يعيشون في “جيروزاليم” ويحلمون في القدس
تاريخ النشر: 24/03/18 | 10:41مقدمة …. القدس وهي في لغة الأعاجم “جيروزاليم” كانت وما زالت أشهر مدينة في العالم. معظم البشر، حتى اولئك الذين لم يزوروها في حياتهم يحملون صورتها ويحتفظون بها في صدورهم أو أشعارهم أو خيالهم؛ مع هذا لو سبرنا أجسادهم بأشعة كاشفة لحصلنا على عدد أشكال لها تساوي عدد من أخضعوا للتجربة، فهي هيولية كابنة الأساطير ومشتهاة كلعاب المعجزات، وهي الفريدة كالشهوة، إنها قاهرة الملوك وحارقة قلوب العذارى.
قدسنا، نحن المتكئين على أكتافها، فكرة جامحة خارجة على التاريخ، وعذوبة راسخة في قصص الغيم. كلما غمزنا خاصرتها تأوه الفجر وصحا خدام هياكلها، فاتركوها غافية عند عتبات السماء ولا توقظوا الجن في أحشائها.
أكبر من ضريبة أرنونا، …. لم يترك لي صاحبي فرصة للسؤال، كان هائجًا وصوته يندفع كمطر في كانون. استلم في الصباح تحذيرًا من بلدية اوشليم/القدس التي تطالبه بدفع ضريبة “الأرنونا” والا ستفتح ضده دعوى قضائية في دائرة الإجراء البلدية.
يسكن عزمي في بيته منذ أكثر من عشرة أعوام، ولم تطالبه البلدية خلالها بدفع هذه الضريبة، لأن العمارة التي يسكنها مع سبع عائلات فلسطينية لم تكن داخل مسطح المدينة بل عدّت منذ لحظة بنائها كمنطقة تابعة لأراضي الضفة الغربية المحتلة.
بعد استفساراته العديدة تبين له أن البلدية “استجابت” لطلب قدمه اليها عدد من جيرانه في العمارة ووافقت على تغيير الحدود، القائمة والمرسمة منذ العام ١٩٦٧، تغييرًا طفيفًا بحيث أصبحت البناية “بقدرة قادر” داخل حدود البلدية؛ وتبين له كذلك أن الغرض من تقديم جيرانه الفلسطينيين للطلب كان رغبتهم بدفع ضريبة “الأرنونا” لبلدية أورشليم/القدس وذلك في مسعى منهم للحصول على صك غفران احتلالي يشهد أنهم مواطنون مقدسيون وذلك كي لا يتم طردهم ألى ما “وراء الحلم” ورميهم في فلسطين، أو حرمانهم من حقوق “مواطنتهم” المدنية أسوة بباقي إخوانهم الفلسطينيين المقدسيين أصحاب الهويات الزرقاء.
أنهى صديقي محادثته الغاضبة سائلًا مني النصيحة، فهو كفلسطيني من عرب ال ٤٨ ومواطن يحمل الجنسية الإسرائيلية، ليس بحاجة لهذه الوثيقة ويرفض دفع ضريبة لا تستحقها بلدية المحتل، عدا عن قناعته بأن سلوك المقدسيين في هذه المسألة ينم عن تنازل كبير واستسلام لسياسة إسرائيل الرامية إلى سلبهم حق السكن في مدينتهم والبقاء في وطنهم كمواطنين يعيشون تحت احتلال اجنبي، وأضاف، قبل أن يقفل المحادثة، إنه فوجئ بمرارة عندما اكتشف خلال معركته الصغيرة مع البلدية أن أعدادًا من المقدسيين تنازلوا عن جنسياتهم الفلسطينية بعد أن حصلوا على جواز سفر وجنسية اسرائيلية.
سمعته يتوعد البلدية، ويشتم في نفس الوقت هذا الزمن الذي وصلت فيه “قدسنا” الى هذه المهزلة والمذلة.
القضية أكبر من بلدية ولكن! …. لقد تذكرت قضية الأرنونا والمجنّسين من شرقي القدس، بعدما ناقشت في مقالتي السابقة فكرة ما اذا كانت بلدية اورشليم/القدس تبحث عن رئيس عربي؟ ونفيت الفكرة بتلقائية كما كان ينفيها كل فلسطيني منذ انتهاء حرب ال ١٩٦٧، وقلت اذا كان ذلك موقف الفلسطينيين دومًا فهو اليوم، في هذه الظروف الترامبية، أوجب وأبدى، لأن مشاركة المقدسيين بانتخابات بلدية تعني قبولهم لسيادة دولة الاحتلال على مدينتهم. مع هذا أقلقتني قصة صديقي والأرنونا.
فهي، على رمزيتها المتواضعة، تعكس واقعًا معقدًا نما وتطور خلال خمسين عامًا من ممارسات إسرائيلية استهدفت نزع القدس عن فلسطينها وانهاك سكانها بشتى السياسات وأصناف التنكيل والترهيب وبعض الترغيب كما سنشرح لاحقًا.
والقصة دليل، بالمقابل، على أن ما تفعله معظم الشخصيات الفلسطينية، وهي على الأغلب لا تفعل كثيرًا، لم يعد كافيًا لدرء احتمالات سقوط المدينة الكبير؛ وهي كذلك مؤشر على أن اعتكاف قادة المواقع في معابد المواقف التقليدية لن يقدم للسكان المأزومين مخارج تمكنهم من الصمود كما صمدوا في سنوات النضال السابقة.
