سبق السيف العدل
تاريخ النشر: 12/02/17 | 6:22تصويت الكنيست، قبل عدة أيام، على قانون شرعنة الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة يبعث برسالة واضحة إلى جميع أرجاء العالم ومفادها أن إسرائيل “الجديدة” هي في الواقع إسرائيل “القديمة” ويذكّر، كذلك، من ظنوا أن قناعة المنتصرين في عام النكبة واكتفاءهم بما “لهطوا” من أراض، ستغدو النجمة المنيرة لدروب أبناء وأحفاد جدهم “اشعيا” الذي تنبأ أنهم “سيطبعون سيوفهم سككًا ورماحهم مناجل”، توهموا وخابوا؛ فحكمة إسرائيل الأولى كانت وما زالت “مخافة ربهم” الذي سكنت كهنته وانتشرت مذابحه في جبال يهودا والسامرة، كما روى الدخان وحدثتنا الغربان.
سكة هذه الكنيست من الرماح مدت عارية كالترس ومثله هي صماء وعنيدة، فمن سيستهجن، مرة أخرى، من تمادٍ وشيك لأعضائها على حقوق الفلسطينيين لن يكون غبيًا، بل عاجزًا، في الدرجة الأولى، ومتواطئًا مع ما يبدو اليوم واضحًا وحتميًا في مشوار بدأ عمليًا قبل سنوات، ولو بشكل ملتبس وتدريجي، حين لم تلتزم حكومات إسرائيل المتعاقبة بما وقّعت عليه أمام جميع دول العالم وأممها.
مع ظهور نتائج الانتخابات الأخيرة بان جليًا أن معظم الأحزاب الإسرائيلية المنتخبة وبدعم من الأكثرية اليهودية في الدولة ماضية في سبيل ضم أرض الضفة الغربية المحتلة واخضاعها لسيطرة القانون الإسرائيلي بشكل رسمي و”مشرعن” وذلك بعد ضمهم للقدس الشرقية منذ العام ١٩٦٧؛ وبالتوازي، يتم الإبقاء، وفقًا لخطة محكمة، على “كُيَين” فلسطيني، إن شاء الفلسطينيون فليسموه دولة، وتحكم في جنباته سلطة وتتحكم، وإن شاء رجالها فليُكنوا رؤساء أو وزراء أو أمراء أو ما انتقوا، وليمارسوا صلاحياتهم المدنية والأمنية الخدماتية على مواطنيهم شريطة ألا تتمتع تلك المناطق بسيادة سياسية كاملة ولا باستقلال ناجز يخلف إحتلالًا منتهيًا.
بعد اعلان نتائج التصويت على قانون سلب الأراضي أصدرت عدة قيادات فلسطينية بيانات شاجبة هاجم أصحابها الخطوة الإسرائيلية واستنكروها. جلّها دُبج بدبلوماسية حريرية خلت من أي مقترحات عينية وعملية موجهة للساحة الفلسطينية الداخلية أو لجماهير الشعب العريضة، وحتى من أتى منهم على ذكر ضرورة مقاومة هذه المستجدات العدوانية لم يصرف همساته إلى ما يضمن تحويلها رياحًا مقلعة أو مشاريع نضال جدية تكون على مستوى ما يجري من اغتصاب للأرض وقمع للبشر.
بتميّز طفيف قد يعكس بيان السيد ياسر عبد ربه، عضو اللجنة التنفيذية، وجهة نظر مغايرة، وقد تكون منتشرة، لكنها غير معلنة، في صفوف كثيرين من صنّاع السياسة الفلسطينية في هذه الأيام، فهو يعلن أن “الرد المباشر على هذه الخطوة يكون من خلال التطبيق الفوري للقرارات المؤجلة منذ سنتين للمجلس المركزي واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير.. وفي مقدمتها وقف التنسيق الأمني وإعادة تحديد العلاقة مع إسرائيل في كافة المجالات وتقديم طلب لمقاضاة إسرائيل فورًا لدى محكمة الجنايات الدولية ..” البعض يعزو وضوح هذه المطالب وعلو سقفها إلى ابتعاد السيد عبد ربه عن مواقع صناعة القرار المتقدمة، لكنها، مع ذلك، تبقى مؤشرًا على فرج قوس مروحة الإحتمالات الفلسطينية التي لا يمكن استبعاد اللجوء إليها في ساعات الحسم والصحوة، لا سيما إذا وجدنا أن أقواله تتلاقح مع ما قاله مثلًا، بلغة أكثر ضبطًا، د.محمد شتية، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومن المقربين إلى عمليات صنع القرارات، حين أكد: “أن الحديث عن تحميل المجتمع الدولي مسؤولياته مجرد كلام على ورق، بالوقت الذي نحتاج فيه إلى إستراتيجية جديدة تستند إلى الواقع الذي أدخلتنا فيه إسرائيل والولايات المتحدة”. ومن اللافت أنه أدلى بتصريحه هذا وهو منتدب كواحد من خمسة قياديين (د.صائب عريقات، د.رياض المالكي، اللواء ماجد فرج، د. مجدي الخالدي) كانوا قد كُلّفوا يوم ٢٠١٧/١/٥ بصياغة ورقة تصورات وتوصيات يتم تقديمها إلى الرئيس محمود عباس وللقيادة الفلسطينية كخطة عمل متكاملة تستشرف إمكانية إقدام الإدارة الأمريكية على نقل سفارتها إلى القدس.
