هواجس نكبة – حين يكون “اللوز” مرًا
تاريخ النشر: 04/03/18 | 12:06عندما كنا صغارًا علّمنا “الكبار” أننا نُكبنا بسبب تآمر ثلاثة عوامل علينا، نحن الفلسطينيين؛ فالاستعمار العالمي والقيادات الرجعية العربية والحركة الصهيونية تضافروا ضدنا حتى “راحت” منا فلسطين، التي كانت أشهى من زهر اللوز في أذار وولادة قصيدة وتفتق عطر البيارات.
وعندما كبرنا قليلًا فهمنا أنّ المؤامرة كانت فظيعة، لكنّ بساطة الناس وجهلهم كانا أفظع، فطيبة القلوب وخلوّ الجيوب جعلتا مآرب “الخواجات” تبدو، بأعين أهل البلاد، أحلامًا مستحيلة، والثقة الساذجة بأن “السماء” معنا مهّدت الطرقات لقوافل الرحيل صوب “مدائن القماش” والتيه في “هاءات” الهجيج وعيون الوجع.
واليوم، بعدما كبرنا كثيراً وشاخت لوزات حواكيرنا وصارت بيارات يافا وبيسان مجرد صور في متاحف الذاكرة والتراث، مازلنا ننام ، كأولئك البسطاء، في الأوكار ونصحو وكأنّ ما يلدغنا ليس إلا ظلال أمراس حريرية وجدائل فجر مأمول.
على أبوابنا، نحن أحفاد الخسارة، “تدق الأكف ويعلو الضجيج” وتتلى، بالسر وبالعلن، أناشيد الموت على مسامعنا، والذبائح تُعدّ لأيـــام “غفران” وشيكة، بينما، في المقابل، ما زالت سماء الشرق غافية وأصوات الضياع والعجز تهمس في آذاننا وتُطمئن بألا نخاف لأن ما نسمعه هو أصداء عنادلنا البعيدة وتهاليل اخوتنا الذين ما زالوا هناك وراء كثبان الصحاري وكأنهم يتأهبون “كفوارس الانقاذ” بهتافهم الصارم “شرِّقوا” ولا تتلكأوا، فميعادكم عودة و”غربكم” سيبقى قريبًا.
“التجارب مسنّات” لكنها ليست كذلك عندنا. يجيء أذار ويروح أذار ونحن، أحفاد الهزائم الصامدين على أرضنا، ما زلنا نواجه أحفاد المغانم. وفي شرقنا بقيت المفارقات رايات تثير حيرة ” اللوز” الذي له عند أبناء “سام” أسماء كثيرة، فهو كمال الغنج في السحر وهو ابتسام القلب في حضن الحبيب، لكنه يدعى عندهم “شكيد” ويطير على قرون “أييلت” وهي “الغزالة” ابنة “ايل”؛ فهل تعرفون، يا عرب، كيف يكون فرح الأيائل في صهيون وكيدهم المر ؟
منذ تولي “اييلت شكيد” لحقيبة وزارة القضاء في حكومة نتنياهو لم تخفِ حقيقة مساعيها لإحراز عدة تغييرات ” ثورية” في جميع البنى القضائية والقانونية السائدة في الدولة. فأعلنت، بدون تأتأة أو مواربة، أنها مصممة على تغيير طواقم القضاة في المحاكم، خاصة في “المحكمة العليا الاسرائيلية”، التي يجب أن تصبح محكمة “محافظة”؛ وذلك في تعبير واضح منها يرمي إلى ضمان إسكانها بقضاة يمثلون بأرائهم ويتماشون مع سياسة الحكومة اليمينية، لا سيما مع سياسة حزب “البيت اليهودي” وهو حزب الوزيرين، بينت وشكيد.
كذلك قادت الوزيرة شاكيد وحزبها حملة تشريع لرزمة قوانين، أهمها ربما “قانون القومية”، وتقدمت في عملية صاخبة وصدامية، استهدفت وتستهدف اقتلاع الهياكل والمفاهيم القائمة واستبدالها بقوام قانوني مستحدث ومتكامل ينظم ويقنن قواعد الفصل العنصري بين المواطنين اليهود والمواطنين العرب، ويخلق واقعًا “قانونيًا” جديدًا يستأثر فيه جميع المواطنين اليهود، وبضمنهم على حد سواء مجموعات المستوطنين، بمواطنة ملوكية عليا، بينما يحشر المواطنين العرب في إسرائيل في ” زرائب” بائسة وهوامش ضيقة ليعيشوا على ذرى الريح وقريبًا من روائح الغبار .
