في ذكرى وفاة المفكر والناقد المصري محمود أمين العالم
تاريخ النشر: 14/01/18 | 8:27تصادف هذه الأيام ذكرى وفاة المفكر والناقد اليساري التقدمي المصري محمود امين العالم، احد ابرز المثقفين الماركسيين العرب والمع النقاد الواقعيين في الوطن العربي،الذي رحل عن دنيانا في كانون الثاني العام 2009 بعد رحلة حياة عريضة ثرية بالمنجزات والنضالات السياسية والمعارك الفكرية والعطاءات الادبية والثقافية والنقدية والبحثية.
والراحل محمود امين العالم ناشط يساري ومثقف ملحمي ثوري واشكالي، راديكالي في فكره وممارسته، كان الاكثر حضورا وغنى ومعرفة واصالة وعمقا في الحياة الفكرية والثقافية والادبية. ومنذ اربعينيات القرن العشرين الماضي اختار الماركسية عن قناعة تامة واعتنقها اعتناقا فلسفيا علميا وعقائديا راسخا، وفي الخمسينيات دخل السجن وخرج منه ليصعد الى مكانة مميزة ومرموقة على المسرح ليصل الى خيمة المعارضة والنفي في السبعينيات، وهو في كل هذا قدم خليطا لتجارب عديدة وادوارا متباينة في الكتابة الشعرية الابداعية والنقد والفلسفة والفكر العلمي والتنوير وعلم النفس بحماسه ودوره السياسي، وظل قابضا على جمرة الثقافة والعقل والثورة، ورابضها على قمة الحلم والامل والتفاؤل الثوري، خائضا السجالات الحوارية المعرفية والمعارك الفكرية المضيئة ضد آباء الثقافة وقياصرة الكلمة الذين يريدون لها ان تسكت وتصمت. ومنذ اول كتبه “في الثقافة المصرية” الذي الفه بالاشتراك مع احد مجايليه الدكتور عبد العظيم انيس، وهو حصيلة معركته الفكرية ضد طه حسين وعباس محمود العقاد، وحتى كتابه “الفكر العربي بين الخصوصية والكونية” بقي العالم مدافعا حقيقيا عن نقاء الفكر ومقاتلا عنيدا دفاعا عن انسانية الانسان، وعن قيم التنور والتقدم والعدالة والنهضة والتحرر في عالم استهلاكي وواقع فاسد قبيح، قامع وظلامي.
وقد اثار محمود العالم الحب والاعجاب والتقدير لما تميز به من تواضع انساني وصدق واستقامة ومصداقية واخلاص للمبادئ والمثل والافكار التي آمن بها، وعرف عنه حبه للعدل والدمقراطية وعيشة الحرية وكراهيته للظلم والقهر والكبت والاضطهاد والاستغلال الطبقي. ومن يقرأ اعماله وكتاباته يشعر ويحس بفكره العميق وثقافته الايديولوجية واطلاعه الواسع على الثقافات والحضارات العالمية وباعه الطويلة، ورؤاه السياسية والفنية والثقافية والتي وظفها جميعها لتكون لسانا حرا وقلما نظيفا لا يباع في سوق النخاسة ولا يخاف من سيف السلطان المصلت فوق اعناق الجماهير.
ومحمود العالم من اقطاب ورواد الفلسفة العربية والفكر العلمي التقدمي العربي المعاصر، وباحث عن المعرفة من خلال انسانية الثقافة، سبح في لجج النهضة الثقافية وادخل الفلسفة على النقد والسياسة، وراهن على الكلمة النظيفة المقاتلة والمقاومة. وعلى الفكر الايديولوجي الماركسي، طارحا البدائل والحلول للمسائل والقضايا المصيرية والاشكالية العربية، ووجه النقد لمفكري وفلاسفة النهضة العلمية والثقافية الثانية، ودعا الى تأسيس وانشاء برلمان للمثقفين العرب وبلورة مشروع تنموي ذاتي شامل للشعوب العربية.
ومحمود امين العالم انسان متعدد المواهب ومتشعب الاهتمامات، امتهن كتابة النقد الادبي، هذا المشروع المتماسك والاثير والذي التحم به استاذا واكاديميا وكاتبا، وهو يؤسس لنقد واقعي وعلمي وقراءة نقدية جادة ومعرفة متجذرة عرفناها من خلال كتابه الذي صدر في القاهرة قبل سنوات بعنوان “اربعون عاما من النقد الادبي”.