فبعد نجاح اسرائيل بتقطيع وتغيير وتشويه جغرافية القدس الشرقية الداخلية وهدمها لمعظم نقاط التماس بين شرق المدينة وغربها، نراها تحتفل مؤخرًا بمحوها لمجموعة قرى كاملة كانت تقف كأقمار فلسطينية تحيط وتحمي عروسها – فبيت حنينا وشعفاط وعناتا والولجة وجبل المكبر والعيساوية وبيت اجزا وبيت اكسا وجبع وبير نبالا وغيرها أصبحت جميعها مجرد أحياء صغيرة تشبه السجون وتعيش على ضفاف شرايين اسفلتية فخمة تخدم عشرات آلاف المستوطنين الذين حاصرت مستوطناتهم خواصر المدينة من جهاتها الأربعة.
وبعيدًا عن الجغرافيا دأبت اسرائيل على تنفيذ سياسة افقار السكان العرب وتعمدت ابقاءهم عند حافة القلق والخوف، لكنها، إلى جانب ذلك، فتحت، بخبث وبشكل مدروس وممنهج “صنابير بركة ” أنعمت من خلالها على بعض الفئات الصغيرة من مرقة الدولة وخيرها.
من لا يقر كيف نمت وانتعشت تلك الفئات على طاولات “المؤسسة الحاكمة” لا يرى بعيون فلسطينية. إنه تغلغل إسرائيلي لافت أنتج “جيشًا” من المستفيدين المباشرين والمرتبطة مصالحهم مع مفاعيل دولة الاحتلال ومؤسساتها.
ما يقلق في هذه الظاهرة هو ظهورها كتطور طبيعي يحصل في نهايته “المواطن الفلسطيني” على حقه من اسرائيل المحتلة في الحياة الكريمة والتقدم العلمي والانخراط في سوق العمل والتجارة وغيرها، وقد يكون ذلك من حقه وصحيحًا خاصة بانعدام بدائل وطنية شافية أخرى، لكنه في نفس الوقت يخلق داخل المجتمع الفلسطيني جيوبًا من “المنتفعين” الذين يشكلون بصمت حقولًا من الالغام التي تقف كوابح في وجه أي تحرك شعبي نحو امكانية بناء جبهات عريضة للعمل ضد سياسة اسرائيل القمعية.
علاوة على ذلك، فقد يكون أشد خطرًا من تفشي تلك “الجيوب المعرقلة” هو عدم وجود قيادة وطنية مقبولة كمرجعية موثوقة وحكيمة وقادرة على رسم استراتيجية مقاومة ناجعة ومؤثرة ولذلك لا يوجد في المدينة تخطيط وطني فلسطيني شامل وملموس، بل كان كل ما شهدناه طيلة سنوات عبارة عن ردات فعل موسمية لا سيما عندما مس الفعل الاسرائيلي قضية دينية أو عقائدية، كما تجلى ذلك في الوقفة الأخيرة على عتبات المسجد الأقصى.
لم تغب أهمية التخطيط عن بال القيادة الوطنية المقدسية في عصر الراحل فيصل الحسيني وما زال الكثيرون يتذكرون كيف بادر هو ومجموعات من المهنيين الى اطلاق مشروع وطني كبير عندما أنشأ عدة فرق عمل قامت بعملية مسح شاملة لجميع قطاعات الحياة في المدينة مثل: الصحة والتربية والتعليم والسياحة والرياضة والشباب والمرأة والعمل والرفاه الاجتماعي ومؤسسات المجتمع المدني، ووضعت في حينه، خلاصاتها وتوصياتها في قوالب مهنية ووطنية. فالقضية في القدس لم تكن يومًا رئيس بلدية فحسب !
قطاعات في مهب الريح ،
كان أهم ما استهدفته خطة فيصل الحسيني هو اخراج الفلسطينيين في القدس من حلقات ردود الفعل ودفعهم صوب واجهات الفعل والمبادرات الخلاقة وذلك لحماية المجتمع من التصدع والانهيارات ولتحصين أفراده من محاولات الابتلاع والاغواءات الاحتلالية واستشرافًا لمستقبل الحرية والاستقلال.
رحل فيصل. نجحت اسرائيل باغلاق “بيت الشرق” وعشرات المؤسسات المدنية الأخرى. أحكم الحصار على المدينة. حرثت أسرائيل معالم الرصاص وشوهت وجه “البهية”. غابت القيادات عن خيمتهم، وفي شوارع المدينة نتأت طفيليات قاتلة بدأت تحكي باسم وطن وهمي في النهار وتبيع ترابه في الليل.
واسرائيل، التي ابقت أهل القدس على حافة القهر والفقر والقلق، فتحت بعض طاقات الأمل ليرقد على همزاته من سيضعون بيض أحلامهم في سلات التساوق مع سياسات الاحتلال وممارسة رحلة “الانهزام المحترم”. صار ما خططه الفيصل خرافة وهباء ودفن المشروع الكبير. بدأت اسرائيل تبتلع القطاعات، قطاعًا تلو القطاع، بعصاراتها وحوامضها؛ فلا الصحة بقيت فلسطينية واسألوا، إن جهلتهم، صناديق المرضى الاسرائيلية ومئات الأطباء العاملين فيها والصيادلة، ولا التربية والتعليم نجيتا من “شواقل” الوزارة ومخالب بلدية الاحتلال وإن فاتكم ذلك اسألوا المعلمين والمدراء والمفتشين، ولا السياحة “قامت” في باب الخليل وباب حطة وإن لم تسمعوا فاصيخوا سمعكم للصدى وهو يصرخ موجوعًا في “ساحة عمر”.
قضية القدس أكبر من بلدية، فأين كنتم حين كان الناس يحلمون في النهار بخبزهم و”قدسهم” وفي الليل ينامون في أحضان “قيصر” الذي كان وما زال حاكمًا لأورشليم.
جواد بولس