لا يخفي قادة اليمين أهدافهم بل يعلنونها قبل وبعد كل خطوة؛ وما نستشعره في هذه الأيام ينذر بالأسوأ. ومع هذا نعيش نحن حالة عجز مجتمعي خطيرة واستخفاف مقلق بما تقوم به الحكومة وما يُخطط لمستقبل المواطنين العرب في اسرائيل بالتوازي لمستقبل المواطنين الفلسطينيين الذين يعيشون في المناطق المحتلة منذ عام ١٩٦٧.
فوفقًا لمواقف جميع أحزاب اليمين الحاكمة هنالك نية بالاستيلاء الكامل على مناطق ( ب ، ج) المحتلة التي تسكنها عمليًا أكثرية المستوطنين، وفي المقابل إبقاء مناطق (أ) تحت نوع من الحكم الفلسطيني المنقوص وذلك بما يكفل القضاء على مشروع حل الدولتين.
تمشيًا مع هذا المخطط، وتوافقًا مع مفهوم هذه الأحزاب لمكانة أرض اسرائيل، بادرت الحكومة خلال السنوات الماضية إلى إصدار عدد من القوانين التي تعاملت مع مكانة المستوطنين القانونية كمجموعة سكانية إسرائيلية طبيعية متساوية الحقوق والواجبات، وبذلك كشفت، إضافة إلى ما اتخذته من قرارات سياسية أخرى، عن عزمها لضمّ الضفة الغربية المحتلة ضمًا زاحفًا وبطيئًا وهادئًا وشاملًا .
يستمد قادة التيارات اليمينية المتطرفة قوة مما يجري في البلاد العربية والاسلامية، ومن دعم الادارة “الترامبية” المنفلتة؛ وهم، باستشعارهم لوجود فرصة ذهبية لتطبيق مشاريعهم الاستعمارية والعنصرية، لا ينامون قبل أن يضمنوا تقدمهم خطوات نحو أهدافهم المعلنة.
فبما يتكامل مع تلك المخططات قامت الوزيرة شكيد مؤخراً، بإطلاق مبادرة لإصدار قانون تؤخذ بموجبه من المحكمة العليا صلاحيات امتلكتها منذ عام ١٩٦٧.
كانت قضايا التنازع بين السكان الفلسطينيين وبين المستوطنين حول ملكيات الأراضي في المناطق المحتلة من أهم هذه المسائل التي نظرت فيها المحكمة العليا، ومعها عدة قضايا إدارية أخرى – لن يسمح فيها، بعد صدور هذا القانون، للمواطن الفلسطيني التوجه إلى المحكمة العليا، بل عليه أن يتوجه، كمواطن عادي في إسرائيل، إلى محكمة إدارية عادية.
يعامل هذا القانون المواطنين الفلسطينيين ليس كسكان وقعوا تحت احتلال دولة غريبة سمح لهم الاحتلال بخبث “الاستفادة” من “عدل” محكمة أُكسبت صلاحيتها في خطوة وقرار ملتبسين منذ البداية، ومع هذا لم تلتفت إليه قيادات الشعب الفلسطيني إلا بعد خطوة شكيد الأخيرة .
فبعد الإعلان عن التعديل المنويّ إقراره، قرأنا تصريحًا صادرًا عن وزارة ” الخارجية والمغتربين” في السلطة الفلسطينية أدانت بموجبه الوزارة “مصادقة اللجنة الوزارية لشؤون التشريعات في إسرائيل مشروع قانون صاغته وزيرة القضاء الإسرائيلية المتطرفة “أييلت شكيد” الذي بموجبه سيُحرم الفلسطينيون من التوجه إلى المحكمة الإسرائيلية العليا خاصة في قضايا حقوقهم في أرضهم”.
يثير هذا التصريح إشكاليات كبيرة لا سيما أنه تغاضى عن تاريخ ودور هذه “المحكمة الإسرائيلية العليا” على مستويين هامين: فإعطاء الصلاحية للمحكمة العليا الإسرائيلية للبت في تظلمات المواطنين الفلسطينيين المحتلين كان نتاج قرار مدروس من قبل أجهزة الحكم وقبل اندلاع حرب حزيران ١٩٦٧!
