فتشوا عنه تجدوه
تاريخ النشر: 14/04/17 | 13:30لم تكن كتابة هذه الشهادة مهمة سهلةً علي، فاختزال تاريخ أكثر من أربعة عقود، تشابكَ فيه الشخصي والسياسي والمهني، بمقالة واحدة هو أقرب للعقاب أو أشبه بانتزاعك وعصرك لقطعة صغيرة من ذاكرتك الطافحة والمستفزَة بعد رحيل واحد من رفاق الدرب الذي كان دومًا قريبًا منك ولك حتى وهو “هناك” وليس “هنا” لأنه الصديق الحاضر كالترس يذود عن ظهرك إذا ما حاول النمّام، في ليلة ظلماء، خدشه، وكالرمح يفلق كبد كل ضيم إذا ما استغابك الخسيس وتطاول قزم من أقزام الوحل والزمن الرديء.
عرفت تيسير العاروري منذ منتصف السبعينيات، وقد جئت إلى قدس العرب لأتعلّم في كلية الحقوق في الجامعة العبرية، ولاهثًا وراء حلمي بأن أصير محاميًا يكذّب “ناي جبران”، فالعدل في الأرض، هكذا آمنت، تنقصه عزائم الرجال وألسنة الذرباء الذين لا يخشون ظالمًا، ولا يتملقون الجيوب والعصا على أعتاب حاكم مستبد.
فلسطين التي أنجبت، في تلك الأعوام، تيسيرًا ورفاقه كانت محتلةً، لكنها كانت علمًا خفّاقًا يلتف به الأحرار في العالم، عشقًا وزهوًا وافتخارا، وكانت هاجسًا يقض مضاجع القادة وجميع الناس، وقضيةً شاغلةً بال كل الدنيا ومالئة دهاليزها بالوجع وبيادرها بالجنى وميادينها بالمطارق والمناجل والقصائد والنار.
هكذا أتذكر فلسطين في تلك السنين، فيّاضة بالمنى وندافةً بالوعود والأمل. أرضًا عافت المحتل وشعبًا أقسم على تحريرها، وفصائل بألوان شتى وقد اختلفت على الكيف ولم تتقاتل على الكيلة والميزان والحشف.
كان تيسير محاضرًا للفيزياء في جامعة بير- زيت، لكننا، كناشطين في لجان الطلاب العرب، عرفناه أكثر قائدًا فلسطينيًا وناشطًا بارزًا في الحزب الشيوعي الفلسطيني، ومناضلاً ميدانيًا عنيدًا ذاع اسمه بين من تقدموا الساحات والمنصات، وكذلك صاحب قلم أثرى في علمه الفضاء، فعاش حالة “المثقف العضوي” بتكامل واضح، إذ أنه لم يفصل بين النظرية وتجربته النضالية كما كان يمارسها في الحياة، في الحارات التي أحب أهلها البسطاء، وفي مواقع اتخاذ القرارات حتى دفع ثمنها سجنًا وحرماًنا وإبعادًا، فيما بعد، إلى خارج الوطن.
كنت ناشطًا في “جبهة الطلاب العرب ” وهي واحدة من حركتين سياسيتين- الثانية كانت حركة أبناء البلد- قادتا نشاطات الحركة الطلابية في الجامعات في حقبة ذهبية من حياة نضال الجماهير العربية في إسرائيل، حتى تراخت أواصرها منذ منتصف التسعينيات، بالتقريب، وذلك نتيجة لما أصاب الحالة السياسية العامة من وهن وتراجع.
من موقعي في الجبهة الطلابية إلتقيت كثيرين من قادة الجبهة الوطنية الفلسطينية التي كانت تقود العمل الكفاحي في الأراضي المحتلة، بتواز وتكامل مع منظمة التحرير الفلسطينية. وقد قمت لاحقًا بتوطيد هذه العلاقات من خلال عملي متدربًا في مكتب المحامية اليهودية الشيوعية فيليتسيا لانجر، خاصة بعد أن تحول مكتبها في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات إلى عنوان للدفاع عن كل مناضل فلسطيني طالته يد المحتل، وكذلك إلى ما يشبه المقر ومكان الملتقى لأكثرية القياديين الوطنيين في ذلك الزمن. في مكتبها تعرفت جيّدًا إلى من أصبحوا فيما بعد أصدقاء لي في مسيرة طويلة، وصرت لاحقًا محاميًا لمعظمهم وبضمنهم كان الراحل تيسير العاروري، الذي تميّز باعتماده العقل بوصلة في نقاشاته المبدئية وبهدوئه الرزين وثقافته الواسعة.
في ١٩٨٨/٨/٨ قامت سلطات الاحتلال باعتقال عشرات القياديين الفلسطينيين من جميع الفصائل الوطنية، وقد تبين فيما بعد أن قائد الجيش الاسرائيلي كان ينوي نفيهم.
