قراءة في رواية “الحاجة كريستينا”
تاريخ النشر: 02/02/17 | 4:23قرأتُ رواية ” الحاجّة كريستينا ” للكاتب الفلسطيني عاطف أبو سيف ، الصّادرة عن مؤسسّة “الأهلية” للنشر والتوزيع الأردنيّة وتحتوي على 312 صفحة من الحجم المتوسط ، لوحة الغلاف للفنان الفلسطيني تيسير البطنيجي.
عاطف أبو سيف هو روائي فلسطيني من مواليد مخيم جباليا قطاع غزة عام 1973، ابن لعائلة هُجّرَت من يافا، وليافا حضور طاغ عبر صفحات الرواية، صدرت له قبل هذه الرواية خمس روايات: ظلال في الذاكرة ، حكاية ليلة سامر، كرة ثلج، حصرم الجنة وحياة معلقة بالإضافة إلى كتابات أخرى و تشكّل هذه الرواية قفزةً نوعيّة ملحوظة في كتاباته.
إنها رواية تُصوّر حكاية فضة – الفتاة اليافاوية التي تغادر إلى لندن للعلاج أبان النكبة التي تقع بغيابها لتعيش في لندن باسم كريستينا، لتضطر للعودة إلى مخيم للاجئين في غزة أواخر خمسينات القرن الماضي لتعيش هناك طوال حياتها حتى يأتي جيب لاندروفر و”يخطفها” لتنتقل إلى لندن خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2009.
تدور أحداث الرواية في يافا الذاكرة المشتهاة ومخيّمات اللاجئين في قطاع غزة ولندن في محور البحث عن الهوية.
للمرأة الفلسطينية حضور مميز بطوليّ ويصوّر الفقدان الدائم الذي تعانيه “بطلة” الرواية ، فقدان الأب والزوج والطفل والأخ، فقدانه كأسير أو مفقود أو شهيد، وفضة/كريستينا تفقد أهلها وأسرتها بالكامل ساعة التهجير، ثم تفقد زوجها الشهيد فابنها ياسر “المفقود”، وكذلك صديقتها “مزقت ثلاث قذائف عائلة صفية المكونة من والديها وطفلين غيرها ونجت هي بكثير من الحظ، الذي لم يعد يسعفها الآن” ؟! لتبقى وحيدة كي تعيش صدفة أو أن تنجو بخطأ لم تتقصده؟! (ص145) فهل يمكن أن تُعتبر بطلتنا وصفية محظوظتين ؟؟ حيث تصاب العائلة الفلسطينية بتعويذة ولعنة الغياب المستمرّة، من غياب عائلة بطلتنا إلى غيابها عن يافا وعن المخيّم لاحقًا ! ليصبح الغياب الفردي جزء من الغياب الجمعي فتصرخ “شو إلنا بغزة” (ص 201) لأن عقلها يعيش في يافا أو لندن أو في انتظار ابنها “المفقود” ياسر.
يصوّر عاطف حياة المخيم ومآسيه ويُسلط الضوء على المعاناة اليوميّة للاجئين وظروفهم الحياتية الصعبة، وخاصة زمن الحرب والعدوان الاسرائيلي فيصف حالة الرازحين تحت القصف، بعيدًا عن الشعارات، كلّ مع قصته الشخصية، ليُؤنسن الوجع والألم والمُصاب الفرديّ الشخصيّ مما يذكرني بخالد جمعة وكتابه “في الحرب …. بعيدًا عن الحرب”. فالكاتب يصوّر غزة المستحمة بالوجع اليومي، حيث الحرب شوهت معالم الانسان في الغزيين مهما كانت لديهم قدرة على الصمود، وقبل أن يفكر أحد في إعادة ترميم وإعمار غزة بعد الحرب، عليه أن يفكر جديا في طريقة لترميم أرواح الناس في غزة ورتق الفتحات في نفوسهم لأن العدو يهدف إلى هدم الأرواح وقدرتها على الحياة.
