بين غزة وحيفا يمّ ومثقفون وحلم
تاريخ النشر: 09/06/18 | 2:16ما زالت حدود غزة مع إسرائيل تشهد نشاطات كفاحية وفعاليات احتجاجية، بدأت عمليًا في الثلاثين من آذار المنصرم وتستمر تحت شعار “مسيرة العودة” إلى فلسطين. وفي المقابل دعت أطر حزبية وهيئات شعبية مختلفة الجماهير إلى متابعة التظاهر في حيفا، التي شهدت يوم الجمعة الفائت حدثين محليين، برزت قيادات الجبهة والحزب الشيوعي على رأس الأول منهما، أما نشطاء “الحراك الشبابي” وقادة حزب التجمع فتصدروا صفوف الثاني.
ولقد كُتب الكثير، وخاصة في وسائل “التراشق الاجتماعي”، حول الدواعي لإجراء مظاهرتين في نفس المحيط الجغرافي ومن أجل نفس الأهداف، كما أُعلنت على ألسن جميع النشطاء. ويبقى التباين الجوهري بين موقفي الجهتين الأساسيتين المنظمتين سبب ذلك الشقاق منتصبًا هناك على سفوح الكرمل كما كان منذ سنين؛ فالجبهة الديمقراطية والحزب الشيوعي ساروا تحت شعار يعلن “من حيفا إلى غزة ومن غزة إلى حيفا” ؛ أما قادة حزب “التجمع” ونشطاء “الحراك الشبابي” فساروا في ظل شعار يعلن “من حيفا إلى غزة ، وحدة دم، ومصير مشترك”.
يظهر الفرق بين النصين بشكل واضح ويعكس فكرين مختلفين، لم تنجح المجاملات بجسر ما بينهما من هوات سياسية ولا بتذليل الفوارق الأيديولوجية أو “تعليبها” كرمى لعيون غزة التي باسم جراحها خرجوا جميعهم إلى الميادين ومن أجل عودة أهلها إلى ديارهم ساروا في الشوارع.
للحقيقة نقول إن قادة حزب التجمع يدافعون عن فكرهم بشكل متواصل ويعكفون دومًا على مرافقة أنشطتهم الميدانية بنشر مواقفهم الفكرية والنظرية التي تشكل حاضنة لتلك النشاطات وبوصلة لوجهتها.
ففي الخامس من حزيران تطرق الأمين العام السابق لحزب التجمع السيد عوض عبد الفتاح في مقالة بعنوان “الهزيمة..والخطاب العصيّ على الهزيمة” إلى ما يعتقد أنها الأسئلة الكبيرة التي ستبقى أمام منظمي مسيرات العودة وهي حسب اعتقاده كالتالي: ” كيف نتقدم؟ وما هي مقومات استمرارها؟ وبأي أشكال تستمر؟ .. ” ، فكلّها ، برأيه، أسئلة كبرى يجب التعاطي معها والإجابة عليها.
لكنّه يدعو، قبل ذلك، إلى ضرورة الاتفاق على ماهية الإطار الذي سيهيكل حراك هذه المسيرات وعلى طبيعة الخطاب الذي سيوجهها، وقبل أن يحزم أمره يتساءل “هل سيكون خطاب الهدنة أم خطاب الدولتين ؟ خطاب الدولة الفلسطينية المستقلة أم خطاب التحرر الوطني وحق تقرير المصير لكافة تجمعات الشعب الفلسطيني؟ أم ندفع باتجاه حسم الأمر باتجاه الدولة الفلسطينية الديمقراطية في فلسطين التاريخية؟”
كلام في منتهى الوضوح وموقف لا غموض فيه، فعوض عبد الفتاح، شأنه شأن كثيرين من رفاقه في الحزب، يعبّر عن هدفه السياسي النهائي، وهو أقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية في فلسطين التاريخية، ويدعو إلى اعتماد ذلك كخطاب يرافق المظاهرات وجميع الأنشطة الموازية في مواقعنا لأنه يؤمن كذلك “أن هذا الخيار الاستراتيجي بات جزءًا من اهتمام طلائع الأجيال الجديدة من مثقفين ونشطاء وقادة أحزاب وفصائل سابقين”.
لن يستطيع عوض عبد الفتاح ودعاة هذا الخيار إعطاء الأدلة العلمية حول نجاح مروّجيه باستمالة “طلائع الأجيال الجديدة من مثقفين وغيرهم” إلى صفوفهم ، فأعداد المشاركين في مظاهرات حيفا ومثيلاتها في المدن والقرى العربية لم تتجاوز بضعة مئات، وهي بلا شك أقل عددًا من “طلائع المثقفين” المنخرطين في مؤسسات الدولة التعليمية والتشغيلية والصناعية والهايتيكية الكبرى، وأقل بكثير من آلاف المواطنين المؤلفة التي ربطت مصالحها الحياتية في أحبال سرر الدولة، خاصة بعد انحسار أدوار الأحزاب والحركات السياسية التقليدية الموجودة بين الجماهير العربية في إسرائيل وبضمنها حزب التجمع طبعًا .
واذا اعترفنا بأن ما جرى ويجري في غزة، رغم الخسائر البشرية، شكّل محطة هامة في نضال الغزيين ضد حصارهم المقيت وضخ في عروق القضية الفلسطينية جرعة من حياة وأمل؛ علينا أن نقرّ، بالمقابل، أن ما جرى ويجري في حيفا بحاجة إلى دراسة وتقييم؛ فهنالك فرق بين رفع شعار العودة، من باب الحقوق الفلسطينية المقرة دوليًا، ودعوة الجماهير إلى التضامن مع غزة من أجل رفع الحصار عن أهلها ، وبين إخضاع هذه المظاهرات لخطاب “إقامة الدولة الديمقراطية في فلسطين التاريخية” من دون تقييم وقعه وتأثيره على الأكثرية اليهودية وعلى عنصرييها المستوحشين، وذلك من دون الانتقاص من حق من يرفعه وإخضاع فعله للمحاسبة الشعبية.
فالمجتمع العربي في إسرائيل يتعرض لمؤثرات سلبية عديدة وفي مقدمتها سياسة الدولة الإقصائية القمعية وعنجهية قادتها التي توحي بوجود خطة لتطفيش الجماهير العربية أو لإعادتها إلى عدمية وجودها كما حاولوا فعله بعد النكبة.
وما تقوم به “إسرائيل الجديدة” تجاه مواطنيها العرب قد يفضي إلى زجّهم مجددًا في ” المربع الأول” كي يعيشوا في “فضاء نكبوي” سيخلق حالة من “المواطنة المستحيلة” قد تجبر بدورها الأجيال العربية الجديدة إلى خوض مواجهة مع واقع جديد بوسائل جديدة ومن أجل أهداف جديدة.
فإذا استمرت سياسة التدجين والحصار من جهة والإقصاء من جهة أخرى، وإذا أمعن غلاة اليمينيين في سحب شرعية وجود المواطنين العرب ومعاملتهم كالغرباء وكالأعداء، وإذا لم تدرك القيادات العربية حقيقة وخطورة ما يتشكل حولها، وإذا لن تستدرك سبل تفادي الصدام الكبير مع الدولة وأجهزتها؛ سيصبح احتمال انفجاره قريبًا وعواقبه ستكون على الجميع وخيمة؛ خاصةً ونحن نرى ما تعيشه أجيال اليوم من حالة ضياع داخلية وفقدانها لحيزات الأمان الشخصي والأمن المجتمعي ومعاناة أفرادها من تصدعات في مركبات الهوية.
من السابق لأوانه التكهن عما سيتمخض نتيجة لكل ذلك؛ فقد ينشأ جيل جديد يستسهل عملية الذوبان في الجيوب التي سترتقها الدولة خصيصًا لاستيعابهم؛ وقد ينمو، في المقابل، جيل لن يجد أمامه طريقًا إلا تلك التي ستوصله إلى نهاية المنزلق ، وعندها سيواجه بنفسه أكبر الأسئلة وأخطرها، خاصة إذا لم يكن في ذلك “المربع” متسعًا لجميع الخراف أو للقابضين على “ميم” الحلم.
ما زالت طريق غزة إلى حيفا طويلة، بيد أن طريقنا، نحن من حيفا إلى غزة قد تكون أقصر وأقرب مما نتصور؛ فعسانا قبل استباقنا لمواجهة “يوم الدين” أن نراجع حساباتنا وتجاربنا، ونحاول أن نتخيل كيف يرانا العالم ونحن نتظاهر في ذكرى العودة ؟ وكيف يشعر اليهودي أو يرى اليهودي الصهيوني زحف الآلاف من غزة صوب عسقلان والمجدل وبئر السبع؟ وفي نفس الوقت كيف تفكر أجيال اليهود الجديدة وهي تقرأ شعارات مواطني الدولة العرب مرفوعة في شوارع حيفا وتجزم “أننا وغزة في وحدة دم ومصيرنا مشترك” ، وأننا نتظاهر ليس من أجل غزة وحسب بل من أجل إقامة “الدولة الفلسطينية الديمقراطية في فلسطين التاريخية”.
واجب جميع الفلسطينيين النضال من أجل إنهاء الاحتلال فأهل غزة ينتفضون ضد حصار وحشي مضروب عليهم منذ أكثر من 12 عامًا، ويرفعون إلى جانب ذلك حقهم بالعودة إلى فلسطينهم.
شاهد العالم ما يجري ووقف أحراره مع غزة ومطالبها؛ بينما قلق اليهود الإسرائيليون مما رأوا وخافوا؛فحالهم،بلا ريب، كحال كل الطغاة حين تخيفهم طائرات ورق الأطفال والذكريات.
وتابع العالم مظاهرات حيفا ومثيلاتها، التي شارك فيها، إلى جانب العرب، قلة من اليهود الديمقراطيين، فوقف أحراره مع حقنا في التظاهر وشجبوا قمع الشرطة وعنفها ضد المشاركين.
وفي نفس الوقت قرأ يهود كثيرون شعار العرب في حيفا وتساءلوا كيف ينادي مواطنو الدولة ومن قلبها لاقامة دولتهم في فلسطين التاريخية ؟
خافوا وربما تمنوا أن يعاد جميعنا إلى “هناك” حيث “بقي الحصان وحيدًا” لتكتمل ، هذه المرة، عناصر النكبة الناقصة.
أسمع في جنبات ميناء حيفا أصداءً قديمة ترددها اليوم “طلائع أجيال المثقفين الجدد” وهي تقول: هذه فلسطينينا وأنتم غزاتها ف”خذوا أساميكم وارحلوا”.
وأسمع فوقها ضجيج “السمور طتشيون” ( نسبة الى عضو الكنيست المتطرف بتصلئيل سمور طيتش) وهم ينشدون من قريب مزامير داهود وصلوات يوشع ويرقصون كالرعود ويغنون: نعم نحن الغزاة المنتصرون، أصحاب وعد الرب وسادة الأرض ولن نكون وجبة غذائكم السائغة يا عرب.
ليل غزة طويل وهو من شوك ووجع، فلماذا يريد بعض “المثقفين الجدد” تحويل ليل حيفا الناعم إلى ذبيحة ؟
جواد بولس