دمشق (التي يسكنها مواطنين موالين لفصائل المعارضة) وذلك بهدف بلبلة عمل لجنة التحقيق الدولية وفي محاولة للصق التهمة بالنظام السوري حتى ولو كان الثمن قتل للأبرياء من أطفال، رجال ونساء عُزل، هو أمر لا يمكن إستبعاده في ظل إنعدام أي وازع ديني أو أخلاقي ممن قد يظنون أن جميع الوسائل مسموحة بهدف تحقيق الغاية.
وفي هذه الحالة يجب أن تعلم جميع الأطراف بأنهم يتحملون المسؤولية عن حياة الشعب السوري، وحياة المواطنين العزل (من أطفال، رجال ونساء) على وجه الخصوص، وأن العالم بأسره يراقب ما يحدث في سوريا، وأن أي رواية سيقدمها أي من الاطراف ستظل محل شك حتى تثبت الحقيقة التي تعمل جميع الأطراف على طمسها وتغييبها، فلا السيد بشار ممانعاً ومقاوماً ولا المجموعات المسلحة تخلو من المنفلتين والمجرمين وعديمي الضمير، وقد تعلمنا ذلك على لحم ودماء السوريين. لذا، يبقى الطرفين تحت طائلة الإتهام، وإذا ثبت أن المعارضة المسلحة هي التي قامت بهذا الهجوم فستكون هذه ذروة اخرى ورقم قياسي جديد في مدى الإجرام الذي بلغه الجميع، لأن إستهداف المعارضة لمواطنين أبرياء من أنصارها بهدف تصويره على أنه هجوم معادي من طرف النظام سيكون أكثر إجراماً فيما لو ثبت أن النظام نفسه هو الذي قام بهذا الهجوم.
وأنا حالياً أميل لكلا الإحتمالين بنفس الدرجة، ولا أرجح ولا أستبعد أي من الإحتمالين حتى تقوم لجنة تحقيق دولية مختصة بإظهار الحقيقة، وعندها على الطرف الذي قام بهذا الهجوم أن يعلم بأنه سيواجه على جميع الأصعدة وسيتحمل جميع ما يترتب من مسؤولية على شن هجوم من هذا النوع والتغطية عليه، ونطالب العالم كله ببذل كل الجهود في سبيل إظهار الحقيقة وعدم ترك المجرم أي كان بلا عقاب، فنحن لا يمكن أن ننسى مشاهد الأطفال التي كانت تحتضر وتستجدي المساعدة أمام أعين الكاميرات ولم تجد من يسعفها أو من يقدم لها المساعدة والدواء، فإن كنا قد عجزنا عن تقديم أي مساعدة لهؤلاء الضحايا فلا أقل من المطالبة بتحقيق العدالة التي تُنصف هؤلاء (حتى ولو بعد موتهم) إذا كان لا يزال فينا وفي ضمير العالم ذرة من إنسانية أو رحمة، وقبل أن نُصدر شهادة وفاة بظروف مأساوية (إنتحار) للضمير العالمي.