ويصوّر عاطف صراع أبناء المخيّم اليومي في البحث عن الهوية ، فقلبها المعلق هناك دفعها للبحث عن حياتها هنا من أجل أن تكتشف كيف يمكن لها أن تجد الطريق إلى هناك (ص 247) حاذيًا حذو مريد البرغوثي في روايتيه “رأيت رام الله” و”ولدت هناك، ولدت هنا”.
ينتقد عاطف النظرة النمطيّة والتأطيرية المفروضة علينا وعلى تصرّفاتنا اليومية التي تصبح تابوهات لا يمكن الخروج عن نصّها ويتساءل بجرأة “هل يمكن لهويتنا أن تفرض علينا نمطًا معينا من التصرف ؟ هل يجب أن تتّخذ هيئة وشكلًا محددين يتناسبان مع هويتنا (ص 229) لتثبيت وقوقعة “الهُنا” ؟ فتتحدّى بطلته كل أعراف القبيلة المتوارثة صارخةً “أنا من هنا”.
يتناول عاطف موضوع الحنين في كل المراحل، الحنين الذي يخنق الروح، فلا شيء يُشبع الحنين إذا استبدّ بنا ونحن في الغربة. ويروّح عن نفسه بقصّ قصّته وروايته فكثيرًا ما نحتاج أن نروي لشخص غريب حكايتنا حتى نفهمها، فخلال السرد نكتشف الكثير من بواطن الغموض الذي كنا لا نفهمه قبل ذلك !
يتحدّث كل من أبطاله لتفريغ الذاكرة من شحنة مُرعبة من الصور والأحداث والتداعيات وعلاج للتنفيس عن الكتمان والاحتقان، فأن تتذكر كل شيء مع التفاصيل الدقيقة شيء سيء للقلب، لكنه جيد للروح.
يتطرّق عاطف في روايته لصراع الهويّة وقضيّة المواطنة والوطنيّة صارخًا :” ماذا يعني كل شخص حين يقول كلمة وطن ؟” (ص 231) ، يتطرّق لوكالة الغوث دورها وتداعياتها، يتطرّق للمعاناة والتغلّب عليها والبطولة، ويتطرق إلى الاحتراب والاقتتال بين الأخوة في قطاع غزة قائلًا، وبأعلى صوته، : ” نتقاتل من يحرس بوابة السجن لإسرائيل” !!! (ص 264).
أوافق عاطف بأنه كي تكونِ أديبًا عليك أن تكون مثقّفًا، وعاطف نِعمَ المُثقّف ، فأخذني معه بسلاسة ولباقة ، ولكن بتكلّف وتصنّع مبتذل لا يخدم النص، إلى عالمه – من معزوفة “الجمال النائم” لتشايكوفسكي ومعزوفة “عذابات القديس ماثيو” لباخ ورائعة مايكل أنجلو “الخلق” .
ليست الرواية بالتاريخيّة رغم أن كاتبها “درس” التاريخ الشفوي لأهله ومن تهجّر قسرًا من يافا و”درس” جغرافية فلسطين وقراها ، وحارات لندن مدينة الضباب وتمرّس بهما فكانا أرضيّة خصبة للرواية وأثْرياها جدًا.
كاتبنا يُجنّد، وبكثرة، أسلوب الاسترجاع والاستحضار flashback)) أي انقطاع التسلسل المكاني أو الزمني للرواية لاستحضار مشاهد ماضية لتلقي الضوء على موقف ما وكانت هذه التقنية مقصورة أصلًا على السينما فوظفها الكتّاب لاحقًا في كل مجالات الأدب ووظّف هذه التقنية في حينه الروائي نجيب محفوظ في روايته “اللص والكلاب”.
يُكثر عاطف من رسم السيناريوهات وتفصيلها على مدار الرواية بدل أن يتركها للقارئ لينمّي عنصر التشويق عنده.
كاتبنا يحب التكرار، المُمِل أحيانا، ولكن ينهي روايته بعودة كريستينا بنت ياسر ابن الحاجة كريستينا، فجأة ودون سابق انذار، إلى المخيم.
لماذا لم تُعِدها يا عاطف إلى يافا المشتهاة التي ما زالت تنتظر ؟!؟ّ!
المحامي حسن عبادي