حين أوقفوني عن ممارسة التدريس
تاريخ النشر: 13/10/17 | 16:00نشرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية الواسعة الانتشار يوم الجمعة الفائت في ملحقها المعروف “سبعة أيام” تقريرًا موسعًا “كشفت” فيه بعناوين مثيرة حصولها على وثائق سرية تبيّن كيف عمل جهاز المخابرات العامة ” الشاباك” طيلة عقود داخل المدارس العربية وقام، بتواطئ وزارة المعارف الإسرائيلية، بتفعيل “جهاز ظل”سري كانت وظيفته التأكد من عدم توظيف معلمين ومدراء مدارس عرب صنفوا “بالمرفوضين” وعرقلة تعيين من اعتبرهم ذلك الجهاز “كمعادين للدولة”.
يشرح معدّا التقرير حقائق كان معظمها مستشعرًا لكثيرين من المواطنين العرب في إسرائيل لا سيما في العقود الأولى التي تلت النكبة، وفي حقبة سوف أسميها بزمن “الصدمة المزدوجة”؛ فالأقلية العربية التي نجت من لعنة التهجير صحت على صدمة الهزيمة وأُخضعت مباشرة لظلام وظلم حكم عسكري كانت مهمته الأولى تقريف الحياة على أولئك العرب “المشاكسين” والتعامل معهم بهدي فرضية واحدة وحيدة تقضي باعتبارهم أعداء للكيان الجديد ومخلوقات سيكون هضمها عسيرًا إن لم يكن مستحيلًا، وفي المقابل أفاقت منظمات الحركة الصهيونية على واقع كان أوضح من حلمها ومن نشوتها، فلم يحتلوا “وطنًا” نظيفًا يقطر حليبًا وعسلًا، بل بلادًا يحكي زيتونها عن عشق الفجر فيها للتراب وعن غرام نسيم الريح بملح بحرها، والطير في جنباتها تعرف قمحها وأهلها وسروها يتكتم بلغة الغبار عن دمعها وأسرارها.
بعد النكبة ولغاية اليوم كانت سياسة إسرائيل إفساد عملية تعليم المواطنين العرب وتحويلها إلى مجرد وسيلة تفرغ عمليًا أرواح الناشئة من المضامين الإنسانية الحقيقية وتشوهها، ومن القيم القومية الصحيحة بهدف ضمانهم ولادة أجيال هشة الهوية مجوفة الصدور والجماجمم، فمن منا لم يعرف ما كتبته “يديعوت أحرونوت” وآباؤنا ونحن من بعدهم، كنا ضحايا لتلك السياسات الجهنمية الساقطة؟
في العام ١٩٧٨ كنت طالبًا في كلية الحقوق في الجامعة العبرية في القدس. عملت بوظيفة جزئية في مكتب المحامي الياس خوري في شارع صلاح الدين، يوم كان عدد المحامين العرب العاملين في القدس لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة.
في أحد الأيام ناداني إلى غرفته. كان يجلس مقابله شاب أسمر بدا لي لوهلة أنه من أصول هندية، شعره أجعد قصير، في وسط وجهه شارب كث يشبه سلة صغيرة مليئة بحبات القراسيا الناضجة. مع اقترابي توقف عن الكلام ونظر الي بحركة وشت عن كونه مضغوطًا وكأنه يخاف أن ينسى بقية قصته. سلم علي من دون أن يقف منتصبًا، إنتبهت لبقية جسمه وكان طويلًا يشبه أجسام رماة الرمح وصدره مصقولًا كصدر الرياضيين في الأفلام. ارتفعت شفته قليلًا، بما يشبه البسمة، فشعرت بانتهاء طقس التعارف معه.
لم أجلس طويلًا. تناولت بضعة ملفات كان الضيف فارس قد أحضرها وفيها عدة وثائق أراد من خلالها أن يثبت صحة قصته التي لم أسمعها بالكامل، ومصممًا على التوجه إلى محكمة العمل الإسرائيلية ليدافع عن موقفه وعن وظيفته المرموقة كمسؤول عن القوى البشرية في وزارة المعارف.
