الشموع
تاريخ النشر: 14/09/11 | 7:47لا تخلو مناسبة سعيدة في بيوتنا وحياتنا دون أستخدام الشموع، من أفراح وأعياد ميلاد واسبوع المولود وغير ذلك حتى أصبحنا نرى ديكور المنزل غير كامل ولا يكتمل الا بوجود الشموع بأنواع وأشكال مختلفة ومع ورود وروائح مختلفة.
فمن منا لم يحتفل بيوم ميلاده إلا وكان نور الشمعة رفيقا زمنيا لأفول عام واستقبال عام جديد له، ورغم تطور وسائل الإضاءة الحديثة وتنوعها، إلا أن الشمعة تظل الأجمل والأغنى لمناسباتنا الخاصة التي نزين بها أيامنا وأفراحنا، فلا الأضواء الملونة والكهرباء المشعة قادرة علي خلق حالة الألفة التي تخلقها الشمعة، وهي وسيلة إنارة قديمة ورغم قدمها مازالت تشع في كل مناسبة فرح وفي كل بيت يتوج مولد أبناءه، وفي حين الحاجة للإنارة إذا حدث وخذلتنا الإنارة الحديثة.
نوع من الترف .. هكذا كان يعد استخدام الشمع في الإضاءة قديما ؛ لارتفاع ثمنه، ولاعتياد الناس على تقديمه أو حمله في المواكب والاحتفالات. وكان يباع بالوزن، واشتهرت إصبهان بإنتاجه، وكانت تحمل في جملة خراجها السنوي إلى السلطان ألف رطل منه. وكانت الشموع تُصنع حسب حاجة المشترين طولاً وضخامة ووزناً، كما تنوعت أنواعها وتلوّنت بألوان شتّى.
وكانت قبل الإسلام ترافق المواكب الكنَسية أو تُهدى للمعابد، وقد استخدمها بعض ملوك الحيرة في موكبه كما استخدمها الحكّام الأمويون. فكان يُمشى بين أيديهم بالشموع الطوال التي قد يصل طول الواحدة منها ثلاثة أشبار (قرابة 60 ـ 70سم) ويتجاوز وزنها (ستة أرطال(، مثل الشمع الذي كان يُمشى فيه بين يدَي يزيد بن عبد الملك. ويذكرون أن الوليد بن يزيد اتخذ الشموع الغلاظ المنوية (التي يبلغ وزنها الرطلين).
وكان للشموع أنوار كالمصابيح والقناديل تجمعها مجموعة في إطار واحد أو اثنين أو ثلاثة. وتثبّت الشموع فيها بأشواك أو بركائز، ويمكن في هذه الحالة تعليقها في المعابد وغرف القصور.
أما الشموع المحمولة فكانت تحتاج إلى الشَّمعِدان التي تمتدّ من الوعاء الصغير الذي يحمل شمعة واحدة إلى الشمّعدان ذو الفروع المتعددة، وكان الشمعدان يصنع من الحديد والنحاس والبرونز والذهب والفضة، كما أنها كانت تصنع من الخزف. فالرشيد ليلة بنى بزبيدة أمر بحمل الشموع بأنوار من الذهب. وفي عرس المعتضد على قطر الندى كانت الأنوار من الفضة وواحد من الذهب.
بَيْد أن الإضاءة بالشموع لم تكن بعد قد شاعت، فكانت مجالس الخلفاء والكبراء والطبقة الميسورة وليالي المساجد الكبيرة هي التي تضاء بالشموع منذ العصر الأموي، لأنه يكلف أضعاف الأسرجة. وقد قطع عمر بن عبد العزيز أرزاق الشمع عن ولاة بني أمية، ولمّا طلب أبو بكر محمد بن محمد بن عمرو والي المدينة منه معاودة إطلاق هذه الأرزاق شَهَره وأمره ألا يعاوده في هذا الأمر.
غير أن استخدام الشمع انتشر وزاد بعد ذلك في جميع أنحاء العالم الإسلامي من المشرق إلى الأندلس، بعد أن كثرت وتنوعت صناعته منذ أواخر القرن الثاني.فكان الرشيد يطلب مِن حاجبه أن يستكثر من الشموع إذا انتظم مجلس السَّمَر في قصره ببغداد. وكان الأفضل الجمالي يعقد مجلس سَمَره على النيل والشموع تزهر بين يديه. ومحمد بن محمد بن نصر في غرناطة كان السمر والمجالسة عنده في كنف الشموع . ونجد في ما بقي من أخبار نفقات الخلفاء والمساجد علي الشموع زهيدة إذا قيست بمقدار ثرواتهم وما ينفقون، فقد ذُكر أن المتوكل ـ وكان مشهوراً بالإسراف الشديد وبناء القصور الكثيرة ـ بلغ مجموع ما أنفقه على الشموع في السنة مائتي ألف درهم، في حين كان ثمن الشمع والزيت ـ للأسرجة ـ زمن المعتضد ستة دنانير وثلثي الدينار سنوياً. وحين عُيّن (ابن الفرات علي بن محمد) للوزارة زمن المقتدر سنة 304هـ زاد ثمن الشمع قيراطاً في كل مَنّ، لأن كل مَن جاءه مهنئاً ما خرج إلا وفي يده شمعة منوية، ودرج منصوري (ثوب).ولكن الوزير علي بن ـ عيسى وكان مقتصداً ـ أمر متولّي زمام نفقاته أن ينقص ما يصرف للفرّاشين من الزيت والشمع؛ لأن الليل قد نقص ثلاث ساعات.ولكن هذا كله لا يدل على أكثر من الحرص في النفقة، فالتجار الصغار والميسورون كانوا يجدونه بسهولة ويستخدمونه بسبب كثرة استيراده، حتّى صارت له أسواق خاصة في المدن الإسلامية كسوق الشمّاعين في القاهرة، وكان يباع فيه في كل ليلة من الشمع بمال جزيل.
وكان شهر رمضان موسماً عظيماً فيه؛ لكثرة ما يُشترى ويُكترى من الشموع الموكبية التي تَزِن الواحدة منها عشرة أرطال فما دونها من المزهّرات العجيبة الزيّ المليحة الصنعة، ومن الشمع الذي يُحمل على العِجل ويبلغ وزن الواحدة منها عشرة أرطال وما فوق ذلك. ومثله سوق الشمّاعين في الرباط، وسوق الشمّاعين في بغداد. وكانت الأسواق تؤمر بإيقاد الشموع في الاحتفالات السلطانية؛ فقد أمر الحاكم الناس بالوَقيد سنة 394هـ فتزايدوا فيه في الشوارع والأزقة، وزُيّنت الأسواق والقياسر بأنواع الزينة، وأوقدوا الشموع الكبيرة طول الليل، وكثر وقود المصابيح في الشوارع والطرقات، وأمر الناس بالاستكثار منها وبكنس الطرقات وحفر الموارد وتنظيفها.
جاء في كتاب الوقوف الذي وقفه الحاكم على الجامع الأزهر سنة 400هـ وجامع المقس والجامع الحاكمي ودار العلم فيما يتعلق الإضاءة وحدها 7 دنانير ثمن نصف قنطار شمع ودينار واحد ثمن مشاقة لسراج القناديل وربع دينار ثمن ملح للقناديل.وكانت نفقات الإنارة في مسجد بغداد في القرن الخامس في شهر رمضان ثلاثة دنانير وثلثاً.ويظهر من هذا كله أن تكاليف الإضاءة بالشمع لم تكن مرتفعة، فقد بلغ ثمن القنطار منه سنة 545هـ حسب بعض المصادر ما بين 17 ـ 19 ديناراً، وبلغ في بعض المصادر الأخرى عشرين ديناراً، وباع شمّاع في تلك السنة خمسة أرطال بسعر يتراوح بين دينار ودينار ونصف الدينار.
والمقريزي يؤكد أن ثمن عشرة أرطال شمع زمن المعزّ دينار ونصف الدينار، أي حوالي ثلاثين درهماً.وحين كان سعره يزيد ـ كما في أول وزارة ابن الفرات ـ قيراطاً من الذهب، فهذا يعني حسب البلاد درهماً واحداً وبعض الدرهم أو أقل من ذلك.وهكذا كانت الإضاءة بالشموع متوفرة وممكنة، وبخاصة لذوي البسطة واليسار. أما الشموع المكلفة فكانت ثلاثة أنواع:
أ- شموع الشمع العادي الضخمة
التي يصل قطرها إلى ما بين 30 ـ 50 سم، وصغيرها يعرف بالمنوية. وكانت توضع في المساجد على جانبي المحاريب، وتزيد في الطول على قامة الإنسان، وفي الوزن على قنطار، وتسمى بالمجلسية. وقد توضع في الميادين العامة أو تُجرّ على العجل في الاحتفالات الكبرى كليالي الوقود.وقد أمر الحاكم مرة فسُبكت له ستون شمعة وزن كل منها سُدس قنطار مصري. وقد أهدى السلطان السلجوقي طغرل بك إلى امبراطور الروم سنة 448هـ/1015م هدية من اللؤلؤ والصيني والأثواب وغيرها وفيها مائه قطعة أنوار فضة بشمع موكبي كبار.والسلطان قلاوون أشعل أكثر من 1500 شمعة مركبية فرحاً بقتل خصمه أحمد بن هولاكو. وابنه خليل حين عاد من الشام أمر أهل الأسواق بالخروج لاستقباله وفي يد كل منهم شمعة موكبية.
ب- الشموع الكافورية , وهي غالية الثمن بسبب مزجها بالكافور ورائحته الزكية.
ج -الشموع العنبرية, وهي الممزوجة بمادة العنبر، وقد رأى ناصر خسرو واحدة ضخمة منها، قال: «ورأيتُ في قبة الصخرة شمعة ضخمة يبلغ ارتفاعها نحواً من سبعة أذرع يصل سُمكها إلى ثلاثة أشبار، أشد بياضاً من الكافور مخلوطة بالعنبر، تملأ المكان برائحة العنبر الفواح عندما تضاء. ويقولون إن سلطان مصر بعث هذه الشمعة مع ما اعتاد إرساله كل عام من الشموع الكثيرة النادرة».
وكان بعض الموسرين يوقد شمع العنبر ليلاً، وفي عُمان يذكرون أن يوسف بن الوجيه العماني كان يوقده في مجالسه. أما في الأحوال العادية فكان الشمع هو ضوء الخلفاء وغيرهم. وقد ذكر الشابشتي في «الديّارات» أن زبيدة زوجة الرشيد أوقدت ثلاث شمعات من العنبر في عرس المأمون على بوران، فلما كاد الحفل أن ينتهي قالت لجواريها: إن فيما ظهر من المروة والكرم الكفاية، ارفعوا شمع العنبر وهاتوا الشمع.
وشموع الكافور والعنبر كانت تختص بالاحتفالات الكبرى كأعراس الملوك والوزراء، وهي التي استعملت في أعراس الرشيد والمأمون والمعتضد، فأوقد الأول لزبيدة شموع العنبر، وأوقد المأمون في عرس بوران شمعة عنبر فيها أربعون منّاً في ثور من الذهب . وزاد المعتضد حين تزوج قطر الندى فأوقد أربع شمعات من العنبر في أربعة أتوار من الذهب كانت محفوظة في خزانة الخلافة.
وكان ثمة أنواع أخرى من الشموع كالموكبية ، وتكون طويلة ثخينة القطر وقد تُحمل على العجل) والفانوسية (وهي صغيرة للفوانيس) والثلاثية (المثلثة الذبالة) والطوّافة( التي يطاف بها في البيت).