من نصح قادة إسرائيل في حينه بالموافقة على تحويل المحكمة العليا الإسرائيلية إلى عنوان لتظلمات الفلسطينيين، علّل نصيحته بضرورة “تثليم” غضب الشعب الواقع تحت الاحتلال وامتصاص نقمته المتوقعة في “ربوع المحكمة العليا” ومصارفها، وذلك كيلا يبقى ذلك الغضب “سيّالا” في شوارع فلسطين أو في ميادين الأمم وهيئات العالم ومؤسساته الدولية. هذا علاوة على إبقاء تلك التظلمات مسقوفة بـ “قبة القانون الإسرائيلي وعدله” ! وإفساح “كوة” لإسرائيل المحتلة من خلالها تستعرض “انسانيتها وكرمها” بفتح أبواب أهم مؤسسة قضائية عندها أمام ” أعدائها” الذين خرجوا لمحاربتها.
سبعون عامًا مضت واستفادت إسرائيل كما كان مخططًا ومتوقعًا، والفلسطينيون فرحوا بما ملكت أيمانهم !
أما على المستوى الفعلي، واذا ما راجعنا دور هذه المحكمة في معظم القضايا المبدئية الهامة والفردية، لوجدنا انحياز قضاتها، على تعاقبهم، الدائم والمنهجي لصالح قرارات الدولة والمؤسسة العسكرية.
كان من واجب قيادات فلسطين اتخاذ موقف واضح ضد التوجه إلى “محكمة الاحتلال العليا” أو وضع محاذير وطنية صارمة لمن وكيف ومتى يتوجهون، لكنهم أعرضوا عن التعاطي مع هذه المسألة ومرّت السنوات عجافًا ” فطبّع” المواطنون المحتلون علاقتهم مع دولة الاحتلال حين طالبوا بإنصاف المغتصَب من فوّهة بندقية الغاصبين؛ والمصيبة انهم فعلوا ذلك بقرار طوعي وبقناعة أنّ “حق الفلسطيني” بالتوجه إلى “محكمة الاحتلال العليا” يُعدّ حقًا طبيعيًا ومكسبًا، حتى صار في يومنا قرار الوزيرة شكيد الأخير بمثابة إلغاء لحقّ، وضرب للمصلحة الفلسطينية. إنها مفارقة آذارية مغضبة ومستفزة .
لم يقتصر الموقف الفلسطيني على بيان إدانة وزارة “الخارجية والمغتربين”، فلقد قرأنا قبل أيام تصريحًا صادرًا عن دائرة “الثقافة والاعلام” في منظمة التحرير الفلسطينية وعلى لسان عضو اللجنة التنفيذية الدكتورة حنان عشرواي أكدت فيه “على أن مشروع قانون إبعاد الفلسطينيين عن المحكمة العليا الإسرائيلية الذي صادقت عليه ما يسمى باللجنة الوزارية للتشريع، يستكمل السلة “القانونية” للاحتلال بتشريع النهب والسيطرة على الأرض الفلسطينية استكمالًا لمشروع قانون ضم الضفة الغربية..”
من الواضح أن هنالك فرقًا بين النصّين؛ مع ذلك يصف بيانُ المنظمة، ولو بلُغة حذرة، قرار اللجنة الاسرائيلية “بالإبعاد” وذلك في اشارة إلى خطوة اسرائيلية مجحفة تحرمه من ممارسة حقه، وبلغة خالية من التطرق الى دور المحكمة العليا وموقف المنظمة من توجه الفلسطينيين اليها .
لقد دعوت مرارا إلى ضرورة إعادة النظر في التوجه إلى “محكمة الاحتلال العليا” ولا أعرف متى سيتمّ ذلك أو ربما لن يتمّ، فالوزيرة شكيد وحكومتها سيقومون بمهمة كنس الفلسطينيين وظلال حقوقهم من أروقة تلك المحاكم وحصرها بين نعال الجنود وبطاقات “التفرقة العنصرية”.
حكومة إسرائيل ستبقى كتلك “الهيدرا ” التي في الأساطير، تضربنا وتضربهم، وعلى الرغم من ذلك أخالني أننا، المواطنين العرب في إسرائيل، ما زلنا كأجدادنا “طيبين وحالمين فلم نر الغدَ يسرق الماضي- طريدته ويرحلُ”.
أما حان الوقت أن تفيقوا وتصدّقوا حدسكم؟
جواد بولس