الشاعر سعود الأسدي يسقي دار عنبتا
تاريخ النشر: 26/08/11 | 2:15حلت في السابع عشر من تموز الماضي ذكرى الشاعر الفارس عبد الرحيم محمود، الذي إستشهد وسال دمه الغالي على التراب المقدس دفاعاً عن فلسطين، أرضاً وشعباً وتاريخاً وتراثاً.
لم يكن عبد الرحيم محمود إنساناً عادياً، ولم يعش حياة عادية، بل إنخرط في معارك النضال والكفاح والتحرر، وكان إنساناً مناضلاً، ومفكراً، ومثقفاً، وشاعراً ثورياً مقاتلاً، أعطى في حياته وموته نموذجاً ومثلاً صادقاً للعلاقة العضوية التي لا تنفصم بين الفكر والممارسة عندما قال: “ساحمل روحي على راحتي والقي بها في مهاوي الردى فأما حياة تسر الصديق واما ممات يغيظ العدا”.
وصدق الأديب الراحل نواف عبد حسن حين كتب يقول في مقدمة كتاب “عبد الرحيم محمود بين الوفاء والذكرى” الصادر عن مركز إحياء التراث في الطيبة عام 1990: “كانت حياته شهادة، وموته كتابا ورقية، ويظل عبد الرحيم محمود بوصلة تهدي القلب التائه الى شغاف الحب . لم يكن لذلك الفلسطيني العنيد القبول بالموت كالآخرين فأندفع نحو خلاصه الخاص لكأنك تلمحه متألقاً على جباه اطفال فلسطين، يحدوهم أن يغدقوا العطاء لكي يتسرب شعاع الحياة لنسل توحدت على يديه الجراح الشاخبة شعراً وسلوكاً”.
وخلال العقود الأخيرة أقيمت العديد من النشاطات والفعاليات، التي تخلد وتستحضر ذكرى هذا الشاعر الشهيد البطل. وتحققت انجازات كثيرة، حفظاً للذاكرة وتحقيقاً للذات، التي تخص هذا الشاعر، منها اعادة اصدار ديوانه “روحي على راحتي” واعماله الادبية الكاملة، كذلك ترميم ضريحه وإزاحة الستار عن نصبه التذكاري في ذكرى استشهاده عام 1986 في الناصرة ، وإقامة مهرجانات إحتفالية وتأبينية واستذكارية في عمان والطيبة والناصرة وعنبتا، القيت فيها كتابات وابداعات تشع دفئاً وحنيناً ووفاءً لعبد الرحيم محمود، الشاعر والإنسان والثائر.
وكان الشاعر الفلسطيني سعود الاسدي جاد بقصيدة، بل معلقة مكتوبة بالدم الفلسطيني القاني المجبول بتراب الوطن، بمناسبة الذكرى الخمسين لإستشهاد المناضل الشاعر عبد الرحيم محمود بعنوان “سقياً لدار في عنبتا” نشرها في صحيفة “الإتحاد” الحيفاوية العريقة يوم 17 تموز عام 1998، ونقتطف من أبياتها الـ (47) هذه الأبيات:
عبد الرحيم الا بعثت جديداً حيا، كعهدك اذ قضيت شهيدا
كم رحت ما بين الجموع مكرما وغدوت فيهم بالكفاح مجيدا
سقياً لدار في “عنبتا”اطلقت من صوت شعرك بلبلاً غريدا
ولطولكرم مذ حملت ربابة ما زال قوس عناقها مشدودا
غنيت حسن بناتها شعراًعلى ايقاعه صارت تمليس قدودا
وأخالها ترنو اليك نواظراً وتميل اعناق الصبا وخدودا
نفحتك من زهر الرواء ورودا وحبتك من نبع الصفاء ورودا
ورأت خيالك في رفارف ليلها املاً على احلامها معقودا
لما فلسطين رأتك مجليا فيها، ومن قبل الرشاد رشيدا
الى ان يقول:
رحماك علمنا الجهاد وخصنا بدروسه، وافد به لنفيدا
انا لنقتبس المفاخر جمه مما اعادوك طيباً محمودا
ونردد البيت الذي هتفت به مهج الكماة بيارقاً وبنودا
انا سنحمل فوق راحتك التي حملتها روح الفدا نشيدا
ونزج بالمهج التي عشقت رؤى ما ترتئيه مواقفاً وشهودا
حتى نعيش مكرمين بموطن نهواه مثلك، او نموت اسودا
فهل هناك أكثر صدقاً ورقة وجمالاً وشفافية وحساً إنسانياً ومشاعر نبيلة وفياضة أكثر مما جاء في هذه الرائعة الشعرية، التي فاضت بها روح سعود الأسدي الشاعرية في ذكرى عبد الرحيم محمود؟!.
ففي هذه القصيدة تبرز مقدرة شاعرنا الأسدي وتجربته الأدبية العميقة، وتتجلى الروح الشاعرية المبدعة الخلاّقة، والنفس الشعري العميق، والكلمة البليغة، واللغة الطلية عدا الإستعارات والتشبيهات والأوصاف البديعة والصور الشعرية الأنيقة المبتكرة والإيقاع الموسيقي الفني القادر على سبر الأغوار وملامسة شغاف القلوب.
حقاً اننا امام هرم شعري باسق، ومبدع كبير، وشاعر مجرب، صادق البوح، ممسك بتلابيب الكلمة، ومتمسك بالأصالة والإبداع الشامل، وله خبرته الطويلة وإطلاعه الواسع . . شاعر يتدفق عطاءً وحباً للحياة، ويدهشنا ويأسرنا بتعابيره الخصبة ذات الرهافة والدفء الإنساني.
فيعطيك العافية يا أبا تميم، يا شاعر الحب والجمال والصفاء والرثاء، وصاحب الروح الهائمة المحلقة في سماء الوطن الكنعاني، ولتظل نبراساً وقلماً سيالاً في روض الشعر ومحراب الكلمة الصادقة والأدب الإنساني والشعبي الرعوي، وثق أن لك قراء واحباء يتشوقون وينتظرون كل كلمة جميلة زاهية وهادفة بناءة يجود بها فكرك وقلمك وقريحتك.
من شاكر فريد حسن