ومحمود امين العالم كان شديد الحضور والتوهج في ميادين الفكر والفلسفة ودنيا الصحافة والاعلام، ومشاركا فاعلا وفعالا في المنصات والمؤتمرات الفكرية والعلمية، ومساهما في الكتابة واصدار مجلة “قضايا معاصرة” التي عالجت الكثير من القضايا المحورية المهمة والاجندة الفكرية المعاصرة، ولكتاباته الفكرية واسهاماته النقدية ومنجزاته البحثية الاثر الكبير والبالغ على الحركة اليسارية العربية وتجذير الثقافة التأصيلية الدمقراطية التقدمية واليسارية النقدية في مصر والعالم العربي. وقدم العالم مكتبة كاملة من الكتب والمؤلفات القيمة اهمها وابرزها: “معارك فكرية” و”الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي” و”ثلاثية الرفض والهزيمة – دراسة في ادب صنع الله ابراهيم” و”تأملات في عالم نجيب محفوظ” و”الوجه والقناع في المسرح العربي المعاصر” و”هربرت ماركوزي وفلسفة الطريق المسدود” وما عدا ذلك.
ويرى محمود العالم، المدافع الاشد عن العقل والعقلانية والتنوير، ان التنوير هو دعوة الى احترام العقل والتعددية الفكرية والسياسية، واحترام الاختلاف الذي تقف على ارضيته هذه التعددية، ولكن هذه الدعوة لا يتحقق بها وحدها التنوير، ما لم ترتبط وتتفاعل مع عملية مجتمعية شاملة، ومأخذه على دعوة التنوير العربية المجتمعية بأنها توقفت طويلا عند الجانب الثقافي النخبوي للمجتمع، باعتباره البنية الفوقية الطليعية في حين ان التنوير – كما يقول – لا يتحقق في ملكوت الذهن وحده، بل لا بد له ان يتجسد في ملكوت الواقع تغييرا حقيقيا والا ظل معلقا ونخبويا وبرانيا كما هوالحال الآن، وعبر مئة عام تقريبا عشناها في عزلة عن حركة المجتمع، فانتجت تيارات ظلامية وارهابية لجأت الى التكفير ولغة الرصاص والعنف، وفي النهاية يذهب الى القول بان هناك ضرورة بان نعي الدرس جيدا، وان ترتبط بدعوة التنوير الثقافية تحركات تنويرية اجتماعية موازية.
وبخصوص القول ان الايديولوجيا سقطت وانتهت يؤكد العالم بان الايديولوجيا، رغم التحولات العالمية الكبرى، لم تنته، لأن هذه النهاية معناها نهاية العالم. وهو يشير الى ان المشكلة الاكثر فداحة على المستوى العربي هي ان بعض الماركسيين اعتبروا “الماركسية” خلافا لاعتبارات ماركس نفسه، “دينا” غير قابل للتطوير او التعديل، وبذلك وقعوا في مزالق كنا نربأ بهم عن الوقوع فيها، وفي ارتباكات ايديولوجية مؤسفة ومؤسية بل مأساوية بكل تقدير، بينما لا وجود للمطلق في الماركسية الحقة، ولا للمذهبية التي تحولها الى نصوص معزولة عن الواقع الديناميكي المتطور والجدلي. وبتقديره ان هذه “الاصولية الماركسية” لا تقل خطرا في معاداتها للعقل والتنوير عن الاصولية الدينية المتطرفة، فكلتاهما تتعسف في اسقاط رؤاه وتصوراته الفوقية فيسقط على صخرة هذا الواقع آخر الامر، ذلك ان كل الافكار والمذاهب الفوقية والنخبوية العزلوية تجد نفسها – عاجلا ام آجلا – في عداء مع حركة التحديث والتقدم والتنوير المجتمعية، فتنهار انهيارا مروعا.
محمود امين العالم كان عالما وحالما بمجتمع انساني تقدمي علماني تسوده العدالة الاجتماعية، ومثالا ساميا للمثقف الطليعي الذي لم يفصل بين السلوك العملي والفكر، وينذر حياته من اجل الآخرين والمستقبل الجميل لكل الكادحين، وبوفاته تختتم حياة حرة معطاءة مفعمة بالفكر الايديولوجي النزيه والعمل المثابر والنضال الدؤوب لاجل كرامة الانسان وحريته المفقودة. واننا لعلى ثقة تامة بان محمود العالم سيعيش طويلا في نفوس وعقول وضمائر المثقفين الانسانيين وكل الكادحين والعارفين بفضله.
فسلاما لروحك ايها المثقف النقدي الذي حمل قضايا الفكر والعدل والحق والحرية، ويا اغرب عاشق اخلص، ولك ثواب العشق وجزاء الاخلاص والوفاء.
بقلم : شاكر فريد حسن