رمضان في “باب السور”
تاريخ النشر: 30/05/18 | 8:36“باب السور” هو الحي الذي ولدت به ذات شتاء من عام 1967 يجتمع هذا الحي من” السويقة” كما تجتمع الأحياء العربية الشعبية على مبدأ الكدح بشرف وعلى الحميمية والبساطة والعفوية وعلى حب فلسطين وتتبع أخبار المقاومة، في الليل حين كنا نسمر نجتمع حول الراديو حيث لم ندخل بعد عصر الكهرباء لنستمع إلى تلك النبرة المتحدية من المذيع في صوت فلسطين صوت الثورة الفلسطينية وهو يشيد ببسالة الثوار لا يزيد آباؤنا المنفعلون بنبرات المذيع وأخبار الثورة على القول: ربي ينصرهم، تحيا فلسطين !
احتوانا حي باب السور ببيوته العربية الحجرية وقرميده العربي وأزقته الضيقة أطفالا وشبابا وشيوخا وعجائز بين كل بيت وبيت نافذة صغيرة هي همزة الوصل بين البيوت يمر من تلك النافذة الطعام والسؤال عن بعضنا والإعلام بآذان المغرب في رمضان والإمساك لم نعرف “المسحراتي” كما عرفته مدن عربية عديدة ولكن تلك النافذة الصغيرة هي المسحراتي تقول أمي لجارتنا: سحور، سحور، فلا تزيد الجارة على القول: يبقي عليك الستر.
إذا مررت في باب السور ذات رمضان من ذلك الزمن العربي الشامخ أذهلتك الجلبة، الصراخ، الفرح بقرب موعد الإفطار عودة الفلاحين بثمار البساتين وتوزيعها على أهل الحي، قرب الماء التي تملأ في المساء خصيصا للإفطار، وضع المشروب الغازي في الماء ليبرد فقد كنا لا نملك ثلاجات لأننا ما دخلنا عصر الكهرباء، رائحة” الشربة” المنبعثة من كل بيت وأواني الطعام المتبادلة بين كل بيت فالتضامن حاضر ولا تكتمل الفرحة إلا بتبادل الطعام أما الشيوخ الذين يجتمعون في بطحاء باب السور يتسلون عن السجائر والسعوط يمزحون ويعبثون بأحدهم ممن عرف بغضبه فيرد بالتحيات المباركات:- تفطرني سيدنا رمضان تخرجني على عقلي فينفجر الجمع ضحكا مما يأتيه ذلك الشيخ فيقوم وعمامته تسقط وهو يجمع برنوسه المغبر ورذاذ فمه يتطاير !.
ظل سي عبد الباقي في جماعة السويقة “سرة الحي” يبيع الزلابية التي يحضرها من المدينة حضوره بسلعته يضفي على رمضان طعما خاصا قليل الكلام، ثقيل الحركة وصاحب صبر عجيب وهو يبيع بالحاضر والمؤجل.
في رمضان يتو ب لصوص الحقول عن سرقة الحقول يصلون حتى التراويح.
ولكن لا مناص من المزاح بأحدهم :- صائم على ضرسة وفاطر على خمسة فيقسم الآخر بأغلظ الإيمان والله العظيم صائم وتائب ويفتح فمه ليري لسانه ويري الطاعن في صيامه لسانه المبيض !.
كان آباؤنا يحرصون على أدائنا صلاة التراويح حتى نتذكر ما نحفظه من القرآن الكريم فقد كنا نداوم على الكتاب حتى في رمضان لكن للطفولة شقاوتها ومرحها فهذا صبي عابث يحضر بقندورته ويتوضأ على عجل لا ليصلي ولكن ليأتي أفعالا مضحكة وليقلد أصوات حيوانات فيطرده شيخ من الصف وسط مقاومتنا الشديدة للضحك، يغيب ليال حتى ينساه الجميع ثم يعود ليأتي نفس الأفعال والأصوات ويلقي نفس الزجر والطرد.
حين الفراغ من أداء التراويح يجتمع أولئك الشيوخ ذاتهم في ساحة الجامع للسمر في حين تجتمع النسوة في البيوت للسمر هن أيضا حتى السحور يحضر الماء البارد والسجائر والسعوط في جلسة أولئك الشيوخ وتحضر الفكاهة والمرح:- غلبني اليوم كية السعوط والعطش وزدتم أنتم علي أحلف باليمين لا أجلس معكم ولكن أعود، آآتشم آآتشم. الحمد لله
– يرحمكم الله
– تهرجني في النهار وتترحم علي الآن؟
وينفجر الجميع ضاحكين.
على أن مرحنا كأطفال كان ليلة “الختمة ” حيث يختم الإمام والمصلون القرآن الكريم وحين الفراغ من الصلاة توزع الختمة وكانت من التمر أو من التين على المصلين على جميع الأطفال ويرسل إلى البيوت وله طعم خاص وتقديس كبير عند أمهاتنا فهي ختمة رمضان.
غيب الموت أولئك الشيوخ وكبرنا نحن واحتوتنا المدن في الداخل والخارج وتطورت الحياة بسرعة رهيبة وتكفلت التقنية بإبادة كثير من عاداتنا الجميلة في كثير من المدن العربية اختفى المسحراتي وفي بعضها مازال يقاوم ومن الواجب الحفاظ عليه كتراث ثقافي واختفت النافذة الصغيرة بين كل بيت من بيوت باب السور فالهندسة الحديثة تبتر كل حبل سري وتغلق كل واحد على عالمه .
بقدر ما نسعد بالرفاهية التي تقدمها لنا الحضارة والتطور العلمي بقدر ما نفتقد إلى البهجة والعفوية والحميمية.
هل هو نوع من النوستالجيا؟
كلا ولكننا أخطانا الطريق في كثير من المراحل حين ظننا أن كل ما تقدمه التقنية لنا معوض لنا عما نفتقده من خصوصياتنا وتلك مشكلتنا الكبرى.
إبراهيم مشارة – كاتب جزائري