لا تتركوا الصناديق وحيدة
تاريخ النشر: 16/03/19 | 8:12أصدرت “حملة- المركز العربي لتطوير الاعلام الاجتماعي”، تقريرًا لافتًا تطرّقت فيه الى ارتفاع في منسوب التحريض والعنصرية الإسرائيلية عبر الشبكات الاجتماعية خلال العام 2018 وذلك بالمقارنة مع معطيات العام 2017، حيث تزامنت ذروة التحريض فيه خلال فترة تشريع قانون القومية وهجوم المحرضين على العرب بأشكال لم يسبق لها مثيل لا من حيث العدد ولا الكثافة ووقاحة المجاهرة وخطورتها.
اقترح على جميع المعنيين مراجعة تقرير “حملة” وقراءته بعين فاحصة عساهم يستدلون من معطياته على بعض المؤشرات التي قد تدفع بهم الى اعادة نظرهم في مواقفهم السياسية، لا سيّما عند من ينادي بمقاطعة الانتخابات البرلمانية المقبلة، وخصوصًا من انضم منهم إلى تلك النداءات محتجًا أو مستاءً أو منتقدًا أو معاقبًا قيادات الاحزاب العربية جراء “تصرفاتهم” خلال أزمتيّ المناوبة ومحاولة استعادة تشكيل القائمة المشتركة.
لقد تبيّن من التقرير بأن وتيرة كتابة منشور تحريضي ضد الفلسطينيين في العام 2018 كان بواقع كل ست وستين ثانية (بينما كانت وتيرة ذلك في العام 2017 كل احدى وسبعين ثانية) في حين وصل عدد المنشورات التي تضمنت دعوة لممارسة العنف ضد الفلسطينيين الى (474،250) منشورًا .
تعاطت نصف هذه المنشورات مع مواضيع سياسية مباشرة، كان معظمها موجهًا ضد أعضاء الكنيست العرب وضد أحزابهم؛ هذا علاوة على تخصص بعضها بالهجوم على شخصيات اعتبارية واعلامية يهودية، كما حصل مع مذيعة الأخبار المشهورة “أوشرات كوطلر” وغيرها.
لا يمكن اهمال هذا الواقع من قبل من ينادي بضرورة مقاطعة الانتخابات أو من يقوم بتتفيه أهمية المشاركة السياسية للمواطنين العرب، وبالغاء دور النضال البرلماني وشطبه كرافد هام، وليس وحيدًا، يتعدى كونه ممارسة لحق مدني هام وعاكس لمكانة المواطنين داخل الدولة، فوجود عدد وازن من البرلمانيين العرب والديمقراطيين اليهود يجب أن يبقى هدفًا نسعى الى تحقيقه كاقلية تكافح من أجل بقائها على وطنها ومن أجل المحافظة على شرعية وجودها وعلى وجود مؤسساتها القيادية التمثيلية السياسية والأهلية والمدنية.
على قلة الأصوات اليهودية الديمقراطية سيبقى وجودها بالنسبة لنا، نحن المواطنين العرب في اسرائيل، بمثابة الضرورة الملحّة، ويبقى واجبنا، كما قلنا مرارًا، أن نفتش عنها وأن نتواصل ونتعاون معها ؛ فصوت واحد من هذه الأصوات يسبب زلزلة داخل المجتمع اليهودي أكبر من بعض بيانات الشجب الصادرة عن الجامعة العربية، ويعيد الى عرض الشارع عناوين حاول اليمين وزبانيته على مدار الساعة لسنين أن يمحوها من الذاكرة الجمعية وأن يردمها كالحطام المنسي.
فبعد الانتهاء من مشاهدة مقاطع الفيديو لخمسة جنود إسرائيليين وهم يعتدون بوحشية مقززة على والد فلسطيني وعلى ابنه أثناء اعتقالهما، علقت مذيعة الأخبار في التلفزيون الإسرائيلي، أوشرت كوطلر، وعلى الهواء مباشرة وقالت ” يرسلون الأولاد للجيش ويستعيدونهم وحوشًا بشرية، هذه هي نتيجة الاحتلال” .
لم تمض دقائق معدودة حتى انهالت على كوطلر آلاف التهديدات والتعليقات ومن بينهم كان رئيس الحكومة بنيامين نتياهو الذي نشر على صفحته تعقيبًا قال فيه ” أنا فخور بالجنود وأنا أحبهم وأقوال كوطلر جديرة بكل الشجب”.
لقد تزامنت قضية كوطلر مع تعقيب أطلقته مذيعة وعارضة أزياء اسرائيلية شهيرة أخرى اسمها “روتم سيلع” فهذه وبعد ان استفزتها أقوال الوزيرة ريچيف حول مكانة المواطنين العرب في البلاد صرخت متسائلة على الملأ “متى، بحق الجحيم سيصرّح واحد من هذه الحكومة بأن دولة اسرائيل هي دولة لكل مواطنيها، فلقد ولد جميع البشر متساوين، والعرب هم أيضًا من بني البشر” .
ومرة أخرى هبت جموع الظلاميين ضد هذه الشابة، وهاجمت فيالق الافك والعنصرية أقوالها، وتدخل مجددًا نتياهو ليؤكد أن إسرائيل ليست دولة لكل مواطنيها بل هي دولة لليهود، ولهم فقط؛ فمرت على إسرائيل غيمة شوّشت على يمينييها صفاء بطشهم وهيمنته، واستفاق، بالمقابل، زملاء لسيلع وشرعوا في الدفاع عنها وعن مواقفها وبرز من بينهم مذيع آخر اسمه آسي عازار ، فنشر على موقعه معلنًا: “لقد فتحت روتم سيلع أمس البوابة، وعلى جميعنا الآن أن ننضم إليها وأن نتوقف عن الخوف من الكلام”.