لست متأكدًا مما تعرفه أجيال اليوم عن تلك السنين ولا عمّا سبقها، فنحن، كطلاب جامعيين في أواسط سبعينيات القرن الماضي، كنا جزءًا من الحركة الوطنية الكفاحية للجماهير العربية في إسرائيل حين شكلت الحركة الطلابية في جامعات البلاد رافدًا نضاليًا مميزًا وساحة صدامية نشطة شهدت قمة المواجهات المباشرة مع قوى اليمين الفاشي الذي أفرز مع مرور السنين رموز حكام الدولة في هذه الأيام.
قبلنا قاوم جيل النكبة، الآباء المؤسسون، مضاعفات تلك “الصدمة المزدوجة” وفي حكمة لامست المعجزة فوتوا على أرباب الدولة الجديدة جميع فرص الإجهاز على الوجود الفلسطيني فبقيت أقلية في وعلى أرضها وضمدت جراحها وصمدت وكبرت حتى صار لها هوية وجذور وقوام وقدود وأغصان وارفة.
في كل بلدة كان يعمل بعض الوشاة، وعلى الأغلب كانت الناس تعرفهم ويسمونهم “أذنابًا”. كانت مهامهم تقتصر على نقل المعلومات اليومية عن أهالي القرية خاصة عن “المشبوهين”بوطنيتهم ونشاطهم الجماهيري وأهم تلك الوشايات كانت تتمحور حول من شارك في مظاهرة وطنية أو من لم يرفع على بيته علم إسرائيل في يوم الاستقلال أو من يقرأ جريدة “الاتحاد” الشيوعية، أو من يستمع الى خطاب جمال عبد الناصر وراديو “صوت العرب” وما إلى ذلك من ممارسات قد تبدو لأجيال اليوم عادية، لكنها كانت في تلك السنوات كافية لطرد معلم من وظيفته أو عامل من مصنعه أو عدم قبول “الفاعل” للجامعة أو في مكان عمل، والقرى العربية تزخر بقصص القمع هذه وبمواقف الضحايا وبطولات بعضهم فلهؤلاء تاريخ “أقوى من النسيان”.
عدت إلى غرفتي في المكتب، وبدأت أراجع وأتفحص وأبوب محتويات الملفات التي أحضرها فارس؛ سريعًا تحققت من أن معظم تلك الوثائق كانت عبارة عن مذكرات داخلية محولة إلى مكتب المسؤول عن القوى البشرية وفيها تعليمات ينتظر منه تنفيذها.
مع كل وثيقة قرأتها امتلأت غضبًا لكنني كنت أتماسك، فالرجل جاءنا مشتكيًا تنكيل المسؤولين به وذلك بعد رفضه، هكذا فهمت، تنفيذ التعليمات التي كانت في معظمها عبارة عن توصيات من جهاز “الشاباك” .
حققت عشرات الوثائق وصنفتها متمالكًا أعصابي حتى وصلت إلى مذكرة معنونة كغيرها بالسرية وموجهة من المدعو ” يوني” إلى المدعو ” يوسي” وكان موضوعها ضرورة العمل على توقيف، جواد جبران بولس، عن عمله كمعلم بديل في مدرسة كفرياسيف الابتدائية.
قمت عن الكرسي بغضب طالب جامعي كان ينام على وسائد محشوة بالبرق، وتوجهت نحو غرفة المحامي الذي كان يعد مع فارس تصريحًا مشفوعًا بالقسم يشرح فيه كيف كانت تعمل طريقة تعيين المعلمين والمدراء العرب.
كان “الشاباك” يملي مواقفه بشكل مباشر من خلال موظف “زرع” في الوزارة كي يشرف على تنفيذ عمليات إبعاد كل من كان “مشبوهًا” أو منع توظيف من كان “مرفوضًا” لأسباب أمنية، وذلك بموافقة وزير المعارف نفسه.
توقفا عن الحديث ونظرا صوبي، كانت نظرة إلياس مندهشة ومتفحصة وبدا فارس كمن لم يستوعب كيف رفعت الورقة في وجهه وصرخت بدون أدب “يا زلمي أنت خرّاب بيوت، شغلتك تقطع أرزاق العرب”.
