فتاة من بيوت العشوائيات
تاريخ النشر: 10/09/17 | 17:03كانت العتمة الشديدة تعبر بطرفِ مدينة صاخبة بالحياة، بينما كانت تسير تلك الفتاة على رصيف الكروب، الأمطار حينها هطلت بغزارة فوق رأسها، لم تكن تحمل شمسية.. كانت وقتها تخطو في مكان مقفر قرب بيوت عشوائية ملتصقة.. خطت وهي تصيح بلا حسّ.. الفزع اجتاح رصيف الطريق الترابية المحفرّة.. عواء ذئاب ونباح كلاب كثيرة وضالة كانا يسيطران على الخطو.. وصلت أخيرا إلى حارتها العشوائية المليئة ببيوت من الطين، حيث ملجأها الأول والأخير في ظل سياسة تهميش البيوت العشوائية.. فالبيوت العشوائية وحدها ما تركت في مدينة تمجّد الميراث والعادات.. مسكت باب بيتها الخشبي المخلّع ودفعته بغضبٍ ثم ولجتْ إلى داخل البيت، وقالت في ذاتها: أشكر ربّي على وصولي سالمة..
راحتْ إلى خزانتها العتيقة، وتناولت ثيابا لتغيّر ملابسها التي تبللت تماما.. ارتدت بيجامة سوداء بلون الحزن المؤنث اعتادت أن ترتديها.. نظرت إلى نفسها في مرآة مكسّرة منذ زمن، لأنها لم تستطع شراء مرآة جديدة.. وقفت أمامها وقالت: تباهي أنكِ فتاةٌ شريفة في مدينة تتلطخ بالانحلال.. خطتْ صوب مطبخها المكركب كعادته وأعدت لنفسها فنجان شايٍّ أسود عكذا تعودت أن تشربه.. أخذت قلم الرصاص المحبوب لديها وتناولتْ ورقةً بيضاء.. خطت صوب فراشِ البؤس البارد الشبيه بدمّ أهل البلد المتنفّذين فيها.. العاصفة المطرية في الخارج تهزّ زوايا بيتها المتواضع النقيّ من ثقافة البلد الطاغية.. الشبابيك المكسّرة زجاجها تصدر صفيرا مخيفا من الرياح الباردة.. هزيم المطر كان يرتفع وهي متقوقعة في زاوية حجرتها.. تناولت ما تبقى في فنجان الشاي الأسود .. كانت دموعها تدمع دموع البقاء.. قطرات الدموع سالت من عينيها الحزينتين.. ووحده طيف العشق المقتول في حصون النفاق كان يلمس رأسها المثقل بالحزن والألم، ولم يعدها بالإياب.. لتظلّ أحلامها حبيسة تنهل الألم المضاعف.. ألم الكلوم الممدود على روح أنوثتها المحاط بقطعة ثياب من سيطرة الرجال.. وألم الاشتياق لشذا عطر طير البحع.. على زوايا سريره أخذت قلم الرصاص لتعلن خلاصة الموضوع، كأنها أخذت رشاشا لتقتل سكوتها الخائف.. لا نستسلم لا لن نستسلم.. كلّ وثنٍ في معاجم الظّلم سيهشّم.. فتيات أطواد الكبرياء لن تنهزم.. على رصيف التهميش الجنوني.. انكسر قلم الرصاص وهي تكتب غضبها.. الموت الموت كفى تواطؤا على الذاكرة.. سكنت قليلا ثم أخذت القلم بقوة وغزّته في الورقة البيضاء المخربش عليها كلمات الغضب.. قامت بغزّ الورقة مرات كثيرة وهي تصيح هكذا تموت خلاصة الموضوع في بلدي.. هكذا تموت حريتنا المرغوبة على الورق.. هكذا تنحر الحذاقة على وليمة الوسيط.. حملت في يدها المرتعشة قلم الرصاص المكسور وحقدها لم يبرأ بعد.. صاحت بصوت عالٍ.. التمرّد.. عاصفة الفقر.. لن نذلّ أكثر.. فقدتْ وعيها وسقطتْ على أرضية الحجرة.. صحتْ بعد مرور وقتٍ قصير على لعقِ كلبها النظيف والمخلص.. قامت بإطفاء لامبة الكاز المكسّرة بلغة كبتٍ غاضبة.. استرخت على فراشها وراحت تتمتم في ذاتها ما أحلى النوم، لأنه هو من ينسّيني همومي..
بقلم:عطا الله شاهين