سيمر الكثيرون على هذه التفاصيل دون اكتراث، وسيتلقفها البعض، كما يجيد ندافو الكلام وحرفيّوه، باستهزاء وبإهمال؛ فمقاطعة الانتخابات عندهم أمر من علٍ، وواجب من كبروا ليرووا ” لمن يرثون بنادقهم سيرة الدم فوق الحديد”.
النقاشات حول هذه المسألة لم تنقطع منذ عقود ولم تتغير محاورها ومضامينها بخلاف وتائر حدتها من جهة، ومن يقف وراءها ودوافع من يروّج لها من جهة أخرى؛ فعلاوة على من تمسّكوا بالمقاطعة المبدئية، مباشرةً بعد اسدال ستائر “النكبة”، لرفضهم التعاطي مع ” قلعة بناها جنود يوشع بن نون من حجارة بيوتهم”، سنجد مجموعات جديدة قد انضمت لهم لكنها لا تأتلف معهم على نفس الدوافع العقائدية ولا تسعى مثلهم لتحقيق ذات الأهداف المعلنة أو المضمرة، وقد نجد منهم من يخدم ، بدهاء وبمزايدات وبخديعة، أجندات غريبة ومعادية لحقوقنا، السياسية والمواطنية على حد سواء .
من المؤسف أن يخضع هذا الخلاف في وجهات النظر الى ذات المؤثرات الصوتية المزعجة والاتهامات الهابطة والمتبادلة بين الفرقاء، فعلى ما يبدو، لم ولن يتحرر من شبّ على ثقافات تخوين المختلف من سطوة جيناتها حتى في بعض القضايا الخلافية التي يجب معاجلتها بمسؤولية فائقة وبنضوج فكري يليق بمستقبل أقلية مهدد وجودها بشكل واضح وملموس.
لا يستطيع أحد التقليل من شأن من يؤمنون عن عقيدة وبقناعة ويمارسون بمفهومية مبدئية حقهم بمقاطعة الانتخابات النيابية ؛ واذا كان هذا الحق مكفولاً للأفراد فهو كذلك حق مكفول للأحزاب وللحركات السياسية والدينية، إلا أن هذه، خلافًا لحالة الأفراد، مطالبة بشرح دوافعها السياسية الحقيقية للناس وكيفية درء تبعات مواقفها على مصالح الجماهير وعلى مكانة حقوقهم ؛ وفوق هذا كله وقبله عليهم أن يكشفوا عن رؤاهم البديلة التي يقترحونها في سبيل تنظيم علاقات المواطنين بأجهزة ومؤسسات الحكم في دولة يجاهر معظم قادتها بعزمهم على اقصاء مواطنيها العرب وعلى الغاء مكانتهم القانونية الفردية والقومية.
وتبقى التجربة بين ممارسة الحق بشكله المطلق وبين المنفعة المتأتية من جراء تلك الممارسة فيصلًا، فمستقبلنا ومصالح عامة الناس، مثلها مثل كبرى القضايا الانسانية، لم تخضع عبر التاريخ إلى قوانين العدل المطلق، ولا الى جوهر الحق الخالص وبراءة الشعارات، مهما كانت هذه مقدسة أو واضحة. من مثلنا ، نحن أبناء الشرق، قد عانى من عربدة ذلك التاريخ وعهره ومن ابهار الشعارات وسرابها ؛ فهل سنمضي، مرة أخرى، نحو هاويتنا ونصنع من “جماجنا لعزنا سلما” .
سأكرّر ما قلنا في الماضي مرارًا ولا بأس من التذكير، فلقد انتصرنا ببقائنا على أرضنا وهكذا نجونا من نقمة الخيام؛ ولقد أفشلنا مخططات تذويبنا أو تهجيرنا باصرار آبائنا على عدم استذواق سمّي الخنوع والمخاتلة؛ ولقد فوّتنا على قادة اسرائيل فرصة تنفيذ احلامهم بحكمة وبرفض البقية الباقية للاقصائيْن، الذاتي أو المفروض عليهم، فتحوّلنا من بقايا نكبة الى كيان صامد، ولم يكن هذا ممكنًا لولا سياسة “الواقعية الكفاحية” ووقوف بعض اليهود الديمقراطيين مع حقوقنا.
لقد استفزت أقوال العنصريين الأخيرة رئيس الدولة رؤوبين ريفلن والذي، رغم انحداره من أصول يمينية جابوتنسكية ، تصدّى، مرة أخرى، لأقوال نتنياهو وزمرته فصرح قائلًا “نقول بصوت عال وواضح انه في الأونة الاخيرة بينما يطغى الفكر السياسي على كل منطق عرفناه ظهر خطاب غير مقبول تجاه المواطنين العرب في اسرائيل” ثم تابع مؤكدًا أن”لا يوجد مواطن من درجة أولى ولا يوجد ناخب من درجة ثانية، فجميعنا متساوون أمام صناديق الاقتراع عربًا ويهودًا”.
مواقف هؤلاء اليهود لافتة وهامة.
مقاطعتنا للانتخابات والبقاء في بيوتنا لن يفيدنا، والتمترس وراء الشعارات البراقة لن ينقذنا من الجحيم، والجلوس عند حافة البئر سيبقينا ننتظر “ذلك الغد الطائش وهو يمضغ الريح في ليالي الشتاء الطويلة”؛ ومن لا يصدّق حكمة الهزيمة فليسأل ذلك الحصان، لماذا تركوه وحيدًا.
جواد بولس