لم أنه محاضرتي الوطنية، فلقد أجلساني وشرحا لي كيف أنهى المسؤولون في الوزارة عقد عمل فارس بعد أن قرر التوقف عن تنفيذ تلك التعليمات وجاءنا بغرض مقاضاة الوزارة.
كنت طالبًا وابنًا لمعلمَيْن من جيل البنائين الأصايل، الذين عرفوا كيف يضوّعون عبق الوطن في أرجاء البيت وبين حروف الكلمات في المدارس. جيل مارس، رغم الجراح والكبت والفقر والملاحقات، رسالتهم كالملائكة وكسدنة الحكمة والشرف فصاروا الرسل ينقلون لنا وللأجيال معاني العزة في الحياة والكرامة حين تكون مجبولة مع رائحة التراب وهو يعانق ندى الحواكير وعرق الجباه السمراء العالية.
كطالب في كلية الحقوق استوعبتني، كما كان دارجًا، مدرسة البلدة للعمل في إجازات الجامعه كمدرس بديل إذا ما غاب معلم بسبب مرض أو عذر آخر.
أحببت دروس العربية والتاريخ وأذكر أن مناهج صفوف السوابع والثوامن كانت تغيظني، خاصة بعدما اكتشفت أنهم يعلمون الطلاب عن ثورة أكتوبر، وكنا من عشاقها، مادة لا تملأ نصف صفحة، ووراءها مباشرة يعلمون عن تاريخ الحركة الصهيونية ما يغطي عشرات الصفحات، وفي العربية لا وجود لشعر محمود درويش وزياد وجبران والقاسم وكانوا لدينا أيقونات نسهر على أعتاب قصائدهم ونفيق مع ضجيجها.
تذكرت وأنا اقرأ مع فارس بعض مذكرات “القهر والانتقام” كيف كنت أغلق كتب المدرسة وأعلم ” طلابي” ملامح عن هويتنا الحاضرة وبعضًا من أمنياتنا وأحلامنا وأنشد معهم “هبوا ضحايا الاضطهاد”، فضحكنا وعرفنا لماذا أوقفوني عن ممارسة تلك المهنة المقدسة.
لا يوجد كشف جديد في تقرير “يديعوت أحرونوت” وقد يكون النشر لمجرد إنهم وقعوا على بعض الوثائق التي كانت لأسباب أمنية مكتومة، لكنني أؤكد أن سياسة التجهيل المتعمدة ما زالت هدفًا رئيسيًا عند من يهندسون واقعنا ومستقبلنا كمواطنين عرب أصبحنا نشكل خمس عدد سكان الدولة.
وإذا كان لنا في التاريخ عبرة فمن الواضح أن من خطط لبقائنا سقاة ورعاة وعمال محاجر فشل وملامح هويتنا المصقولة في سنوات الشهد الأول تشهد على ذلك الاخفاق الكبير؛ لكنهم، كما نعرف، لم ولن ييأسوا وككل حاكم مستبد وعنصري ما زالوا يرسمون البرامج لتهميشنا والخطط الجديدة لتذويبنا، وقد تكون فرصة نشر المقالة حافزًا لإعادة النظر بواقع مدارسنا وبحالتنا خاصة ونحن غرقى في فوضى الكلام وزيف المعاني والمفاهيم وقد “غاب” عنها في زحمة الالتباس من كانت كل الناس تعرفهم وتعرّفهم “أذنابًا” وضاعت “طاسة البلد” وبدأنا نشهد تصدعات خطيرة في ملامح هويتنا الوطنية وسقوطًا مدويًا لكثير من قلاعنا الحامية وتيهًا عن بوصلات دروبنا، فإسرائيل تعرف أن المدارس ومدرائها والمعلمين فيها هي صهاريج لصقل الهوية والنفوس والعقول والقلوب وهي مساكب المستقبل، فهل سنفيق
ونعرف مثلها و”نغار” منها ؟
جواد بولس