أتون الشَّر
تاريخ النشر: 12/09/17 | 10:06كنا منهمكين في ترديد جبلة الباطون , من أجل تحضيرها , لصبها في أساس جدار , يحيط بعمارة في ضواحي تل ابيب , واذا بأحد العمال يجري بإتجاهنا صارخاً :
“تعالوا وتفرجوا.. ! تعالوا وتفرجوا !”.
لم يترك لنا المجال , كي نتبين منه , ماذا يريد منا!! , ولأية فرجه يريد ان يأخذنا !!
فأكمل قائلاً : “سرجي بصلي.!! سرجي بصلي في غرفة ملجأ العمارة!!”.
فأسرعنا باتجاه الملجأ..
وعندما نزلنا الدرج المؤدي إليه , رأينا منظراً مذهلاً, لقد كان الرجل يركع ويسجد بخشوع شديد , وقفنا مصعوقين متجمدي الأطراف والألسن .
وعندما أنهى صلاته ,أنهلنا عليه من كل جانب بأسئله , حول سرَّ هذه الصلاة.!!
إن “سرجي” هذا , أتانا عاملاً مثلنا , لدى مقاول يهودي ,عرفنا منه , أنه قادم جديد الى البلاد من روسيا , وأفهمنا بلغته التي كانت خليطا من العبرية والروسية والإشارات , انه كان موسيقياً معتبراً في روسيا , ولما لم يجد عملاً في مهنته , التحق بنا ليعمل في البناء. .
وردا على أسئلتنا , أخذنا جانباً , وهمس في آذاننا , ان الإسلام هو عقيدته , ولن يتنازل عنها .!
واستحلفنا بالله , ان نحفظ سره, كي لا تدمر حياته , في مجتمعه اليهودي!!
وفي أحد الأيام , استدعانا المعلم اليهودي, وقال لنا آمراً
:” غداً .. لما تسمعوا “زميرة” صوتها قوي , قفوا حتى تتوقف .!”. ولما تجرأت على سؤاله , عن سبب هذا الطلب , صرخ بي زاجرا : “إعمل ما أطلب منك واخرس .!”.
وبعد يوم او يومين ,سمعنا صفيرة تخرس الآذان , فوقف سرجي حتى توقفت .
فلما سمع المعلم أخبار فعلته , استدعاه وشتمه باللغة العبرية , وأفهمه ان هذه الصفيرة التي سمعتها , هي زامور شحن, كان يطلب سائقه فتح بوابة العمارة , ليفرغ حمولته !!
وفي اليوم التالي , سمع زاموراً قوياً ,فخاف , ان يكون زامور الشاحنة فلم يقف , ولم يتوقف عن العمل.!
فاستدعاه كبيرهم مرة أخرى , وقذف من فمه خليطا من الشتائم بالعبرية والروسية , وقبل ان يتوقف عنها قال : ” مالك لم تقف أمس.!!؟ ” .
فردَّ غولدشتين : ” خفتُ ان يكون هذا الصوت , لزامور الشاحنة .! ” .
.. فصاح المعلم , وعروق صلعته , تكاد ان تطير من رأسه :”هذه المصيبة .!! هذه المصيبة.!! .. ولك مين إلي جابك لهون .! في يهودي ,ما بعرف لإيش هذا الزامور .!؟ , أنا بحلف انك مش يهودي .! ” .
وطرده من العمل.
وغاب عنا , ولم نسمع عنه خبر ..
في أحد الأيام بينما كنت أشاهد نشرة الأخبار بالقناة العبرية .. لفت انتباهي خبر عن قطعان المستوطنين الذين يسمونهم الروابي ..
وجاء في الخبر, أنهم اعتدوا على بيوت ومزروعات وزيتون قرى نابلس .
فلفت انتباهي واحد منهم .. قلت لزوجتي التي كانت تشاهد معي النشرة : ” اني أعرف هذا الشخص .. رأيته مرة ..!”.
فضحكت وقالت : “وين شفته ..!؟ هذا مستوطن .. ! وين أنت أوين هو!”.
تابعت مشاهدة الخبر ..والتركيز الشديد في تفحصه .. والرجوع الى الوراء , في شريط ذكرياتي , الذي فردته في مخيلتي ..
” انه هو .. أنه هو سرجي الروسي .. انه هو ..! ”
صحت من أعماقي.. بعد ان تأكدت من تشخيصه
بقلم : يوسف جمّال -عرعرة