بين لوحين
تاريخ النشر: 11/02/17 | 9:21عندما نشرتُ قبل اسبوعين، القسمَ الثاني من مقال “إبتساماتٌ إن لم تُعلِّم..تُعلِّم”، كنتُ اشعر ان هذا الموضوع قد إستوفى حقَّه مني ولن اعود اليه ثانية. لكنَّ الصورة تغيرت قبل ايام قليلة عندما التقيت بالاستاذ يوسف في القاعة الكبرى في دار بلدية حيفا. كان لقاؤنا مجرد صدفة، ذلك لاننا لم نكن(يوسف وانا) على موعدٍ للتلاقي، فجاء لقاؤنا حميميا جدا. لقد تذكرنا ان لقاءنا الاخير كان قبل نحو ربع قرن، في المدرسة الابتدائية التي كان يوسف يديرها انذاك في منطقة وادي عاره، والتي استضافت يوما دراسيا كنتُ قد عقدتُه لمديري مدارس المثلث الشمالي. كان اليوم الدراسي إيّاه مثقلا بالفعاليات التي استحوذت على وقت يوسف لانه المدير المضيف وعلى وقتي باعتباري المفتش المشرف على تلك الفعالية، فلم تُتَح لنا فرصةُ استعراض فترة دراسته في دار المعلمين العرب في حيفا، في اواخر ستينات القرن الماضي.
لقد حضر يوسف الى دار البلدية ، كما فهمتُ منه، للمشاركة في حفل إشهار كتاب جديد للبروفيسورة راحيل لزَروفيتش التي كانت قد علمتْه اثناء دراسته للقب الثاني في جامعة حيفا، في حين حضرتُ انا مدعوا من راعي الاحتفال أعني قسم الثقافة في البلدية.
قال لي يوسف منفعلا: “رحم الله من قال: ربّ صدفة خيرٌ من الف ميعاد” واضاف مؤكِدا لي انه كلما كان يقرأ نصّا من النصوص التي أنشرُها تباعا، كانت تراوده فكرةُ مهاتفتي. لكنه عندما قرأ مقالي الاخير قبل اسبوعين، اخذ يبحث جدّيًّا عن رقم هاتفي، ليقول لي إنه راضٍ عمّا اكتبُه، لكنّه يتحفظ من اختياري جملةَ “إبتساماتٌ إن لم تُعلِّم ..تُعلِّم” عنوانا لمقالي الاخير، مفضِّلا “ابتساماتٌ تُعلِّم وتُعلِّم” ذلك لأنّه يعتبر ان الابتسامة المتأتية عن نكتة او نادرة او طرفةٍ في سياقٍ تربويٍّ صحيح، تُعلِّم وتُعلِّم فعلا، بمعنى انها تُكسب معرفةً للتلاميذ وتترك في ذات الوقت أثرا(علامة) في نفوسهم… مضيفا ان لديه الكثير من النوادر والطرف الشخصية التعليمية التي تدعم رأيه…
اراد يوسف ان يسترسل في الحديث رغم كوننا واقفين في قاعة كادت تصبح ان تكون فارغةً من الناس. لكنه عندما لاحظ عمقَ اصغائي لحديثه وتلهّفي لسماع رأيه، ولمسَ رغبتي الصادقة في استضافته، لبّى دعوتي فكانت سهرة بيتية انيسىة تبددت فيها آخر علامات الكلفة بيننا، وتهيأت لي الفرصة لإستدراج يوسف، تماما كما ادأب على استدراج غيره من طلابي السابقين، للتحدث عن ذكرياتهم سيما الطريفة منها، كطلاب في دار المعلمين و/أو كعاملين في مجال التربية والتعليم. انطلق يوسف على سجيته، قائلا لي: “هناك نوادر منسوبة اليك، واخرى منسوبة الى غيرك من معلمي دار المعلمين. فبأيها ابدأ؟”. قلت له: “إبدأ بي ومن ساواك بنفسه ما ظلمك”. قال يوسف: “كنتُ طالبَ سنة اولى في دار المعلمين. اثناء فترة التطبيقات العملية، زرتَني في حصة علوم للصف السادس. في نهاية الحصة أعربتَ لي عن اعجابك بدفاتر التحضير ووسيلة الايضاح ودقة المعلومات إلا انك ابديتَ امتعاضا من تجاهلي لعنصر الحوار في الدرس، ولجوئي الى اسلوب المحاضرة، دون ان اترك للتلاميذ مجالا للمشاركة، فرويتَ لي ولزملائي طرفة المعلمة ماجدة:
دخلت المعلمةُ ماجدة الى غرفة الصف الثالث الابتدائي، واخذت تشرح الدرس بحماسٍ وكأنها تقدّم محاضرةً جامعية، دون ان تترك للتلاميذ مجالا للتفاعل مع الدرس او حتى ان يجيبوا عن الاسئلة التي كانت تطرحها احيانا، ناهيك عن عدم إصغائها لهتافات بعضِهم، كنديم مثلا، الذي دأب على رفع يده اليمنى مصوبا سبابته نحو المعلمة، ومرددا دون كلل او ملل: “انا معلمتي..انا معلمتي”. إصرارُ نديم، كما يبدو، ازعج المعلمة ماجدة، فانتهرتْه مؤنبةً إيّاه بقولها: “اسكت يا نديم. انت بتحكي بَسْ لمّا انا بَسْكُت”. فاجابها نديم بعفويةِ الاطفال وبراءتهم: “طيّب، بس وينتا انتِ بدِّك تسكتي؟!!”.
توقف يوسف هنيهة عن الكلام، ريثما تمكنتُ من استرداد انفاسي من موجة الضحك التي اعترتني، ثم تابع حديثه قائلا: “اما النوادر المنسوبة الى غيرك من معلمي دار المعلمين، فهي كثيرة لكني ساكتفي بنادرة الاستاذ مسعد التي تشكل في رأيي اثباتا دامغا بان النادرة او الطرفة التربوية تُعلِّم وتُعلِّم..”.
ما ان ذكر يوسف اسم الاستاذ مسعد(اسم مستعار) حتى عدت بالذاكرة الى غرفة المعلمين والى النوادر والطرائف “المسعدية” اللطيفة المؤنسة..
لاحظ يوسف اني سرحتُ بافكاري، فبادر الى متابعة حديثه، مسترِدًّا انتباهي اليه، ليقول لي ان الاستاذ مسعد عندما قدِمَ لمشاهدة درس لديه في ذات الفترة اي فترة التطبيقات العملية الاولى في دار المعلمين، لاحظ ان يوسف لا يُحسن استعمال اللوح، بدليل ان وقفته امام اللوح، كانت بوضعية تجعل من جسمه الشبابي بقامته الطويلة ومنكبيه العريضين، حاجزا يغطي ما يكتبه(اي يوسف) على اللوح. عند انتهاء الحصة، إنفرد الاستاذ مسعد بيوسف، لتقييم الدرس، فابرز النقاط الايجابية في الدرس، ثم وضع يده اليمنى على كتف يوسف الايسر، قائلا له بابتسامة عريضة وبنظرة مُحبّة مُداعِبة: “وَلَكْ يا يوسف، كل عمري اشوف كتابة على اللوح، لكن في درسك شفت لاول مرة، كتابةً بين لوحين”.
لم يدعني يوسف استغرق في الضحك طويلا، لانه تابع حديثه بمنتهى الجدية قائلا لي: “نادرة الاستاذ مسعد هذه، التي قد تبدو لاذعة لمن لا يعرف طيبة الاستاذ مسعد وصفاء طويته وصدق محبته لطلابه، رافقَتْني على امتداد عملي في التعليم معلما ومديرا فعلَّمتْني وعلّمت في ذاكرتي. فهل ستنشرها وهل هناك عنوان افضل من “إبتسامةٌ تُعلِّم وتُعلِّم؟”. فاجبتُه ضاحكا: ” بين لوحين”.
بقلم د. حاتم عيد خوري