عن ذكاء الفتيان
تاريخ النشر: 15/01/17 | 5:46وردت روايات وأشعار كثيرة تبين ذلك الفتى الحصيف الذي له الجرأة والقدرة، ونحن نعرف قصة الخليفة عمر عندما مر على فتيان، فانصرفوا إلا واحدًا منهم، فسأله عمر:
مالك لم تفر مع أصحابك؟
فقال: يا أمير المؤمنين، لم أجرم فأخافك، ولم تكن الطريق ضيقة فأوسع لك.
عن الكبر والصغر، وما يمكن أن يكون الواحد منهما قرأت في (ديوان الشافعي):
تعلّم فليس المرءُ يولد عالمًا *** وَلَيْسَ أخو عِلْمٍ كَمَنْ هُوَ جَاهِلُ
وإنَّ كَبِير الْقَوْمِ لاَ علْمَ عِنْدَهُ *** صَغيرٌ إذا الْتَفَّتْ عَلَيهِ الْجَحَافِلُ
وإنَّ صَغيرَ القَومِ إنْ كانَ عَالِمًا *** كَبيرٌ إذا رُدَّتْ إليهِ المحَافِلُ
(ديوان الشافعي، ص 70- قافية اللام)
…
لكني وجدت في (مروج الذهب) للمسعودي الرواية التالية، وختامها أن عمر بن عبد العزيز ذكر البيتين الأولين أعلاه. ومعنى ذلك أن الشعر ليس للشافعي، فقد توفي الشافعي بعد وفاة الخليفة بنحو مائة سنة.
يقول المسعودي:
“لما أفضت الخلافة إلى عمر بن عبدالعزيز أتته الوفود؛ فإذا فيهم وفد من الحجاز. فنظر عمر إلى صبي صغير السن وقد أراد أن يتكلم، فقال عمر: ليتكلم من هو أسنّ منك، فإنه أحق بالكلام منك . فقال الصبي: مهلاً يا أمير المؤمنين، إنما المرء بأصغريه- لسانه وقلبه، فإذا منح الله العبد لسانًا لافظًا وقلبًا حافظًا، فقد استجاد له الخَلّة، ولو أن الأمر إلى السنّ لكان في هذه الأمة من هو أسنّ منك [….].
قال عمر: صدقت، فتكلم!
فقال الغلام: يا أمير المؤمنين إنا قدمنا من بلد نحمد الله أن منَّ علينا بك. ما قدمنا عليك رغبة منا ولا رهبه منك. أما الرغبة فقد أتتنا منك إلى بلادنا، وأما الرهبة فقد أمّـننا الله بعدلك من جورك، فنحن وفد الشكر، والسلام .
فنظر عمر فى سن الغلام فإذا هو قد أتت عليه بضع عشرة سنة. فأنشأ عمر يقول:
تعلم فليس المرء يولد عالما *** وليس أخو علم كمن هو جاهل
فأن كبير القوم لا علم عنده *** صغير أذ التفّت عليه المحافل
(مروج الذهب، ج4، ص 21- عني بتنقيح الكتاب شارل بلا)
أورد الأبشيهي في كتابه (المُسْتَطرَف، ص 66) هذه القصة بتغيير طفيف.
..
على ذكر الجيل والفصاحة، فقد روى (المستطرف) في باب “في ذكر الفصحاء من الرجال”- الفصل التاسع، ص 66:
“دخل الحسن بن الفضل على بعض الخلفاء، وعنده كثير من أهل العلم، فأحب الحسن أن يتكلم، فزجره الخليفة، وقال: أصبيٌّ يتكلم في هذا المقام؟
فقال: يا أمير المؤمنين! إن كنت صبيًا فلست بأصغرَ من هُدهد سليمان، ولا أنت بأكبر من سليمان عليه السلام، إذ قال: {أحطتُ بما لم تُحطْ به}*، ثم قال: ألم ترَ أن الله فهّم الحكم لسليمان، ولو كان الأمر بالكبر لكان داودُ أولى”.
* (سورة النمل- 22)
..
ثم ما أشد ذكاء الفتح بن خاقان عندما أجاب عن أسئلة المعتصم، مع أنه لا يزال في ريعان الصبا، والقصة مشهورة عندما ركب المعتصم إلى خاقان يعوده، والفتح صبي يومئذ، فقال له المعتصم:
أيما أحسن: دار أمير المؤمنين أو دار أبيك؟
قال: إذا كان أمير المؤمنين في دار أبي، فدار أبي أحسن.
ثم أراه فَصًّا (خاتمًا) في يده، فقال: هل رأيت يا فتح أحسن من هذا الفص؟
قال: نعم، اليد التي هو فيها.
…
وفي المستطرف أيضًا (م.ن):
حكي أن البادية قحطت في أيام هشام بن عبد الملك، فقدمت عليه العرب، فهابوا أن يكلموه، وكان فيهم درواس بن حبيب- وهو ابن ست عشرة سنة- له ذؤابة وعليه شملتان، فوقعت عليه عين هشام، فقال لحاجبه: ما شاء أحد أن يدخل علي إلا دخل، حتى الصبيان!!
فوثب درواس حتى وقف بين يديه مطرقًا، فقال يا أمير المؤمنين: إن للكلام نشرًا وطيًّا، وإنه لا يُعرف ما في طيَِه إلا بنشره، فإن أذن لي أمير المؤمنين أن أنشره نشرته.
فأعجبه كلامه، وقال له: انشرْه، لله درك!
فقال: يا أمير المؤمنين، إنه أصابتنا سنونَ ثلاث: سنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة دقت العظم، وفي أيديكم فضول مال، فإن كانت لله ففرّقوها على عباده، وإن كانت لهم فعلام تحبسونها عنهم، وإن كانت لكم فتصدقوا بها عليهم، فإن الله يجزي المتصدقين!
فقال هشام: ما ترك الغلام لنا في واحدة من الثلاث عذرًا، فأمر للبوادي بمائة ألف دينار، وله بمائة ألف درهم، ثم قال له: ألك حاجة؟
قال: مالي حاجة في خاصة نفسي دون عامة المسلمين، فخرج من عنده وهو من أجلّ القوم.
..
هكذا رأينا أن البلاغة أو الفصاحة لا تقتصر على جيل دون الآخر، ولا على جنس دون جنس،
وأخيرًا، فكل مبدع عظيم كانت تظهر في طفولته أمارات النجابة، فانتظروا من صغارنا الأذكياء الكثير!
…
ملاحظة:
في مكتبتي كتاب صغير وجميل من سلسلة “اقرأ” كتبه محمد المنسي قنديل سنة 1991، وقد تحرّى طفولة شخصيات عربية وأجنبية أذكر منهم طه حسين، عبد الناصر، العقاد، تولستوي، نابليون ….إلخ
ب.فاروق مواسي