اعتقل تيسير من الشارع في مدينة رام الله ونقل مباشرة إلى سجن “الظاهرية” العسكري، ومنه بعد ثلاثة أيام نقل إلى سجن رام الله العسكري، وبعده إلى سجن “جنيد”، حيث أبلغوه، رسميًا، بوجود قرار صادر عن قائد المنطقة الوسطى،الجنرال عمرام متسناع، يقضي بإبعاده، أسوة بستة وعشرين مواطنًا فلسطينيًا آخر تم اعتقالهم كي يتم إبعادهم مثله بعد استنفاد الإجراءات “القانونية” بحقهم.
أعطي السجن اسمه لقربه من بلدة الظاهرية القريبة من مدينة الخليل، وهو عبارة عن مركز توقيف قديم عرف بمواصفاته الصعبة وببيئته التي لا تناسب حياة الآدميين. استعمله جيش الاحتلال الإسرائيلي مركزًا للاعتقال والتحقيق مع آلاف من الأسرى الفلسطينيين، حيث روى كثيرون منهم قصصًا عن تعذيبهم وما عانوه من أهوال في غرفه البائسة.
في العاشر من آب، أي بعد مضي يومين على اعتقال تيسير وصلت سجن الظاهرية لأزوره. كنا ننتظر على بوابة حديدية صغيرة، ونقوم بالصراخ كي يسمعنا الجنود. كان المدخل يوحي كأنك تدخل إلى حاكورة مهجورة من حواكير البلد، فكل شيء بدائي ومعالم الحضارة معدومة. رافقني جندي، تصرف بعدائية تلائم رائحة المكان، وأدخلني إلى قرنة منزوية، لم أنتظر طويلًا فقبل أن أتعود على الفوضى المنتشرة في كل الجهات، سمعت صوت “موسيقى الأصفاد” تقترب، فرفعت عيني، وكان يقف قريبًا مني مبتسمًا مع بوادر انزعاج تظهر وسط جبينه، شعره أشعث لم يحظ برعاية مشط، وعيناه تلمعان وفيهما كثير من الحديث والغضب.
تعانقنا، وروى لي كيف أوقفوا سيارته في وسط شارع في رام الله وأمروه بمرافقتهم، وأضاف تفاصيل عن تحقيق يجريه معه ضابط مخابرات يسمي نفسه “أبو النمر”. لقد اشتكى من كثرة الافتراءات والكذب عليه.
تركته في الظاهرية وعدت كي أطمئن عائلته، واتفقنا على أن أتابع قضيته. لقد كان واضحًا لكلينا أنه في حالة صدور أمر إبعاد بحقه فيجب أن تكون مواجهته الرئيسية سياسية، فنفي إنسان من وطنه وانتزاعه من حضن عائلته هو قرار سياسي تعسفي غير انساني. مع هذا اتفقنا أن نستغل ما يتيحه ذلك “القانون” كأداة من الجائز أن “نعزف” عليها لإثارة الضجة ونقل تداعيات القضية للعالم علهم يعلمون ويفقهون.
بعد مداولات ونقاشات طويلة قرر تيسير أن يعدّ مرافعة تفصيلية يواجه فيها أعضاء لجنة الاعتراضات العسكرية.
وفعلًا قام بكتابة وثيقة نظمها كما يليق بسياسي حذق وبعالم فيزيائي أن يفعل. رد فيها على ما أسماه المدعي العسكري بالتهم الموجهة اليه، وكانت هي في الواقع أقرب لكونها افتراءات، فدحضها تيسير بالمنطق والبيّنة وبالفكر النير السليم.
لكنه وهو القائد السياسي كان يعي معنى اللحظة فأصر أن يشرح للجنة العسكرية عن أسباب اختياره بتقديم مرافعة أمامهم وهو يعرف بيقين أن قرار إبعاده هو قرار سياسي محض، فقال لهم: “ولكن وبعد أن استمعت للتهم العلنية والحجج التي تقدّم بها الادعاء العام، ساءلت نفسي: إذا كان في الشق العلني، الذي يستمع له المحامون واللجنة والمتهم (أنا) وبقية الحضور، يستطيع الادعاء العام أن يقدم كل هذه المغالطات والأكاذيب والتفاهات في محاولة سخيفة وبائسة ليضفي على عملية الإبعاد بعدًا قانونيًا، وأن لها ما يوجبها من الأسباب “الأمنية” فكيف سيكون بالتالي شكل ومحتوى المادة السرية وهناك لا رقيب ولا حسيب على الصدق والكذب”.
أنهى المقدمة وبعدها ألقى على مسامع اللجنة مرافعة حصيفة فند من خلالها جميع أكاذيبهم. فعل ذلك بصوت مليء بثقة صاحب الحق، وبهامة مناضل فلسطيني كريم الأصل لم يتعود على تصعير الخد ولا على الطأطأة، وبلسان شيوعي مجرب لا يعرف التأتاة.
