قاعد قعدة خوري
تاريخ النشر: 08/12/17 | 9:22كان لي شرف المشاركة في المظاهرة والمسيرة التي دعا اليها المجلسُ المليّ الارثوذكسي الحيفاوي والمؤتمرُ الارثوذكسي، ضد صفقات تسريب اراضي وعقارات في مدينة القدس، قام ويقوم بها البطريرك ثيوفيلوس لصالح جهات مختلفة ومنها جهات صهيونية استيطانية. ومن الشعارات التي رفعتها الايدي وردّدتْها الحناجرُ كان شعار “اول مطلب عزل البطرك”.
رغم عدالة هذا المطلب واحقيّته، فإن صديقي امين الذي كان محاذيا لي في المسيرة التي انطلقت من دوار اليونسكو في حيفا، نحو كنيسة الروم الارثوذكس، كان يتساءل على مسمعي بألمٍ وبحسرة: “هبّ ان ذلك سيحدث فعلا، فهل البطرك الجديد سيكون افضل من الحالي؟ وهل البطرك الحالي هو افضل من سلفِه؟ وهل تعاقب البطاركة على السدّة البطريركية في القدس منذ ان اختطفها البطريركُ اليوناني المقنَّع جرمانوس، ، سنة 1534، قد ساهم ولو قيد انملة في تحسين اوضاع هذه الطائفة الارثوذكسية العربية ؟ وهل هذه المظاهرة ستحقق ما لم تحققه سلسلةٌ طويلةٌ من المظاهرات والاعتصامات والمؤتمرات خلال القرون الخمسة الاخيرة؟ وهل سيتحرر يوما العربُ الارثوذكس التابعين للبطريركية المقدسية، من التسلّط اليوناني الجاثم على صدورهم والقاعد على اعناقهم؟”. هذه التساؤلات التي اطلقها امين والتي تطغى “لا النافيةُ” على اجوبتها ، قد جعلته يبدو منقبضا عصبيَّ المزاج، مما جعلني اقلقُ على صحته التي باتت هشةً في اعقاب نوبةٍ قلبية كانت قد المّت به قبل اشهر قليلة، فقررتُ ان اخفّف عن روحه بنادرةٍ مستمدة من وحيِّ الموقف الذي كنّا فيه.
قلتُ لامين ان تعبيرَ ” قاعِد على اعناقهم” الذي ورد في حديثه قبل قليل، يذكرني بتعبير ” قاعد قعدة خوري” المتداول في قرى الجليل، والذي يُطلق على من لا يمكن زحزحتُه من موقعه أكان ذلك منصبا دينيا او مدنيا ..الخ، باعتبار ان الخوري في مجتمعنا سيما في المجتمع القروي الجليلي، له من الاحترام والاعتبار، ما يمنحه مركزَ الصدارة غير المنازَع في الديوان ويدعِّمُه بحصانةٍ عصيّةٍ على كلِ مَنْ يستعجِلُه او يستحثّه، فيصبح طولُ السهرة في الديوان منوطا بطول قعدة (قعود) الخوري. غير ان هذا التعبير، اي ” قاعد قعدة خوري”، قد اكتسب صورةً مغايرة في قريتي فسوطه، فاصبح الناس يقولون في السياق ذاته: “راكب ركبة خوري”، ربما استظرافا واستلطافا لما قاله ابو عكرمة للخوري باسيليوس لحام حسب الرواية التالية:
قام المطران حجار الملقّب بمطران العرب، سنة 1940 اي قبيل وفاته في حادث طرق، بتعيين الخوري باسيليوس لحام كاهنا جديدا لخدمة رعية فسوطة ومديرا لمدرستها الاسقفية. كان الخوري باسيليوس آنذاك شابا في مقتبل العمر وقد انهى للتوّ دراستَه الاكليريكية في مدرسة الصلاحية في القدس. عمل هذا الخوري بجدٍّ ونشاط ولطف فاستحوذ على احترام الناس وتقديرهم، ممّا جعل المطران يلقي عليه ايضا مهمةَ خدمة رعيةٍ قليلةِ العدد في قرية حرفيش المجاورة لفسوطة، والتي تبعد عنها نحو سبعة كيلومترات في ارض جبلية صعبة.
ابتدأ الخوري باسيليوس بممارسة مهامه. ففي صباح يوم أحد وبعد ان انهى خدمة القداس في فسوطه، اراد التوجه فورا الى حرفيش لخدمة رعيته الثانية هناك. لم تكن السيارات متوفرة آنذاك ما بين فسوطه وحرفيش، والتنقل كان يتم غالبا مشيا على الاقدام او ركوبا على الخيل او على الدواب الاخرى. اراد الخوري ان يستعين بواحد من شباب فسوطه ليرافقه في ذهابه الى حرفيش وايابه منها. لبّى ابو عكرمة النداء، وكان رحمه الله شابا عالي الهمة، سريع البديهة، لبق الحديث، حاضر النكتة وظريف المعشر فضلا عن كونه زجّالا مبدِعا وهاويا مغرما بالزجل اللبناني كمعظم اهالي فسوطة.
إحتراما للخوري وتسهيلا لمهمته، جنّد ابو عكرمة حصانَه الكديش الحرّاث ليكون هو ايضا في خدمة الخوري في طريقه الى حرفيش ذهابا وايابا. نظّف ابو عكرمة الحصانَ من غبارالفلاحة المتراكم عليه، ووضع على ظهره السرج القروي المعروف باسم “الشاغر”.
لبّى الخوري دعوة ابي عكرمه، فاعتلى ظهر الحصان متكئا على كتف الرجل، واستقرّ فوق الشاغر، تاركا الرسن بيد ابي عكرمه ليجرّ الحصان ، من فسوطه حتى مدخل كنيسة حرفيش، بدون استراحة. ما ان انتهى الطقس الديني، حتى خرجَ الخوري من الكنيسة مستعجلا هذه المرة ايضا، ومعتذرا لابناء رعية حرفيش، وايضا للمشايخ الدروز الذين كانوا بانتطاره في ساحة الكنيسة للتسليم عليه ودعوته لزيارتهم ، ودونما مقدمات كثيرة عاد ليعتلي ظهر الحصان تاركا الرسن بيد ابي عكرمه، على طريق العودة الى فسوطه بدون توقفٍ او استراحة.
عندما وصلا الى فسوطه، كان التعب قد انهك ابا عكرمه. اراد الخوري ان يترجّل، فسارع ابو عكرمة الى اعتراض طريقة ، قائلا له: “لن ادعك تترجّل إلا إذا قلتَ لي: الله يغضب عليك”. قال الخوري (باستغراب شديد): “لماذا يا ابو عكرمة؟! وكيف يمكنني ان اقول لك هذا؟! وهل هذا معقول؟!”. لكن ابا عكرمة بقي مصرا على رأيه وهو يقول للخوري: “إما أن تقول لي: الله يغضب عليك، وإما أن اتركك معلقًا على ظهر الحصان”. حاول الخوري مرة اخرى ان يتخلص من هذا الطلب الصعب، فاصطدم من جديد بالموقف الحازم ذاته الذي اتخذه ابو عكرمة قائلا : “هذا هو قراري الاخير”. لم يبق امام الخوري الا ان يحاول التخلص من هذا “المطبّ” فقال: “طيّب لمجد الله يا ابو عكرمة، الله يغضب عليك”. إبتسم ابو عكرمة ابتسامة عريضة قائلا: ” فعلا، الله يغضب عليّ اذا بَعِدْ بَرَكِّبْ خوري”.
د. حاتم عيد خوري