وضع الفلسطينيين، قبل هذا القانون، لم يكن سهلاً، بيد أنه لن يصير أصعب بسببه فقط، وكثيرون من السياسيين والمعلقين والنقاد والمعارضين درجوا، سالكين أهون المسالك، على تحميل أركان السلطة الفلسطينية وقادة حركة فتح خصيصًا وزر ما آلت إليه أوضاع الثورة وحالة الوطن وخبو نيران خيارها التاريخي في التحرر والاستقلال.
لا أستهدف تحليل تلك المواقف ومدى دقتها وصدقها ولا كيف فندت القيادات تلك الاتهامات وصدّتها، لكنني أقترح على المعنيين العودة إلى ما نشر مؤخرًا في دراسة بعنوان ” قرارات على مستوى التحديات” حملت الرقم ٢٠، قدّمها ونشرها مكتب د، صائب عريقات، أمين سر اللجنة التنفيذية ل م ت ف، وقد ذيّلها بتوصيات اللجنة الخماسية المذكورة أعلاه.
تحتوي الورقة على مجموعة من الفصول والمضامين المهمة، لكن تميّزها الأكبر يكمن في كشفها عن وعي معدّيها لكل تفاصيل المشهد الفلسطيني المركب وتعقيداته وتأكيدهم على ما طرأ عليه من تآكل وما ينتظره من مكائد ومصائب؛ وهم مثل جميع من حذر على الملأ وتخوّف وانتقد أو هاجم واتهم السلطة وقياداتها، يقرون أن إسرائيل وحلفاءها يخططون لإقامة ثلاثة محاور ويعملون من أجل تخثيرها على أرض الواقع وهي: وجود سلطة فلسطينية لكنّها بدون سلطة، إستمرار الإحتلال الإسرائيلي بدون كلفة، والإبقاء على قطاع غزة خارج إطار الفضاء الفلسطيني.
على هذه الخلفية استعرضت الورقة ٢٦ توصية، من أهمها، برأيي، تلك التي تحدثت عن “ضرورة البدء بتحديد العلاقات الأمنية والإقتصادية والسياسية مع إسرائيل تنفيذًا لقرارات المجلس المركزي، والتوصية بسحب اعتراف م.ت.ف، بدولة إسرائيل، وتبني خيار المقاومة الشعبية الشاملة وحمايتها ودعمها وتعزيز قدراتها ووضع إستراتيجية متكاملة لها، وتقديم طلب إحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية حول الإستيطان والعدوان على غزة وقضية الأسرى”.
كثيرون سيؤثرون عدم التعاطي بجدية مع ما ورد في هذه الدّراسة اللافتة، بعضهم لمجرد المعارضة وآخرين لأسباب قد تكون وجيهة، فالسياسة ولادة للقهر والخذلان والظروف دوّارة كطواحين الهواء، لكنني أشير إلى أن توصية واحدة منها، على الأقل، قد بوشر العمل بها وذلك كما جاء في بيان رسمي صادر، قبل أيام ، عن مكتب د صائب عريقات وفيه يطالب المدعية العامة للمحكمة الدولية “بالشروع فورًا في اتخاذ الإجراءات المناسبة لفتح تحقيق قضائي في جرائم الإحتلال وفي مقدمتها جرائم الاستيطان الاستعماري الإسرائيلي في أرض دولة فلسطين ..”
كما قلنا فالحالة الفلسطينية معقدة وتقف على مفترق خطير أو ربما على منزلق أخطر، واستباق ما قد يحصل في عصر ما بعد الترمبية يحمل عناصر المقامرة، علمًا بأن جبهة دولية واسعة بدأت تتشكل ضد سياسة إسرائيل الجديدة مما يعطي الموقف الفلسطيني دفعة وازنة، لكنني وربما لهذا السبب، أسجّل، مرة اخرى، أسفي لغياب موقف القيادات الفلسطينية جميعها إزاء تعاطي الفلسطينيين مع أجهزة المحاكم الإسرائيلية لا سيما في القضايا التي قدمت للمحكمة الجنائية الدولية مثل الأسرى والاستيطان.
فكيف سيستوعب العالم جدية نداء منظمة التحرير وهو يسمع في نفس اليوم عن إصدار قرار في قضية قدّمها رئيس مجلس قرية “ياسوف ” الفلسطينية المحتلة وقد توجه ومعه بعض السكان بالتماس إلى “محكمة العدل الإسرائيلية” يطالبها به بإنصافهم وحمايتهم من اعتداء المستوطنين على أراضي القرية، التي أقاموا عليها بؤرة تعرف باسم “تبواح معراف”، أو كما فعل مثلهم رئيس بلدة سلواد الفلسطينية وبعض أهلها في قضية بؤرة “عمونة”.
سوف تستغل إسرائيل هذه الوقائع وستدّعي أنها تقوم بواجباتها، وفقًا لقاعدة التكامل في الشرع الدولي، خاصة حين يلجأ إلى فيء عدلها المواطنون الفلسطينيون طواعية ومؤمنين بإنصاف قضائها وبرحمته!
في محكمة العدل العليا الإسرائيلية سبق السيف العدل، فإذا كان نداء الإحالة إلى المحكمة الجنائية جدّيًا سيبقى موقف القيادات الفلسطينية من توجه المواطنين الرازحين تحت الاحتلال لمحاكم الاحتلال مؤشرًا هامًا على حسن النية وحسن الأداء!
جواد بولس