غياب الرؤية الواضحة…مجهودات الإصلاح وتكاملها
تاريخ النشر: 07/04/16 | 20:53إن السياسة الاقتصادية لا تعمل في فراغ. إن البيئة البيروقراطية المسيطرة على مقاليد تنفيذ سياسات الإصلاح في مصر تلعب دورا حيويا في إنفاذ تلك السياسات أو عرقلتها، وليس ذلك إلا لما تعتنقه من أفكار. فحينما يكون الجهاز الإداري مسئولا عن مواصلة وتطبيق الإصلاحات المنشودة، يظل بيده صلاحية الإسراع بتلك الإصلاحات أو عرقلتها. وبالتطبيق على حالة مصر، فقد بذل الجهاز الإداري جميع جهوده للإبطاء من سرعة عملية الإصلاح. فحيث كان لكبار المسئولين في الجهاز البيروقراطي مصالحهم الخاصة التي قد تتعارض مع أهداف برنامج الإصلاح الاقتصادي والتكييف الهيكلي ويكون من شأنها حماية مواقعهم، فقد حاربوا من أجل عدم تطبيق سياسات الإصلاح، أو حتى لتأخيرها، على نحو ما بسطه دينيس سوليفان في بحثه عن ” الاقتصاد السياسي للإصلاح في مصر “.
أن التنمية المستدامة هي التي تصيغ اليوم الجزء الأكبر من السياسة البيئية المعاصرة، وقد كان للعمومية التي اتصف بها المفهوم دورًا في جعله شعارًا شائعًا وبراقًا مما جعل كل الحكومات تقريبًا تتبنى التنمية المستدامة كأجندة سياسية حتى لو عكست تلك الأجندات التزامات سياسية مختلفة جدًا تجاه الاستدامة، حيث تم استخدام المبدأ لدعم وجهات نظر متناقضة كليًا حيال قضايا بيئية مثل التغير المناخي والتدهور البيئي اعتمادًا على زاوية التفسير، فالاستدامة يمكن أن تعني أشياء مختلفة، بل متناقضة أحيانًا، للاقتصاديين، وأنصار البيئة، والمحامين، والفلاسفة. ولذا يبدو أن التوافق بين وجهات النظر تلك بعيد المنال.
كذلك وبالنظر إلى أن إنجاز التنمية المستدامة يتطلب أمرًا من اثنين، إما تقليص حجم طلب المجتمع على موارد الأرض و/أو زيادة حجم الموارد حتى يمكن على الأقل تجسير الفجوة بين العرض والطلب إلى حد ما، فإن هذه العملية الهادفة إلى التوحيد التدريجي للمطلوب من الموارد والمعروض منها – الجوانب المتجددة وغير المتجددة من الحياة الإنسانية – هي التي تحدد ما المقصود بعملية التنمية المستدامة. ولكن كيف يمكن الدمج بين المطالب والموارد؟
إن هذا السؤال أو على وجه التحديد الإجابات على هذا السؤال هي التي تنتج معاني وتعريفات متنوعة ومتنافسة للتنمية المستدامة، وذلك لأن مسألة كيفية دمج المطالب والموارد يمكن أن يجاب عليها بعدة وسائل مختلفة، وذلك تبعًا لاختلاف رؤى أطياف الفكر البيئي حيث هناك من جهة كتَّاب يحاولون تعديل جانب الموارد من العلاقة بينما يقف في الجهة الأخرى كتَّاب يركزون على تغيير جانب الطلب.
ولذلك فبرغم الالتزام الدولي تجاه التنمية المستدامة وبرغم أنها قد تبدو للوهلة الأولى واضحة إلا أنها قد عرفت وفهمت وطبقت بطرق مختلفة جدًا، مما تسبب في درجة عالية من الغموض حول معنى المفهوم الذي يعتبر من المفاهيم الصعبة، والمراوغة، والمخادعة. ويشار في هذا السياق إلى أن (Fowke & Prasad 1996: 61-6) قد أوردا أكثر من ثمانين تعريفًا مختلفًا وفي الغالب متنافسًا وأحيانًا متناقضًا للمفهوم. وتكمن مشكلة مفهوم التنمية المستدامة في أنه يتأثر بعلاقات القوة بين الدول وداخلها، وهذه الحقيقة تتطلب مراجعة نقدية للمفهوم. فمن الواضح أن علاقات القوة هي التي تصيغ المعاني واللغة التي يستخدمها الناس. كما أنهم لم يقوموا باتخاذ القرارات الهامة خوفا من تحمل مسئوليتها.ليست الفلسفة الاقتصادية التي يجب إتباعها مجرد ميل قلبي، وإنما يجب أن تكون سياسات مدروسة قائمة على أسس علمية سليمة، بحيث تحقق صالح الوطن والمواطنين. كفانا شعارات جوفاء لم نجن منها إلا الهزائم والإخفاقات، ودعونا نعمل بمنهج علمي رصين يتحقق من خلاله صالح الجميع. لا ندّعي أبدا أن سياسات الإصلاح لم ينتج عنها بعض الأخطاء، ولكن لم تكن سياسات الحقبة الاشتراكية هي السياسات المثالية التي حققت الرخاء والثراء الفاحش لأفراد الشعب.