ما زلت أذكر كيف كان هو الإنسان الحر الذي تكلم بفرح السواسن والمناضل النقي الذي ضوّع صدقه عطرًا كنراجس عيبال؛ لقد صرخ وأصغت له ثلة من عساكر مدججة برائحة البارود وبالعنجهية؛ أذكره وهو يندفع أمامهم كالعاصفة وهي تكنس زيف التاريخ، وكالموج يمسح عن عتبات الزمن الأغبر نثار الخسائر فهو “التيسير” الذي آمن منذ كان “خشفًا” يلعب بسعادة وشقاوة في أزقة قريته الصغيرة الوادعة برهام أن “الهزائم ليست قدرًا” وأن النصر يجب أن يكون في النهاية للإنسان وليس لأعداء الإنسانية.
لقد واجه اللجنة جازمًا أن قرار نفيه موصوم بثلاثة عيوب: فكيف يمكن تبرير اقتلاع إنسان من وطنه ومن بين عائلته وأسرته الكبيرة؟ إنها جريمة أخلاقية صارخة لا يمكن تسويغها بأي مسوّغ. وهي كذلك مخالفة قانونية تحظرها كل القوانين والمواثيق الدولية والسماوية وهي لذلك جريمة بعرف الأمم والسماء. وأما سياسيًا فهي حماقة كبرى ومغامرة، فإذا كان المحتل يعتقد أنه عن طريق إبعاد قادة من شعب يرزح تحت الاحتلال سيضمن بَعدهم فراغًا سياسيًا وضياعًا، فهذا الظن خائب وواهم لأن التاريخ علم أن للحرية عزيمة لا تنضب وأن الاستبداد زائل.
لقد تم إبعاد تيسير، كما توقعنا، في أواخر آب سنة ١٩٨٩. فقضى في المنفى بضع سنوات استغلها في الكفاح ضد الاحتلال وفي إثراء مداركه العلمية والثقافية وبتقديم مزيد من الكتابة الفكرية. عاد مع آخرين إلى الوطن بعد أوسلو ليستمر، من مواقعه الجديدة القديمة، في مسيرة عطائه التي لم تتوقف حتى آخر يوم في حياته .
لم يساوم تيسير في قناعاته، فكان يقينه الثابت أن الاحتلال هو عدو الشعب الفلسطيني الأول وهو إلى حد بعيد عدو الإسرائيليين أنفسهم. كانت مواقفه السياسية واضحة فبوصلته الفكرية وتجربته أوصلتاه، في معظم الأحيان، لاختيار الطريق الصحيح، وحبه للناس هداه دائمًا لأن يكون مع “المعذبين في الأرض” والبسطاء.
لقد عرفت تيسيرًا ورفاقه يوم كان الصبح في فلسطين نمّامًا وليلها عند المناضلين ستّارًا، فكنا إذا اجتمعنا صحبةً نتقاسم “كأهل الهوى” كسرة الخبز ورقصة الفجر ونحلم بمن سبقونا وسقوا الفولاذ كي “نعبر الجسر خفافًا”، وتصادقت مع تيسير حين كانت في سماء فلسطين سماء واحدة زرقاء صافية بعيدة، وفي الأرض نضال ووجع وبهجة وحب، الذي كان لونه كلون الحرية أحمر .
كان تيسير الذي عرفته بسيطًا كزر فل أبيض في حوض أمه، دافئًا كدمعة زنبقة كسيرة عند المغيب، عنيدًا كموجة لا تنكسر ومتصالحًا كفرس تتهادى عند منحنى؛ عاش ك”سابق لعصره” وكعاشق لقضيته دنف أتعبته الأيام وخذلته الوعود فرحل قبل انبلاج الصبح، الذي ما زال غافيًا في حضن نجمة تنتظر همم رفاقه والفرسان وغناء القمر.
أأقول لكم: لقد رحل قبل الأوان! وهل يرحل المناضلون العاشقون في الأوان؟.
حكاية تيسير بسيطة، سنسمعها كلما اجتمعنا بصحبة “بنات الكرمة” وإن طال السهر، واذاما تنفست وردة وطربت غيمة ورقص حسون وعانق الغبار الشجر، سنسمعه يقول لجميعنا: أنا يا رفاقي لم أمت. ستجدونني كلما رف في ساحات الوطن علم، وكلما زغرد في قبضة حر قلم وحجر، وفي كل صرخة طفل يولد، وستجدونني، يا أصدقائي، في الأغاني والمراثي وفي احتدام القوافي وعند سقوط المطر. أنا لم أمت يا أحبتي فسيروا على الدرب تجدوني، فكل من سار عليها وصل.
سلام عليك يا رفيقي يوم أحببت ويوم تعبت وسلام عليك يوم انتصرت.
جواد بولس