لم نجنِ من أفكار تلك الحقبة إلا إرثا من المثالب التي لا تستطيع البلد علاجها حتى الآن. ألم يكن نظام الدعم القائم حاليا بمساوئه الظاهرة إلا نتيجة لسياسات الستينات، والذي أصبح بمثابة غول اقتصادي لا يفيد الفقراء بل يخدم الأغنياء بتسربه إليهم، ويخشى جميع المسئولين الاقتراب منه لما لذلك من عواقب وخيمة يمكن أن تؤثر على استقرار البلاد؟! أليس نظام تعيين جميع الخريجين الذي انتهجته حقبة الستينات هو الذي أفضى إلى ما يعانيه الجهاز الحكومي من ترهل لم تفلح معه جميع محاولات الإصلاح، بل وأصاب جميع الموظفين من جراء نظام الرواتب والحوافز الرث الذي يعاني منه الجميع الآن؟!!
قديما قيل في المثل: ” اللي إيده في الميه مش زي اللي إيده في النار “، فمن السهل لنا جميعا أن ننقد، ولكن أراهن أن هؤلاء الناقدين لو أصبحوا في موقع المسئولية، لم يجدوا أمامهم طريقا للإصلاح إلا إتباع نفس تلك السياسات التي يوجهون لها تلك الانتقادات الآن!! إن ما تريده مصر، إذا أرادت للسياسات الإصلاحية التي تتبعها النجاح، هو حشد الرأي الشعبي حولها، بحيث يحدث قناعة في نفوس الناس باستحالة استمرار الوضع الراهن وضرورة التطلع لأوضاع جديدة تستقر فيها الأمور. لقد استنامت النفوس إلى الراحة، واستعذبت قيام الحكومة بحل مشكلاتها، وتفرغت الجماهير من ثم للكسل، ولم تعد تعبأ بمعايير العمل والتفوق والنبوغ. إذا أردنا أن نعرف لماذا نحتاج للإصلاح الفكري،
وأن يتواكب ذلك مع الإصلاح الاقتصادي، دعونا نراجع ما حدث أثناء إتباع مصر سياسات الإصلاح الاقتصادي. وكان العامل المثير الآخر في هذا الصدد هو غياب الرؤية الواضحة لعملية الإصلاح فيما بين الوزراء المعنيين في مصر، حيث كانت السياسات قصيرة الأمد هي العامل الحاسم في هذا الخصوص. لقد تزامن غياب الإرادة السياسية للإصلاح مع تلكؤ الجهاز البيروقراطي في إتمام هذه الإصلاحات، ليؤدي ذلك إلى تأخير عملية الإصلاح أو على الأقل إلى جعلها تتم على أساس تدريجي، بسبب ما أشاعوه من الطبيعة الخاصة للمجتمع المصري التي تستلزم ذلك.
وأوضحت النزاعات التي تمت فيما بين الوزراء كيف حاولت كل وزارة الحفاظ على قوتها ومسئولياتها في مواجهة الوزارات الأخرى. ومن ناحية أخرى، فقد أدت المشاكل الأخرى التي يعاني الجهاز البيروقراطي في مصر كثيرا منها، أدت لإعاقة الإصلاحات.
لقد كانت حالات نقص الشفافية وانتشار الفساد فيما بين أعضاء هذا الجهاز البيروقراطي واضحة بل ومعلنة. وقد أدى هذا لممارسات سلبية وتداعيات خطيرة على نجاح برامج الاقتصادي.
وكان الفكر النفعي هو العامل المسيطر على إرادة أولئك الذين قاموا بتلك الممارسات الخاطئة. وكانت كل تلك العراقيل التي وُضعت أمام تطبيق برامج الإصلاح الاقتصادي هي السبب الرئيسي وراء النجاح الهزيل الذي تحقق من الأهداف المعلنة. وبالرغم من أن البرنامج كان يهدف بالأساس لتحقيق انتعاش في الصادرات، إلا أن النجاح الأساسي الذي تمخض عنه تمثل في فورة عقارية قوية. ولست هنا بصدد تقييم برامج الإصلاح الاقتصادي، ولكني حاولت فقط التدليل كيف أدى عدم الإصلاح الفكري لتقليل المكاسب المتحققة من جراء تلك البرامج أو لتحريف مسارها بحيث لم تستفد جماهير الشعب الاستفادة المرجوة منها، وضاع الوقت والجهد في بيان إثبات حسن النوايا بدلا من تكثيف الجهود لتحقيق الإصلاح المنشود.
الدكتور عادل عامر
كاتب المقال دكتور في الحقوق وخبير في القانون العام ومستشار تحكيم دولي وخبير في جرائم امن المعلومات ومدير مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية